المظاهرات تضم الملايين وتعم 70 مدينة.. وترفع القداسة عن «خامنئى»

المظاهرات تضم الملايين وتعم 70 مدينة.. وترفع القداسة عن «خامنئى»
بين سطوة الحرس الثورى الإيرانى على ثروات الوطن، وتلاعب مرشد الثورة باقتصاد إيران ومقدّرات الشعب، كانت غضبة الملايين الذين خرجوا للشوارع بعفوية بعيداً عن الحسابات السياسية، للثورة على الإصلاحيين والمحافظين وكل من يعاون النظام بلا استثناء.
لم تكن ثورة الإيرانيين الأخيرة تكراراً لانتفاضة عام 2009، كما يتصور بعض المحللين، فالثورة الخضراء، كما أطلقوا عليها، خرج خلالها الإصلاحيون للشوارع معترضين على تزوير الانتخابات الرئاسية إثر فوز «أحمدى نجاد»، وبالتالى اقتصرت المظاهرات على فئة من الشعب الإيرانى ترفع مطلباً سياسياً بحتاً، إلا أن المظاهرات الأخيرة فى أكثر من 70 مدينة إيرانية تشبه تماماً ثورة عام 1979 التى انتهت بسيطرة الإسلاميين على حكم البلاد بعد خلع الشاه، ففى عام 2009 لم تنل غضبة المتظاهرين من مقارّ حكومية ولم تحرق مؤسسات اقتصادية يملكها الحرس الثورى أو الحوزات الدينية، صاحبة القدسية، ما يبرهن على أن الغضب الشعبى يسعى لإسقاط النظام برمته، بعد استعانة الجماهير بشعار «الأمة ضحت للجيش.. الجيش سيضحى للأمة»، وهو ذات الشعار الذى رفعه الإسلاميون فى ثورة 79.
طالما كان الولىّ الفقيه أو مرشد الثورة رمزاً للقدسية، لا يتجرأ عليه أى مواطن أو سياسى معارض ولو بكلمة، نظراً لاعتباره نائباً عن الإمام الغائب، ما أضفى على تلك الشخصية التى جسّدها الخمينى ثم خامنئى، مرشد الثورة الحالى، هالة من القداسة.
{long_qoute_1}
وخلال المظاهرات الأخيرة حرق المتظاهرون صور «خامنئى»، نائب الإمام، وهتفوا بعبارات «الموت لخامنئى.. الموت للديكتاتور»، فى سابقة هى الأولى من نوعها، كما هاجموا بعض الحوزات الدينية وحرقوا مقارها، فى إشارة إلى أن الشعب الإيرانى يسعى لإسقاط الدولة الدينية، ولم يعد يأبه بنظرية الولىّ الفقيه.
تجاهل الغاضبون الوازع الدينى الذى زرعه رجال الحوزة فى عقولهم لسنوات، خلعوا القداسة بمظاهراتهم عن شخصية «خامنئى» حينما دهسوا صوره بالأقدام فى شوارع المدن الإيرانية، الأمر الذى يبشّر بانتهاء الدولة الدينية فى إيران، ولو بعد حين.
المتغيرات الأخيرة فى طهران تفرض تداعيات على الصعيدين الداخلى والإقليمى، تحكمها ثلاثة سيناريوهات، أولها احتمالية سقوط الدولة فى يد الثوار، وهو احتمال ضعيف، وثانيها نجاح الحرس الثورى فى إخماد ثورة الغضب بالقمع والقتل، أما الثالث فيشمل تقديم النظام الحاكم تنازلات لإرضاء الجماهير، ورغم صعوبة التنبؤ بمآلات الثورة الإيرانية وحراك الجماهير فى الشوارع فإن الحالة الراهنة عكست نتيجة هامة جداً على الصعيد الداخلى، مؤداها سقوط نظرية الولىّ الفقيه على الصعيد الشعبى، بعد نزع المتظاهرين القدسية عن رأس النظام الحاكم، لتتحول المعادلة السياسية من «شعب يحكمه رمز دينى مقدس»، إلى «جوعى ومقهورين يواجهون رأس سلطة فاسد»، بعيداً عن المنصب الروحى، وهو ما سيفسح المجال أما الساسة والجماهير الغاضبة للتعامل مع قمع النظام بنشر الوعى بين المواطنين بخطايا النظام وأذنابه على المستوى البعيد، إثر تيقنهم من أن الحكام مجرد مجموعة من الديكتاتوريين يرفعون شعارات دينية مزيفة، ففى الوقت الذى تُسرق فيه أموال الوطن ينفق الولىّ الفقيه أموال الشعب بسخاء على ميليشيات النظام فى سوريا واليمن والعراق ولبنان، ليكون الدافع الأخير مبرراً لاستمرار ثورة الإيرانيين ليس ضد النظام الحاكم فقط ولكن ضد رجال الدين أيضاً. {left_qoute_1}
لجوء النظام إلى سيناريو القمع ونجاحه فى إخماد الثورة لن يُعيد الاستقرار للشوارع الحُبلى بالغضب حتى وإن ركن الغاضبون إلى الاستكانة وعدم التظاهر، وإذا ما استجاب النظام لمتطلباتهم الحياتية أو حتى الإطاحة بالرئيس والحكومة حفاظاً على استمرار الدولة الدينية، وهو أمر صعب للغاية، فى ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية بسبب العقوبات المفروضة على طهران وتراجُع أسعار النفط فى الأسواق العالمية، إلى جانب استمرار استنزاف الاقتصاد الإيرانى فى حروب بالوكالة مكّنت الحرس الثورى من الاستيلاء على أكثر من 40% من اقتصاد الدولة، ولكن حتى وإن نجح النظام فى تقديم تنازلات اقتصادية للجماهير الغاضبة، فإنها لن تُنهى الغضب الشعبى، وستكون بداية لكسر النظام الدينى، الأمر الذى سيؤثر بالطبع على الدعم الإيرانى المقدم لميليشيات إيران فى الشرق الأوسط، وقد يتراجع هذا الدعم بطريقة غير مسبوقة، خاصة بعد نشر الشباب الإيرانى مقاطع فيديو لحسن نصرالله يتفاخر فيها بدعم إيران للحزب ويؤكد أن ميزانيته السنوية تأتى من طهران، وفى حال تراجع الدعم الإيرانى المخصص لحلفائها فى المنطقة، بالتأكيد سيتراجع نشاطها على كل الصعد، سواء الإعلامية أو العسكرية أو الدينية.
أما إذا نجحت الثورة الإيرانية فى خلع النظام الدينى -وهو سيناريو ضعيف لكن ممكن الحدوث مستقبلياً حتى لو تم إخماد التظاهرات- فستشهد المنطقة انقلاباً فى موازين القوى، وهو ما يمثل تداعيات خطيرة على الصعيدين الداخلى والإقليمى، فداخلياً لن يتخلى الحرس الثورى عن حماية الثورة الإسلامية حتى آخر جندى من جنوده، وحينها لن ترضى الجماهير الغاضبة لا بالإصلاحيين أو المحافظين ولا رجال الدين، ليمثل المشهد تصعيداً خطيراً قد يصل إلى الحرب الأهلية، أما إذا رضخ الحرس والجيش للمطالب الجماهيرية، وشرع فى الإطاحة برجال الثورة الإسلامية حفاظاً على بقاء الدولة، وهذا أمر مستبعد، فإن القوة السياسية الوحيدة المؤهلة لتولى الحكم فى إيران هم جماعة «مجاهدى خلق» المعارضة للنظام، وهم من أصول فارسية أكثر عنصرية من النظام الحاكم الحالى، ويعيش معظمهم فى المنفى بعد تنكيل الخمينى بهم عقب الثورة الإسلامية، وحينها لن ترضى الشعوب غير الفارسية التى تمثل أكثر من 50% من تعداد الشعب الإيرانى بحكم «مجاهدى خلق» حتى ولو كانت هناك دعوة للمشاركة فى العملية السياسية، وستلجأ تلك الشعوب إلى المطالبة بالاستقلال عن إيران، وعلى رأسها الأحواز العربية التى تضم حقول النفط والبترول، إلى جانب الأكراد، فضلاً عن حالة العداء التاريخية التى تجمع رجال الحرس الثورى بقيادات «مجاهدى خلق»، الأمر الذى سينعكس على الإقليم المحيط، خاصة بعد دعاوى الانفصال وحق تقرير المصير من الشعوب غير الفارسية، لتتحول تلك المطالب والتوجهات واقعاً فعلياً باستقلال الأحواز العربية وإعلان قيام الدولة الكردية على أجزاء من أراضى العراق وسوريا وتركيا، فضلاً عن تفتت إيران إلى عدة دويلات.
نجاح الجماهير الغاضبة فى الإطاحة برأس النظام أو على الأقل الاستجابة للمطالب الحياتية التى خرجوا من أجلها يتوقف على عدة عوامل، من بينها قدرة الجماهير على الحشد والصمود، قد تمتد لأيام وربما أسابيع، فى مقابل استمرار عمليات القمع للمتظاهرين من قبَل القوات الحكومية إلى جانب محاصرتهم بقرار حجب وسائل التواصل الاجتماعى والتشويش على الاتصالات، فضلاً عن موقف المجتمع الدولى تجاه الاحتجاجات اليومية، الذى لم يخرج من نطاق الإدانة والشجب دون أن يصل إلى خطوات حقيقية لدعم تحركات الشارع، وإذا ما أقدم المجتمع الدولى على دعم منظمة «مجاهدى خلق» المعروفة بقدرتها على حمل السلاح لسجلها السابق فى تنفيذ عمليات مسلحة على الأراضى الإيرانية، فإن الأمور قد تتطور إلى نشوب حرب أهلية فى الداخل الإيرانى يزكيها خصوم طهران فى الغرب وبعض الدول الإقليمية التى تسعى للحد من خطر الفرس فى المنطقة، حيث ستُعتبر الأحداث الراهنة فرصة نادرة لإسقاط الدولة الدينية عن طريق تقديم الدعم للجماهير تحت أى مسمى، بهدف الحد من النفوذ الإيرانى فى الشرق الأوسط.