شدّ الرحال إلى القدس الشريف

المكانة الخاصة للمسجد الأقصى وبيت المقدس فى قلوب العرب ثابتة لا تتغير، وهى مكانة كان يقرها النبى -صلى الله عليه وسلم- عندما شرع للمسلمين اقتبال بيت المقدس فى الصلاة، لكنه كان يودّ غيرها، ويتوق إلى اقتبال البيت الحرام. ويبدو أن بعض العرب كانوا يحتارون فى الأسبقية الزمنية لبناء المسجدين، وربما ظن بعضهم أن المسجد الأقصى أسبق فى البناء من المسجد الحرام، وقد أكد له النبى بإجابة قطعية أن البيت الحرام أسبق، وهو ما يؤكده القرآن الكريم: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ». وبلهجة قطعية صارمة ساوى النبى -صلى الله عليه وسلم- بين جميع المساجد، وحذّر من تفضيل بعضها على بعض، يتأكد ذلك فى قوله: «..ثم حيث أدركت الصلاة فصلّ فكلها مسجد». النبى -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم حالة المنافسة القائمة بين المسجدين، نظراً لمكانتهما فى وجدان العربى، بل وفى الوجدان الشخصى للنبى -صلى الله عليه وسلم- نفسه، لكن الرابطة الروحية الأساسية التى ما فتئ يؤكد عليها، هى الرابطة التى تصل المسلمين بالبيت الحرام، وهى استدعاء جديد لفكرة الهيمنة العقائدية، ليس من خلال الكتب السماوية التى نص القرآن على هيمنته عليها، ولكن أيضاً من خلال شكل من أشكال الهيمنة المكانية التى تجعل من الكعبة مقدساً مكانياً مهيمناً على ما عداه من مقدسات.

كان ثمة حكمة بليغة وراء هذا التوجه النبوى، نستطيع فهمها إذا أخذنا فى الاعتبار أن بعض المسلمين لم يترددوا فى الحج إلى بيت المقدس عقب وفاة النبى صلى الله عليه وسلم. ويحتار القارئ لكتب التراث وهو يتوقف أمام حكايات ومواقف متناقضة ترويها حول موقف خلفاء النبى -صلى الله عليه وسلم- من مسألة شد الرحال إلى المسجد الأقصى، كما تشد الرحال إلى البيت الحرام. دعونا نستشهد فى هذا السياق بمواقف متناقضة تحكيها كتب التراث عن موقف عمر بن الخطاب من هذه المسألة. يذكر كتاب «كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال»: «عن سعيد بن المسيب قال: استأذن رجلٌ عمرَ بنَ الخطاب فى إتيان المسجد الأقصى، فقال: اذهب وتجهّز فإذا تجهزت فأعلمنى، فلما تجهز جاءه فقال له عمر: اجعلها عمرة، قال ومر رجلان وهو يعرض إبل الصدقة فقال لهما: من أين جئتما؟، قالا: من بيت المقدس، فعلاهما بالدّرة، وقال أحج كحج بيت الله، قالا: إنما كنا مجتازين». يبين ما يحكيه سعيد بن المسيب أن «عمر» تبنّى موقفاً صارماً من هذا التوجه الذى ظهر بين آحاد من المسلمين بالترخص فى قصد المسجد الأقصى، كما يقصد البيت الحرام. فى المقابل من ذلك يحكى «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» موقفاً مناقضاً يذكر فيه: «ويقال إنه -يقصد عمر بن الخطاب- لبّى حين دخل بيت المقدس، وصلّى فيه تحية المسجد بمحراب داود وصلى فيه بالمسلمين صلاة الغداة من الغد». ولفظ «يقال» الذى استخدمه «ابن كثير» يجعلنا نتردد فى قبول روايته، فكيف نقبل منطقياً أن يلبّى عمر وهو داخل إلى بيت المقدس وكأنه على أبواب مكة؟.

نستطيع أن نقرر أن المسجد الأقصى كان له مكانة فريدة فى الوجدان العربى، قبل وبعد بعثة النبى صلى الله عليه وسلم، وكان له مقام رفيع فى نفوسهم، ورفعوا مقام زيارته إلى ما يشبه الحج أو العمرة. ومع إجلال النبى للمسجد الأقصى، وارتباطه بحادثة نبوية شديدة الأثر فى حياته الشريفة، وفى حياة المسلمين، وهى حادثة الإسراء والمعراج، إلا أنه كان يأبى على المسلمين رفع الأقصى إلى مقام «البيت الحرام»، وهو الأمر الذى يدعو إلى التفكير فى الحديث المنسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ويقول فيه: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى».