«الوطن» ترصد قصة الظهور الأول لـ«الألماس» فى مصر

كتب: رحاب لؤى

«الوطن» ترصد قصة الظهور الأول لـ«الألماس» فى مصر

«الوطن» ترصد قصة الظهور الأول لـ«الألماس» فى مصر

لم يكن العالم الجيولوجى المصرى الدكتور على بركات، يعلم خلال رحلة سفره الشاقة إلى تلك النقطة البعيدة قرب الحدود المصرية الليبية، أن رحلته ستنتهى به إلى كشف علمى عظيم من شأنه أن يغير نظريات نشأة المجموعة الشمسية، وأن يظل حديثاً للعلماء حول العالم طوال 22 عاماً، منذ تاريخ الكشف وحتى الآن. داخل السيارات المحملة بالمؤن والمعدات العلمية، كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، وسط ظروف جوية صعبة، بدت البداية سهلة من نقطة الانطلاق فى منطقة الأهرامات بالجيزة، إلا أن الرحلة التى تستغرق أسبوعاً كاملاً من السير فى الصحراء، كانت تبدو لهم أصعب كلما اقتربوا من نقطة الوصول، بالقرب من الحدود الإدارية لمحافظة الوادى الجديد جنوب غربى مصر.

المسافرون كانوا أفراد البعثة المصرية الإيطالية للمسح الجيولوجى، والسبب كان استكشاف منطقة الزجاج الليبى، ضمن دراسات جيولوجية وجمع للملاحظات بالمنطقة.

{long_qoute_1}

كانت البداية فى مايو عام 1991، حيث قطعت البعثة رحلتها الأولى إلى المنطقة التى تحوى آثاراً للزجاج الليبى، لم تسفر الرحلة الأولى عن الكثير، لكن المنطقة بدت واعدة بحيث تكررت الرحلة مرة أخرى فى أبريل عام 1994، حيث قررت المجموعة العودة مرة أخرى خلال فصلى الصيف والشتاء عام 1996، حيث كانوا على موعد مع الكشف العلمى العظيم «حجر هيباتيا» الذى مثل الظهور الأول لحجر الألماس بمصر، فى مفاجأة لم تبد قابلة للتصديق وقتها. أجواء لم تكن تنبئ بشىء يذكر للجيولوجى الذى يعترف: «فى البداية كنت أخاف، فأنا رجل ككثيرين ثقافتى تتضمن حكايات عن العفاريت والجان والثعابين السامة، ما جعلنى أنظر للبيئة كمصدر خطر على حياتى، لكن عملى كجيولوجى جعلنى أتعامل عن قرب مع البيئة التى اطمأننت لها كثيراً فأعطتنى الكثير بالمقابل».

رحلات مقصودة خلال ظروف بيئية صعبة، تضمنت عواصف رملية كثيراً ما حجبت الرؤية، أثناء عمل الفريق على تسجيل حركة الكثبان الرملية، فضلاً عن المرور الإجبارى فوق بحر الرمال الأعظم، مسافات سير طويلة انتهت بهم فى المرة الأخيرة إلى التيه طوال أربعة أيام فى الصحراء: «نزلنا من الكثبان وحبينا نخرج معرفناش الطريق».

يتذكر وقتها المخاوف العديدة التى راودته، والنجاة التى جاءت بالصدفة البحتة، وكيف استحال خوفه مع مرور السنوات لأمنية يكررها من وقت لآخر: «أتمنى الموت فى المنطقة الأحب والأقرب لقلبى، أندفن هناك ويتعملى نصب تذكارى قريب من الأمير كمال الدين حسين، أول شخص اكتشف الجلف الكبير فى عشرينات القرن الماضى».

{long_qoute_2}

خلال عمله فى تلك الرحلة الأخيرة للمنطقة، التى استغرقت شهرين، فى نوفمبر وديسمبر عام 1996، يتذكر لحظة العثور على الحجر المعجزة، الذى بدا له غريباً للغاية حين لمحه من بعيد، «كان على الأرض مدفوناً جزئياً، ظننت للوهلة الأولى أنه قطعة «تكتيت» (مصطلح يشير للمكونات من الزجاج الطبيعى التى تنتشر على الأرض وفى الترسبات بقاع المحيط) لكن الفحص الميدانى الدقيق أثبت أنه يختلف عن «التكتيت»، وإن كان لم يسفر عن توضيح حقيقة المادة المكتشفة التى اعتبرتها مادة غريبة، وقمت بجمعها وتخزينها بعناية خاصة تمهيداً لفحصها بالتفصيل».

مع الوقت بدأ المزيد من المفاجآت يتكشف للباحث الدؤوب الذى بدا أنه عثر أخيراً على أثر لاصطدام نيزك بالمنطقة، استغرقه الأمر ثلاث سنوات من الدراسة والتحليل قبل أن يعلن عن اكتشافه رسمياً عام 1999، معتبراً الحجر الذى يحوى الألماس الدليل الأقوى على تأثر المنطقة باصطدام نيزك.

فى البداية بدا حديثه غريباً للكثيرين، حيث أنكر باحثون الاكتشاف، على اعتبار أن أحداً لم يعثر قط على ألماس بتلك المنطقة، التى لا تحتوى إلا على نتوءات من أحجار رملية، بلا أى أثر لاختراق نارى حدث بالمحيط، فى ذلك الوقت، كان تأثير اصطدام النيزك بالمنطقة نفسها بعيداً عن الحسابات، ولتجنب الانتقاد تم إخضاع المادة للدراسة بالتفصيل، بعد تقسيمها إلى قطع صغيرة وإرسالها إلى معامل عديدة ببلاد مختلفة، كإيطاليا وجنوب أفريقيا، فضلاً عن مصر، حيث تمت دراسة الأجزاء المسحوقة تحت المجهر وبالأشعة السينية فى كل من قسم علوم الأرض بجامعة بيزا فى إيطاليا، ومجلس تكنولوجيا المعادن فى جوهانسبرج، وقسم الجيولوجيا بجامعة القاهرة، كما تم مسح إلكترونات الحجر ميكروسكوبياً فى جامعة ويتواترسراند فى جنوب أفريقيا، فضلاً عن إرسال عينة لدراستها بهيئة المواد النووية فى القاهرة، كل هذه الدراسات أثبتت أن المادة تحتوى على أول تسجيل لحبيبات صغيرة من الألماس فى مصر.{left_qoute_1}

أحجار غير منتظمة يغزوها اللونان الرمادى والأسود اللامع، وقد أظهرت الدراسات المعدنية الأولى التى أجراها الدكتور بركات أن المادة تتكون من ألماس والجرافيت والغوثيت، وكالسيات الكوارتز ومواد أخرى، جاء ظهور ألماس فى صورة حبوب صغيرة، شظايا، لكن ظل ظهوره من الأساس فى هذه المنطقة من أهم النقاط المتعلقة بالاكتشاف، حيث إنه لا يوجد دليل واحد على أن المنطقة محل الدراسة أو ضواحيها يوجد بها ألماس بأى شكل، حتى إن أقرب وجود لخام البازلت يقع على بعد 150 كيلومتراً، وبنفس القدر من الأهمية فإنه لم يتم العثور على الألماس فى مصر أبداً من قبل، وبناء عليه -بحسب بركات- فإن الأصل فى وجود تلك العينة الممتلئة بالماس فى تلك المنطقة بالذات، قد يكون ناجماً عن تأثير النيزك، قبل قرابة 28 مليون سنة ونصف، أى قبل ظهور الإنسان.

«أهم وأقدم عينة موجودة فى الكون»، هكذا تم وصف حجر «هيباتيا» الذى تمت تسميته نسبة إلى العالمة والفيلسوفة السكندرية الشهيرة، والذى أعلن فريق بحثى من جنوب أفريقيا فى مقال نشر عام 2015 بمجلة «Geochimica et cosmochimica Acta» العلمية أن الحجر الذى عثر عليه «بركات» يتضمن تراكيب معدنية لم تلاحظ فى المنظومة الشمسية من قبل، حيث أعلن «يان كرامرس» الذى أعد الدراسة أن الأمر المدهش بشأن الحجر هو احتواؤه على ما يسمى بـ«هيدروكربونات العطرية» التى تشكل أساساً لغبار النجوم الذى نشأ حتى قبل نشوء الشمس، ويمكن العثور عليه أحياناً فى داخل بعض المذنبات الجوالة».

الحجر الأكثر غرابة نشأ فى درجة حرارة تقل عن 196 درجة مئوية تحت الصفر، ما يعنى أن موطنه هو حزام كوبير الواقع خارج مدار نبتنون، أو سحابة أورت التى تمتد فى الفضاء بين النجوم، أتى من الفضاء الخارجى إلى تلك النقطة النائية فى الصحراء المصرية قبل ملايين السنوات ليحقق المعجزة «الألماس يوجد فى أستراليا وأنجولا وروسيا وكندا وجنوب أفريقيا وبوتسوانا، حيث لم يسجل منذ فجر التاريخ أى ظهور للألماس فى مصر».

على الرغم مما ذكره العالم الأثرى الراحل سليم حسن فى الجزء الثانى من «موسوعة مصر القديمة» عن أن المصرى القديم لم يعرف أياً من الألماس أو حجر الأوبال أو الياقوت الأحمر، أو الأزرق، إلا أن ثمة دلائل أخرى تشير إلى أن المصريين القدماء أول من استخدم «الماس» فى أدواتهم، بحسب ما جاء فى دراسة بعنوان «Tolansky، S. in Science and Technology of Industrial Diamonds Vol. 2 (ed. Burls، J.) 341 - 349 (Ind. Diamond Inform. Bur.، 1967)»

مفاجأة مدهشة للغاية، الألماس، ذلك الكنز الذى تنعكس مع أضوائه شتى المشاعر، والأحداث، يشعل الحروب، وتزهق الأرواح، بمجرد ظهوره، كما جرى فى سيراليون، حيث استمرت الحرب بسببه 11 عاماً، مخلفة وراءها آلاف الضحايا، فى سبيل «الماس الدموى»، جاء ظهوره ملغزاً فى مصر، يقول الدكتور على بركات «بيئتنا غير مناسبة لتكون الألماس، لذلك بدا الأمر غريباً للغاية حين أعلنت للمرة الأولى عن وجود ألماس بالمنطقة، فالمتداول بين الأوساط العلمية أنه لا يوجد ألماس فى مصر، لعل هذا ما حدا بالبعض للاستخفاف بالمعلومة حين أعلنتها للمرة الأولى، لتأتى أبحاث ثلاث جامعات حول العالم وتؤكدها فيما بعد»، مسألة بدت بديهية لبركات منذ اللحظة الأولى «كنت متأكد إن اللى فى إيدى ألماس، عندى خبرة طويلة فى الثروات المعدنية وتعريف الصخور، لكن لتجنب الانتقادات الداخلية والانتقادات العالمية أرسلت حبيبات من العينة للدراسة فى الخارج».

{long_qoute_3}

جدل بدا منطقياً بالنسبة لبركات: «المعروف أن الألماس يأتى من أعماق الأرض وينقسم على شكل أنابيب غير موجودة فى الصحراء الغربية، لكن من قال إنه مقبل من باطن الأرض، كنت أعلم من البداية مصدره، لم يكن أرضياً، ولكنه كان مقبلاً من مذنب ضرب المنطقة وتسبب فى ظهور الزجاج الليبى، كما أننى وضعت ثلاث فرضيات للطريقة التى تكون بها، فهو إما جاء مع الجسم السماوى قبل سقوطه من خارج الأرض، أو أنه نشأ فى الجسم نفسه جراء الحرارة والضغط أثناء ارتطامه، أو أنه كان كربوناً فى الصخور الأرضية فتحول نتيجة التصادم والضغط إلى ألماس». لا يزال الدكتور بركات يحتفظ بالحجر الأصلى لديه، حيث تجرى الأبحاث حول العالم على «شظايا»، بينما الحجر الأصلى الذى يبلغ وزنه 12 جراماً لا يزال بحوزة العالم «أتمنى عرض تلك العينة الثمينة فى مكان يسهل للباحثين الوصول إليه بدون قيود أو شروط».

يوقن «بركات» أن ثمة المزيد من الألماس فى الصحراء الغربية، ويقول «العثور على عينات أخرى يتوقف على عوامل منها حجم وكميات الماس التى كانت موجودة فى الجسم السماوى، من الممكن أنه كان يحمل كميات من الماس، لا أحد يعلم مقدارها، وحين وقع الانفجار لا أحد يعلم أيضاً إن كان الألماس ظل على حاله أم أنه احترق، لدينا عوامل جوية أرضية قد تكون ساهمت فى تغيير المعالم الخاصة بالمنطقة وأجزاء الجسم السماوى، رؤيتى الشخصية أنه من الممكن العثور على المزيد هناك».

مستقبل واعد يحمله الألماس لمصر عموماً ولتلك المنطقة خصوصاً، لكن هذا ليس كل شىء، بحسب بركات: «حجر هيباتيا يحمل الكثير من الإمكانات الطيبة فى مقدمتها الترويج لخصائص الدولة المصرية، لدينا أقدم قطعة حجارة على وجه الأرض، قادرة على تغيير نظريات الكون المتعارف عليها، قد تعطينا إجابة جديدة وأقرب صواباً لبداية تكون الكون وتفاعلات العناصر مع بعضها البعض، حجر يحمل الألومنيوم الخالص، وهو أمر نادر الوجود، مسألة تجعلنا نفكر فى ضرورة إعادة دراسة الخصائص الكيميائية للعناصر فى بيئات مختلفة، ناهيك عن أن منطقة العثور على «هيباتيا» أصبحت قبلة الباحثين، لإيجاد مزيد من الأجزاء والتعرف بصورة أقرب على الجسم الذى هبط على الأرض قبل 28 ونصف مليون عام، وهل له علاقة بحدث الانقراض أو لا، خاصة أن الجسم الذى نتحدث عنه كان مختلفاً عن كافة الأجسام التى درسناها ولدينا عنها معلومات، يكفى أن أقول إن العمر الأرضى للحجر 28 مليوناً ونصف مليون سنة، بينما العمر التخليقى له أقدم من المجموعة الشمسية ويصل لقرابة الخمسة مليارات سنة!».

* هذا التقرير نشر كجزء من مشاركة الكاتب فى ورشة الصحافة العلمية «الكتابة فى المجال العلمى» تحت عنوان «العلم حكاية» والتى نظمها معهد جوته والهيئة الألمانية للتبادل الثقافى DAAD مصر، وأونا أكاديمى، وهى الورشة المدعومة من وزارة الخارجية الألمانية.

 

 

مكتشف «هيباتيا» فى حقل الاكتشاف

صورة مقربة لحجر «هيباتيا»


مواضيع متعلقة