«وادى النيل» فى قبضة «مافيا السوق السوداء».. والسبب غياب الجمعيات الزراعية

«وادى النيل» فى قبضة «مافيا السوق السوداء».. والسبب غياب الجمعيات الزراعية

«وادى النيل» فى قبضة «مافيا السوق السوداء».. والسبب غياب الجمعيات الزراعية

لا يختلف حال المزارعين فى محافظات الصعيد كثيراً عن حالهم فى الدلتا، فغالبية شكاواهم تنحصر فى سيطرة «مافيا السوق السوداء» على مستلزمات النشاط الزراعى، من «تقاوى وأسمدة ومبيدات»، يحصلون عليها بأسعار خيالية، فى ظل غياب واضح للجمعيات الزراعية، بالإضافة لتدنى الأسعار التى تعرضها الحكومة عليهم لتوريد محاصيلهم، الأمر الذى دفع العديد من المزارعين للإحجام عن زراعة بعض المحاصيل الاستراتيجية، مثل القطن وقصب السكر والقمح، ما يهدد بانهيار الصناعات القائمة على تلك المحاصيل.

ورغم أن أسوان هى أول محافظة تستقبل مياه نهر النيل، وأكثر المناطق التى يعتمد سكانها على الإنتاج الزراعى، فإنها، كغيرها من المحافظات، لا تخلو من المشاكل التى أرجعها المزارعون من أبناء المحافظة إلى عدة أسباب أهمها: ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعى، وتدنى عائدات بيع المحاصيل، الأمر الذى جعل عدداً كبيراً من الفلاحين يسقطون فى براثن الديون، مما اضطر بعضهم لترك الزراعة، والبحث عن مصادر دخل أخرى.

وتتميز أسوان بزراعة مجموعة من المحاصيل، فى مقدمتها «قصب السكر»، وتنتشر زراعته فى مراكز «دراو، وكوم أمبو، ونصر النوبة، وإدفو»، بمساحات إجمالية تُقدر بنحو 82 ألف فدان، بمتوسط إنتاج 8.5 طن قصب للفدان، وهو ما يعنى أن إجمالى إنتاجها يصل إلى 3 ملايين و846 ألف طن، بالإضافة لزراعة محاصيل حقلية أخرى، مثل القمح الذى يتم زراعته على مساحة نحو 58 ألف فدان، بمتوسط إنتاج نحو 690 ألف أردب، ونخيل البلح، حيث ينتشر بالمحافظة أكثر من مليون و133 ألف نخلة مثمرة، ويوجد بها أيضاً العديد من المشروعات الزراعية العملاقة، مثل مشروع «توشكى»، ومشروع «وادى النقرة» بمركز نصر النوبة، ومشروع «وادى الصعايدة» فى إدفو، شمال المحافظة.

{long_qoute_1}

جمال عبدالعزيز، أحد مزارعى القصب بمركز إدفو، تحدّث لـ«الوطن» عن أبرز المشاكل التى يواجهها المزارعون فى المحافظة، وفى مقدمتها ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات، وعدم توافرها بصورة كافية، بالإضافة لارتفاع أجور النقل والعمالة اليومية، وقال: «بصراحة الزراعة مابقتش تجيب همّها، ولو عندنا شغلانة تانية كنا تركناها من فترة كبيرة، لأن مشاكلها كل يوم بتزيد»، ويضرب مثالاً على ذلك بقوله: «أنا مثلاً بأزرع أرضى قصب، وكل حاجة فى الزراعة زادت علينا، أولها الأسمدة، بنشترى الجوال الآن بـ162 جنيهاً، وده سعر الأسمدة المدعمة، وبنستلم 13 جوال فقط للفدان، مع إن المفروض الفدان ياخد من 18 لـ20 جوال، وبنضطر نشترى الفرق من السوق بالغالى، سعر الجوال الواحد بين 230 و250 جنيهاً».

{long_qoute_2}

ويقول على سيد، مزارع آخر من مركز كوم أمبو، إن «كسر القصب» زاد سعره أيضاً، وأضاف: «فى السنوات الماضية كنا بنكسر الفدان بنحو 3500 جنيه، وعمال كسر القصب بيطلبوا الآن ما بين 5 و6 آلاف جنيه للفدان، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المحروقات والنقل، وكل ده بيزود الأسعار».

وفى المنيا شكا عدد من المزارعين، خاصة فى مركزى دير مواس وملوى، من نقص مياه الرى، وحذّر شافعى الخطيب، مزارع، من تلف محصول القصب، وقال إن الشكوى المعتادة فى قرى المركزين هى جفاف المساقى العمومية، واتهم مسئولى الرى بالتسبب فى تدمير المحاصيل، وأكد أن مناوبة الرى لا تصل بالأسابيع، وعندما يتم ضخ المياه فى الترعة الرئيسية يكون منسوبها منخفضاً ولا يساعد المزارعين على رى أراضيهم، ولفت إلى أن المزارعين قدموا عدة شكاوى لمسئولى الرى بعدم وصول المياه، ولكن «لا حياة لمن تنادى».

وأكد «محمد حماد»، من العدوة، أنه قبل نحو 10 سنوات كانت المساحات المنزرعة بالقطن فى محافظة المنيا تقدر بنحو 40 ألف فدان، نظراً للمكاسب التى كان يجنيها الفلاح من وراء زراعته، حينما كانت الدولة تهتم بتسويقه، والآن تحولت زراعته لعبء كبير، لأن أسعار بيع المحصول لا تتناسب مع تكلفة الإنتاج، فعزف عدد كبير من الفلاحين عن زراعته، وتقلصت المساحة حتى وصلت 3 آلاف فدان فقط، بعد أن تخلت الحكومة عن مسئوليتها فى تحديد سياسة سعرية للقطن، مشيراً إلى أنه اضطر للعزوف عن زراعة القطن منذ عدة سنوات، واعتبر أن «السياسات الحكومية هى السبب الأول وراء انهيار زراعة القطن».

وقدم نقيب الفلاحين بمركز ملوى، إبراهيم ربيع، «روشتة» لإنقاذ مستقبل الزراعة والفلاحين، على حد وصفه، تتضمن عودة العمل بنظام الدورة الزراعية بتثبيت وتحديد المحاصيل والمساحات المنزرعة، وتفعيل دور المشرف الزراعى، وتحسين سلالات المحاصيل، والاستفادة بالبحث العلمى فى تطوير الزراعة، بالإضافة لإعادة هيكلة البنوك الزراعية، مشيراً إلى أنها كانت تسمى فى السابق بنوك «التسليف الزراعى»، وتقدم قروضاً للفلاحين بفوائد لا تتجاوز 5%، أما الآن فقد تحولت إلى بنوك تجارية، وتحصل على فوائد مركبة من المزارعين، تصل لأكثر من 30%، كما طالب أيضاً بضرورة التصدى لجرائم التجريف والتعدى على الأراضى الزراعية، وإعطاء الفلاحين دورات فى زراعة المحاصيل الطبية والعطرية التى يمكن تسويقها بمبالغ كبيرة، وتدر دخلاً مناسباً. أما فى أسيوط، فاعتبر المزارعون أن مشاكلهم «عديدة لا تحصى»، إما بسبب نقص مياه الرى، أو عدم توافر تقاوى جيدة، وارتفاع أسعار الأسمدة، وعدم وجود المبيدات، والسوق السوداء، وجميعها من المشاكل التى دفعت العديد من الفلاحين إلى ترك مهنة الزراعة التى توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، هرباً من الديون التى أثقلت كاهلهم، والبحث عن مهنة أخرى تساعدهم على توفير حياة كريمة لهم ولأسرهم. وبدأ «محمد حسين»، مزارع من قرية «النخيلة» بأسيوط، حديثه لـ«الوطن» قائلاً: «إن إنتاج الفدان لم يعد يغطى تكلفة زراعته»، وأضاف: «يعنى الأرض يدوب بتكفى نفسها، وفى بعض الأحيان لا تكفى»، إلا أنه أكد أن «المزارع ليس لديه خيار آخر سوى زراعة أرضه، وإلا تتعرّض للبوار»، مطالباً بعودة الجمعيات الزراعية لممارسة الدور الذى كانت تقوم به قديماً فى توفير كافة احتياجات الزراعة، من «تقاوى وأسمدة ومبيدات وماكينات ومعدات زراعية». وقال «عبدالحليم محمود منسى»، مزارع بمركز ناصر شمال محافظة بنى سويف، بينما كان جالساً على رأس حقله، وبصحبته عدد من المزارعين: «إن المشاكل التى تحاصر الفلاحين تزداد سوءاً يوماً بعد الآخر، وكل يوم فى النازل»، وأشار إلى أنه عقب صدور قانون المالك والمستأجر، فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، بدأت معاناة الفلاحين مع ارتفاع إيجار الفدان، حتى وصل إلى 12 ألف جنيه فى السنة، ونزع بطاقات الحيازة من المستأجر وتحويلها للمالك، وترتب على ذلك عدم قدرة الفلاح على صرف الأسمدة الكيماوية وبذور التقاوى من الجمعيات الزراعية، بينما يتم تسليمها للمالك الذى عادة ما يحتفظ بها ليتصرف فيها بمعرفته، مما يضطر الفلاحين إلى اللجوء للسوق السوداء، وشراء مستلزمات الزراعة بأسعار مرتفعة، بالإضافة إلى سوء حالة التقاوى، نتيجة التلاعب بها فى السوق السوداء، مما يؤدى إلى تلف المحصول أو ضعف إنتاجية الفدان.

والتقط «محمد سعيد»، فلاح، أطراف الحديث قائلاً: «كل البذور اللى فى السوق السوداء والمحلات لا تصلح للزراعة، حيث يقوم التجار بتعبئة بذور حديثة على أنها تقاوى، ولا نستطيع اكتشاف ذلك إلا بعد أيام وشهور من استخدامها، كما أنهم يتلاعبون فى المبيدات أيضاً، وأصبحت عديمة الجدوى، وبنضطر نشتريها لأننا مفيش قدامنا غيرها»، بينما عاد «منسى» ليتابع حديثه قائلاً: «مشاكلنا لم تتوقف عند ذلك، وخلال الصيف نعانى نقص مياه الرى، ما يُحمّلنا تكلفة مضاعفة، حيث تصل تكلفة رى الفدان الواحد لـ70 جنيهاً، غير مجهودنا وتعبنا وشقانا»، مشيراً إلى أنه فى الأيام العادية، ومع وفرة المياه، يتم رى الأرض مرة أسبوعياً، بتكلفة تصل إلى أكثر من 150 جنيهاً، ويضطر الفلاحون لاستخدام عدة ماكينات رى تنقل المياه لبعضها، وهو ما يعرف بنظام «النقال»، أما فى الشتاء، حيث تتوافر المياه، فيتم رى الأرض مرة كل 20 يوماً أو أسبوعين.

وفى الفيوم، اشتكى عدد من صغار المزارعين من نقص مياه الرى وارتفاع أسعار الأسمدة فى السوق السوداء، مؤكدين أن حصولهم على التقاوى والأسمدة من الجمعيات الزراعية يستغرق وقتاً طويلاً، وقال «رمضان على»، مزارع من منطقة «قحافة»، ويمتلك 5 قراريط على الطريق الدائرى لمدينة الفيوم، الذى لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عن المدينة: «نحن هنا أصحاب حيازات صغيرة، ورغم ذلك نعانى من نقص مياه الرى»، مشيراً إلى أن أرضه يتم ريُّها من ترعة «سليمان» التى تحصل على المياه من «بحر يوسف»، ومع ذلك لا تصل المياه إلى الترعة باستمرار، أو يكون منسوبها منخفضاً، مما اضطر العديد من المزارعين لشراء مواتير لرفع المياه، مشيراً إلى أنه يشترى التقاوى من التجار، وليس الجمعية الزراعية «توفيراً للوقت والمجهود»، بحسب قوله، خاصة أن فارق السعر لا يتجاوز 10 جنيهات، أما بالنسبة للأسمدة، فيصرفها من الجمعية الزراعية بموجب الحيازة الزراعية، إلا أن الأمر يستغرق عادة 3 أيام ليحصل على احتياجات أرضه من الأسمدة، بسبب الإجراءات الروتينية.

وأكد نقيب الفلاحين بالفيوم، عبدالسلام أحمد، أن «مشكلة نقص الأسمدة الكيماوية يمكن حلها من خلال شرائها من السوق السوداء»، مشيراً إلى أن فرق السعر لا يزيد على 7 أو 8 جنيهات فى الشيكارة الواحدة، وأضاف أن حل مشكلة نقص مياه الرى تتطلب دعماً من الجمعيات الزراعية، لتطبيق نظم الرى الحديثة، معتبراً أن تحويل نظام الرى من الغمر إلى التنقيط سيحل كثيراً من مشاكل نقص المياه، إلا أنه انتقد غياب دور الإرشاد الزراعى منذ ثمانينات القرن الماضى، وأكد أن منظومة «الكارت الذكى» للفلاح، فى حالة إذا ما تم تطبيقها بشكل صحيح على غرار منظومة التموين، ستحقق الهدف منها بالفعل، وتحل الكثير من المشاكل التى تواجه الفلاحين، خاصة المشاكل المتعلقة بالتقاوى والأسمدة والمبيدات، بالإضافة لحمايتهم من استغلال السوق السوداء.


مواضيع متعلقة