«أحمد عُبَيْدَة».. احتراق ونهوض «طائر النار» (1-2)

«أحمد عُبَيْدَة».. احتراق ونهوض «طائر النار» (1-2)
- عبيدة
- أحمد
- رياض
- محمد
- مفاوضات
- الكيلو
- كامب
- ديفيد
- ثورة
- سادات
- كتاب
- الغد
- شاعر
- انتحار
- كيسنجر
- شارون
- عبيدة
- أحمد
- رياض
- محمد
- مفاوضات
- الكيلو
- كامب
- ديفيد
- ثورة
- سادات
- كتاب
- الغد
- شاعر
- انتحار
- كيسنجر
- شارون
فى الحوش الفسيح الخلفى من داره الريفية بقرية العَمَار الكبرى، مركز طوخ، بمحافظة القليوبية، انتحر الشاعر المصرى الشاب أحمد عُبَيْدَة، عن عمر 34 عاماً، حرقاً فى يوم من أوائل أيام أغسطس عام 1974.
كان الحَمَام يطير كسولاً بفعل الحرارة والشبع والارتواء، ويحط فوق شجرة الزنزلخت التى ألقت بغصونها على طلمبة مياه حبشية داخل الدار، لقد اعتادت النساء والبنات أن يملأن الأوعية الكبيرة من مياهها الحلوة، وكانت الدار مشرعة للجميع، لكنها الآن فارغة إلا من أحمد عُبَيْدَة والحَمَام والسماء والشجرة، إن روحَه مليئةٌ بالقرار.
{long_qoute_1}
اختار الشِعر الإقامة فى الزنازين، بينما خرج «عُبَيْدَة» حاملاً سجنه إلى العالم، قبل ذلك كان بمقدور طفلة تجمع روث المواشى على الطريق أن تطلق القصيدة من صدره العريض الناهض، صدره الذى تعلوه شعرات كثيفة حادة تطل من فتحة القميص، قوية وقاتمة مثل شوك البرارى. إنه لم يعد يطيق العودة إلى داره، أيامه الأخيرة موزعة فى بيوت الأصدقاء، صارحهم بأنه تَعِبَ من الحياة فحاولوا استبقاءه: «أنت ممتلئٌ بوهم المطاردة، ولا أحد يطاردك»، منعوا عنه كل أدوات الموت: «لا بد أن تعيش للكتابة، للقضية، للأولاد»، ولا أحد يشعر بالحريق الذى يشتعل فى ضميره.
كانت جلسات العلاج بالكهرباء عذاباً فوق الاحتمال، وأقسى من الصعق عملية شحن الضحية مكبلاً بأذرع الممرضين الغليظة، الأذرع التى تعودت قهر أى مقاومة، وضبطها فوق الكرسىّ المُكهرَب، وإرسال الشحنات بدقة إلى رأسها فتنفجر الصرخات.
لقد دمّر ضباط المباحث معنوياته بالسطو على قصائده، كما دمّر أطباء «الخانكة» أعصابه بشحنات الكهرباء الزائدة، لقد سرقوا الشعر من داخله فضاعت الطريق.
{long_qoute_2}
أما ما رآه على الجبهة، عندما تولى ترجمة أحاديث المتفاوضين فى الكيلو 101، فقد كان أبعد من حدود التصوّر، لقد شاهد كيف تكسرت التضحيات الهائلة داخل خيمة التفاوض، وكيف أهينت جيوش عبرت لتحرير الأرض، بالطريقة التى فجّرت فيما بعد دموع الفريق «الجمسى» رئيس الأركان.
عاد الشاعر من الجبهة، لكنه لم يعد للحياة، فما قد يحرّك دموع القائد الميدانى كفيل بدفع الشاعر فعلاً إلى الانتحار، لقد كان أول من رأى المصير، وتحمّل منفرداً محنة أجيال كثيرة ستأتى.
حفَرَ «عُبَيْدَة» حفرة كبيرة فى الفناء الخلفى للدار، وملأها بالكتب والملابس الثقيلة، أعد الكيروسين الذى سيسكبه عليها وعلى نفسه عندما يصل القرار إلى ذروته، حول الحفرة الكبيرة صنع حُفراً صغيرة كالمدار.
على الحائط يقف سلم خشبىّ، أزاح «عُبَيْدَة» السلم ووضعه على الأرض، لقد صار القرار نهائياً، و«عُبَيْدَة» يغلق الباب الذى يفصل الردهة الخارجية عن الحوش المفتوح، ويخلع الجلّابية التى يرتديها، ويبعدها عن الحريق الوشيك، ثم يسكب الكيروسين على العش والجسد العارى ويشتعل.
{long_qoute_3}
يرتفع الدخان إلى سطح البيت المجاور، حيث تجلس الصبية الصغيرة «زين الوادى»، أطلت «زين» من السطوح إلى المساحة المفتوحة المجاورة أسفلها، كان «عُبَيْدَة» يحترق، ألقت الفتاة بنفسها فوق كرة اللهب، يستحى «عُبَيْدَة» من عُريه الذى يتساقط الآن لحماً محترقاً، ويخبّئ عورته المكشوفة بيديه الناريتين، ويصرخ صراخاً مرعباً، يلتقط الجيران صياح الكتلة المشتعلة، فيهرعون إلى الباب الذى يعلوه نقش بارز يشبه زهرة اللوتس.
من يطفئ النار.. من ينقذ الشاعر؟
لفّوا جسمه المحترق، وحملوه وسط نهر البشر الذين تجمعوا فى الزقاق الضيّق، جاءت سيارة الإسعاف، بعد انطلاقها به إلى مستشفى المركز، تخطّف الفتيان كتبه وملابسه وأوراقه المتناثرة هنا وهناك، لقد تقاسموه قبل أن يموت، وكانوا يرون موته واضحاً منذ زمن، ما جرى هو أن القرار تأخر.
هلعٌ يصيب القرية إثر انتحار الشاعر، سعارٌ هائلٌ يحرق ما تبقى من أوراقه، الآباء ينزعونها من الأولاد: «ستهلكون مثله»، صار مصيره شبحاً يطارد الجميع، هو الذى قضى سنواته القليلة يمر مبتسماً فوق الجسور العالية، ويجالس النساء والبنات والرجال على الشطوط وفى الحقول، غير مكترث بهندامه: بيجامة كستور، وشبشب رخيص، وشَعْر غزير أسود هائج، كان بسيطاً ومحبوباً من الجميع، مُلهِماً لجيل من الفتيان والصبايا.
{left_qoute_1}
ما الذى جرى؟
المصائد تطلب الشاعر:
قبل 7 شهور من انتحاره، كان أحمد عُبَيْدَة يقول قصائده فى حشد من الفلاحين بقرية «جنزور» فى محافظة المنوفية، قبل أن تأتى قوة من المباحث، اقتادته إلى قسم شرطة بركة السبع، وصادرت حقيبة أشعاره.
كان الاحتفال ضخماً بما يكفى لإثارة غريزة الأمن التى تراقب وتعتقل وتلفّق التهم، وقد أتوا بشاب من القرية يَدّعى أن «عُبَيْدَة» يقول شعراً يهاجم ثورة التصحيح.
فى قسم الشرطة حاولوا الاعتداء عليه قبل أن يتصدى لهم رفيقه، الشاعر عزت عامر: «لقد سمحوا لكل الشعراء المشاركين فى الندوة بالمغادرة بعد مطالعة بطاقاتهم، كان واضحاً أنهم يريدونه هو».
{left_qoute_2}
اختار «عامر» مصاحبة الرفيق ليواجها الاعتقال معاً: «كيف أتركه وأنا الذى دعوته إلى بلدتى ليلقى بأشعاره؟». تم ترحيل الشاعرين إلى مباحث شبين الكوم، وهناك قضيا ليلة الحبس الأولى، قبل ترحيلهما فى الصباح إلى حجز المديرية ليظلا هناك أسبوعاً، وبعدها انتقلا إلى سجن شبين الكوم.
قضى الشاعران شهرين داخل السجن، لكن جهود الرفاق من المحامين نجحت فى التوصل لإطلاق سراحهما، كانت أدلة الاتهام واهية، وقد تأكد للأمن أن الأمسية لم تكن تحمل تحريضاً من أى نوع ضد النظام.
عاد الرفيقان من جديد إلى حجز مديرية شبين الكوم لإنهاء إجراءات الإفراج، ولدى خروجهما من مبنى المديرية ودّع كلٌ منهما الآخر ذاهباً إلى بلدته. بعد شهور سيجتمع الشاعران من جديد فى منزل أحمد عُبَيْدَة، على مدار ثلاث أو أربع ساعات، كان رفيقه يستميت فى محاولة إقناعه بالعدول عن الانتحار.
ماذا حدث داخل السجن؟
إن «عُبَيْدَة» لم يتعرض للتعذيب على الإطلاق، لقد كان يكتب الشعر بلا توقف، ويبعثر القصائد فى زنزانته وزنزانة الرفيق المجاورة، دون أن يعمل حساباً لإجراءات التفتيش الدورية، وحتى عندما وجدوا القصائد داخل الزنازين، وأرسلوا الرفيقين إلى عنابر التأديب، كان عتاولة السجناء من القتلة وتجّار المخدّرات يتعاملون مع الشاعرين بإكبار واحترام بالغين، كانوا يعتقدون أنهما سيخرجان من السجن مباشرة إلى الرئاسة، لِمَ لا؟ ألم يكن «السادات» نفسه معتقلاً سياسياً فى يوم من الأيام؟ وفى السجن، كان أحمد عُبَيْدَة يقول لرفيقه إن امرأة تأتيه كل ليلة فى زنزانته، امرأة جميلة تكلّمه وتسلّيه: «خمّنت أن الأصوات المقبلة من عنابر السجينات فى المبنى المجاور هى التى جعلته يتوهّم ذلك».
{left_qoute_3}
لكن «عُبَيْدَة» على ما يبدو كان واثقاً مما يقوله: «كان إنتاجه للشعر يأتى من منطقة ما بين العقل واللاوعى، وهو ما كان يميزه عن كل شعراء العامية فى هذا الوقت، سيد حجاب وفؤاد قاعود وعبدالرحمن الأبنودى وغيرهم، ويفسّر أيضاً أن جزءاً كبيراً من إنتاجه لم يكن متماسكاً، كان (عُبَيْدَة) شاطحاً، متماهياً فى فنه، لا يفصل بين شخصيته فى الحياة والشعر، وكان سيّالاً ومتدفقاً فى الكتابة بشكل غير طبيعى، مبيبطلش كتابة، كان يشبه هذا النوع من الشعراء الذين يعيشون على الحافة، هؤلاء الذين لا يميزون ما بين الواقع والخيال.
بعد خروجه من السجن، يذهب أحمد عُبَيْدَة إلى مقر مباحث شبين ليسأل عن حقيبة أشعاره، أخبروه أن الحقيبة سافرت مع الأحراز إلى المقر الرئيسى بالقاهرة، ذهب إليهم مرّة ومرّة ومرّات ليسترد الحقيبة، لكنهم كانوا يصرفونه من المبنى أسيفاً ومخذولاً، ومع كل مرّة كانت رغبته فى الانتحار تكبر رويداً رويداً حتى باتت هذه الرغبة وحشاً هائلاً ينهشه من الداخل: «ذهبنا معاً إلى مباحث أمن الدولة، قلنا لهم إننا نريد حقيبة الشعر، لأن القضية انتهت، لكنهم ماطلونا: «ابقوا فوتوا علينا تانى»، عاودنا الذهاب كثيراً بعد ذلك بلا فائدة، كان لدى «عُبَيْدَة» تصوّر بأن الحقيبة تضم كل الأشعار التى كتبها فى حياته، وهذا ما لم يكن صحيحاً».
ومتى كان فقدان الشاعر لقصائده سبباً كافياً لكى يضرم النار فى نفسه؟ بعض الشعراء انتحروا لأسباب أقل وطأة من ذلك، لكن «عامر» ما زال يحاول إقناع صديقه بأن بإمكانهم أن يجمعوا أشعاره مرة أخرى من الرفاق، كان بعضهم يحفظ القصائد، وبعضهم يحتفظ بنسخ منها، وحتى لو لم يتوصّلوا إلى جمعها، فإن بمقدوره أن يكتبَ قصائدَ جديدةً غير التى صادرتها المباحث، لقد كان وقتها فى قمة تدفّقه: «حاولت إقناعه بكل الطرق، وطوال الحوار، لم يكن يريد أن يعترف بأنه مريض يحتاج إلى العلاج النفسى، ولا أن يتخلى عن فكرة الانتحار».
ربما لم يدرك «عامر»، الشاعر والشيوعى الشاب الذى سيصبح المتهم الأول فى قضية «انتفاضة الخبز» 1977، أن صديقه لم يعد قادراً على إبداع جديد، هو الذى كان قبل شهور يرافقه فى السجن، وشَهِد كيف كان «عُبَيْدَة» يكتب الشعر بلا توقف. يميل «عامر» إلى أن مرضاً نفسياً وراء انتحار صديقه، لقد خضع «عُبَيْدَة» فيما مضى لـ«جلسات كهرباء» فى مستشفى الأمراض العقلية بالخانكة كنوع من العقاب بسبب مواقفه الراديكالية.
لكن «عُبَيْدَة» على أى حال سيعود إلى مستشفى الخانكة مرات عديدة بعد ذلك، لا بمعرفة الأمن، ولكن بأيدى الرفاق والأهل الذين أشفقوا على حاله وهى تسير بسرعة نحو الانهيار، كل ذلك لم يكن كافياً لإقناعه بأنه مريض: «بعد خروجنا من السجن، لاحظت أنه يملأ جيوبه بعلب السجائر كأننا لا نزال رهن الاعتقال، كانت السجائر هى العملة السائدة داخل السجن، قلت له إننا أصبحنا الآن خارج الأسوار، وإن فى استطاعته أن يشترى أى شىء دون الحاجة لأن يحمل معه كل هذه الكمية من السجائر».
لقد حمل السجن معه إلى الخارج، وكم بدت البلاد وقتها سجناً هائلاً.
«نحن جيل مورست عليه من البداية للنهاية كل أنواع العقوبات الجماعية والفردية»، هنا رفيق آخر لأحمد عُبَيْدَة. يتذكر الشاعر، محمد سيف، رفاق النضال القدامى الأحياء والأموات، ويتوقف بالأخص عند مازن جودت أبوغزالة، وأروى صالح، وبالقطع لم يكن الجمع بينهما مصادفة، فالأول استشهد بعملية فدائية فى صحراء النقب، والثانية انتحرت فى القاهرة سقوطاً من الطابق الخامس، استدعى «سيف» شاهدين صارخين على المآسى التى مُنِى بها جيله، لكنه توقف فجأة عن الكلام: «لست أدرى إذا كنتم تعرفون ذلك أم لا؟».
«سيف» يعرف بالتأكيد أن المراحل متصلة الحلقات، وأننا ما زلنا ندفع ثمن الهزيمة القديمة، وها نحن جالسان، يفصلنا أكثر من 40 عاماً، إلى المنضدة نفسها فى مقهى «ستراند»، لكن القهوجى يوجّه التحيّة للأقدم أولاً، للجيل الذى تحمّل العذابات: «لقد عاش هذا الجيل حالات مأساوية عديدة، منها انتحار عُبَيْدَة وثروت فخرى، وموت يحيى الطاهر عبدالله ونجيب سرور فى سن صغيرة، ومن نجا منا فقد نجا بكمية هائلة من الألم، كانت النكسة نقطة فاصلة فى حياة هذا الجيل الذى نشأ معارضاً بطبيعته قبل الهزيمة، هناك بعض الذوات لا تحتمل».
كان أحمد عُبَيْدَة فى قلب الحركة الأدبية فى أواخر الستينات، مثقفاً رفيع المستوى، لا يشبع من القراءة والكتابة، كان مثل «قطار السكة الحديد»، بتعبير «سيف»، مندفعاً لدرجة الجنون أحياناً، لكن حادثة انتحاره فاجأت الجميع رغم ذلك: «لقد خَدَعَنا، كثير من الأشياء المُهمة مثل إجادته للّغات، الإنجليزية والروسية وبعض الفرنسية، وترجماته التى لم تقع فى أيدينا، وكان يحدثنا باستمرار عنها، حرَمَنا منها تصرفه فى حياته بهذه الطريقة».
لكن لماذا اختار «عُبَيْدَة» الانتحار حرقاً؟ يضيف «سيف» سؤالاً آخر: «وهل كان تصرّف أمبيدوقليس بإلقاء نفسه فى فوهة البركان عدمياً؟ لقد عاش «عُبَيْدَة» تصادمات وجدانية عديدة، كان لديه طموح مدمِّر كأنه يسابق شيئاً أقوى منه».
كان «سيف» يتحدث منذ قليل عن تصوّرات «غاستون باشلار» حول «شعرية النار»، التى أرجعها فى الكتاب الذى يعمل على ترجمته حالياً، إلى مبدأ «السمو اللغوى»، لكنّ هناك بالتأكيد أسباباً أخرى لانتحار «عُبَيْدَة»: «قد يعود الأمر إلى رغبة لديه فى القضاء على الذات، البعد النفسى عامل مهم فى حياة أى كاتب، لقد كان شخصاً شديد التوتر، لا يمكن إهمال الجانب الاجتماعى أيضاً، فعُبَيْدَة نشأ فى قرية كادحة، فقيراً يتيم الأبوين».
لكنه تعلّم وأصبح شاعراً، ومترجماً، وعاش فترة من حياته فى قلب الحركة الثقافية، وكان ميّالاً للنضال، محباً للحياة، ومزدهراً بما يكفى لتحصينه ضد الانتحار: «وهل نجحت هذه الأشياء فى أن تقدم له نوعاً من التعويض؟».
من الواضح أن رفاق «عُبَيْدَة» لا يعرفون السبب الحقيقى وراء انتحاره، إن الانتحار فعل يتناقض بالأساس مع فكرة المقاومة، والآن، وبعد أن مرّت السنوات، وأصبح بإمكانهم أن يجلسوا فى استرخاء على المقاهى، ليحكوا الصورة الكاملة للأجيال الجديدة، فإن الانتحار، حتى كفعل احتجاجى، معناه أن هناك من يرى النهايات بوضوح ويحذّر منها، يبدو بالنسبة إليهم أمراً مثيراً للدهشة.
كانوا شيوعيين يحلمون بأن تسود الطبقة، ذوات متنافرة تبحث عن كيان، بعد أن صادر عليهم نظام الثورة حقهم فى التنظيم، لا كمناضلين، بل حتى كأدباء يريدون أن يتحملوا حصتهم من أعباء المرحلة، وكان الشعور بالهزيمة مريراً وقاسياً، وسقط الجميع فى المأزق، واستحال المأزق إلى ضياع كامل، ولم يكن النظام وقتها بعيداً عن البركان الذى يعتمل فى الضمائر، بل كان يستشعر انفجاره فى كل لحظة تمر، وفى كل قصيدة تُنشر أو تقال، وفى كل أمسية أو اجتماع أدبى مصغر.
كانت السلطة تحاول بكل طاقتها إبطال مفعول القنابل الموقوتة من الجيل الجديد الغاضب، فاتفقت على إخراسه نهائياً فى مؤتمر الزقازيق، أواخر 1969، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة المؤجلة: «نبتت فكرة المؤتمر داخل أروقة منظمة الشباب الاشتراكى، والتقطها السيد شعراوى جمعة، وكان أيامها وزيراً للداخلية وأميناً لطليعة الاشتراكيين، وليس مهماً هذا التناقض المضحك، أن يرعى المؤتمر شعراوى جمعة، الذى كان يرعى فى الوقت نفسه -كوزير للداخلية- أجهزة الأمن الضارية فى الوزارة، وعلى رأسها المباحث العامة، التى كانت تضم مكاتب لمكافحة كل شىء: الشيوعية والصحافة والثيوقراطية والتقدمية والرجعية والفلسطينية والعروبية والإمبريالية» (صلاح عيسى، مثقفون وعسكر).
«ورغم الرهبة فى مؤتمر للأدباء يفتتحه وزير داخلية بملابس مدنية ووجه ميرى، ويضيّق علينا الخناق أعضاء المرحومة بنت المرحوم منظمة الشباب»، يقول الكاتب الراحل محمد إبراهيم مبروك، «فلقد جرؤنا أيامها ألا نشارك فى التصفيق، وأن نحول البند الأخير فى جدول أعمال المؤتمر، وهو بند «إطار الاتحاد للجمعيات» إلى البند رقم (1) بدلاً من البند رقم (1) وهو دور الكتاب فى المعركة، وكان أعضاء المنظمة متحمسين جداً لحشدنا جميعاً فى كتيبة على خط النار، كما لو كان ينقصنا الجنود، أو كان ينقص المنظمة، لتنتصر على العدو، أن تتخلص منا، وبذلك حددنا، أيامها، أن دورنا الحقيقى فى المعركة أن نكون كتاباً، وأن يكون من حقنا تكوين اتحادنا الديمقراطى المستقل».. «زمن الكتبة يأفُل.. زمن الكتّاب يجىء».
هكذا انقلب السحر على الساحر، وفى المؤتمر الذى كان مُعداً لإخراس الشباب أو التخلص منهم، بتعبير «مبروك»، برزت فكرة إنشاء «كتّاب الغد» كجمعية أدبية مستقلة تسعى، كما تقول عن نفسها، لـ«إقامة حوار حقيقى بين جميع الاتجاهات الوطنية الديمقراطية فى الحياة الثقافية، وتؤمن بأنه عن طريق الحوار المثمر ستتأكد كافة الملامح الحقيقية لحركة الأدب الجديد فى مصر».
كان «عُبَيْدَة» أحد مؤسسى «كتّاب الغد»، كان هذا كافياً لملاحقته مع أعضاء المجموعة من الكتاب والفنانين: إبراهيم فتحى، عبدالمنعم تليمة، خليل كلفت، عز الدين نجيب، محمد سيف، زين العابدين فؤاد، محمد عزت عامر، محمد إبراهيم مبروك، وآخرين، كانت الجمعية تمثل لدى الأمن واجهة لتنظيم سياسى، هو حزب العمال الشيوعى المصرى، الذى استهدفه النظام بضراوة.
ظلت ندوات الجمعية هدفاً لمداهمات الأمن، حتى أوقفت نشاطها عام 1974، سنة انتحار «عُبَيْدَة». فى أربعين وفاته، نشرت له ديواناً صغيراً، «مختارات من أشعار أحمد عُبَيْدَة»، فى مقدمة الديوان الصغير، تقدّم الجمعية رؤيتها لدوافع انتحار «عُبَيْدَة»: «لقد خرج الشاعر من ظروف القمع والحصار وهو فاقد القدرة على الكتابة والقراءة، بل فاقد الدوافع على الاستمرار العادى فى الحياة اليومية».
أما المقدمات فهى لا تبتعد كثيراً عن تصوّرات الرفاق بشأن الفجوة ما بين الخيال والواقع، الطموح المدمِّر وعجز الوسائل، لنخرج فى النهاية بأن «عُبَيْدَة» لم يكن مختاراً فى قراره بالانتحار، بل كان مرغماً فى الحقيقة على تركنا: «إن ثقافة أحمد عُبَيْدَة التقدمية وانتماءه لحركة الكتاب الوطنيين الديمقراطيين واشتراكه مع شباب قريته فى نضالهم ضد سيطرة العائلات على مقدرات الفلاحين الاقتصادية والسياسية والثقافية، كل هذا مضافاً إليه وعيه الكثيف بتفاصيل حياة فقراء الفلاحين والأجراء، كانت أسلحة فى يديه حاول استخدامها جميعاً لتطوير فنه وتضييق الفجوة الهائلة بين الحلم بواقع إنسانى عادل خال من القهر والاستغلال وبين واقع مشوّه يغتال كل لحظة ما هو جميل وشريف وجاد وإنسانى. لقد حاول الشاعر أن يواجه كل ذلك فى ظروف لم تتبلور فيها القوى الحقيقية القادرة على نسف هذه الفجوة بين الحلم والواقع، فكانت حياته نفسها ضحية هذا الطموح المشروع، فى مجتمع لا يسمح بالحلم، فى واقع ينتزع بشراسة أى زهرة تتألق بالحقيقة».
ولا تنسى الجمعية أن تشير إلى ما جرى فى الأيام الأخيرة للشاعر، وكان بمثابة «التمهيد لقتل أحمد عُبَيْدَة»، وهو عنوان قصة الكاتب محمد مستجاب، نشرتها مجلة «الثقافة»، أكتوبر 1974، بعد نحو شهر من رحيل الشاعر، كانت كل الرؤى تشير إلى أن مخططاً تم وضعه سلفاً مع سبق الإصرار لتحطيم الشاعر، وعلى هذا الطريق تمضى مقدمة الديوان الصغير: «إن ما تعرض له شاعرنا المناضل من تعذيب نفسى وجسدى فى السجن وفى مصحة الأمراض العقلية لهو جزء مما يتعرض له جميع المثقفين الشرفاء كل يوم، والذى يسعى إلى سلبهم فاعليتهم وإشاعة الروح السلبية بين صفوفهم ليحدث الانقضاض، لكن الروح المناضلة الحقيقية تظل أقوى من ذلك المخطط المفضوح».
لقد عاش «عُبَيْدَة» فى الواقع أكثر من حياة، ورغم أن الفجوة التى تفصل بقسوة ما بين الواقع والخيال ظلت قائمة على الدوام حتى مصرعه المدوّى، كأنه جاء شاهداً نهائياً وصارخاً على اتساعها وعمقها، ففى المقابل، لم يكن لهذه الفجوة وجود لدى «عُبَيْدَة».
هكذا قاد الشاعر معركة طويلة فى قريته ضد عائلة غنية، تنتهج سلوك الإقطاعيين فى التعامل مع فقراء الفلاحين، وكانت العائلة تريد السيطرة على مركز الشباب، للحد الذى بنت بيتاً لها داخل المركز فى إعلان واضح عن النفوذ، وقتها قاد «أحمد» مسيرة حاشدة للفلاحين بـالفؤوس لهدم المنزل واستعادة المكان.
وهكذا عمل الشاعر «فواعلياً» مع العمال الذين بنوا السد العالى، لم ينسَ، وهو ما تنطق به قصيدة «أغنية حزينة عن السد العالى»، كيف اختلطت أجسادهم بالجسم الخرسانى الهائل لكى يصير هائلاً، وكيف كانت تقلبهم عربات اللورى الكبيرة بعضهم فوق بعض كأنهم رمال أو حجارة، وكيف طُردوا مُهانين من موقع العمل بعد أن تم البناء واحتفل القادة واشتعلت الأغنيات.
إن «عُبَيْدَة» جزء من قدرية ما، تراجيديا معاصرة تنتهى غالباً بهزيمة البطل، أو تحوّله إلى شىء آخر فى أفضل الأحوال، وتؤكد مقدمة الديوان أيضاً: «إن أغانى ومواويل فقراء الفلاحين والأجراء، التى تمثلها الشاعر فى الكثير من قصائده، تعكس بوضوح صراع البراءة وأخلاقيات الطفولة مع عناصر القهر والاستنزاف الروحى والجسدى، وغالباً ما ينتهى الصراع بهزيمة البراءة أمام شراسة القوى المادية التى تملكها الطبقة المستغلة».
من وقتها لحد الآن، ظلت قصائد هذا الديوان الصغير هى كل ما تبقى من تراث الشاعر المنتحر، إننا نفتش عنه فى المكان الخطأ، بعد اثنين وأربعين عاماً على انتحاره، ما زال بإمكان «عُبَيْدَة» أن يكشف المزيد من الأسرار، ما زال قادراً على إدهاش الجميع والسخرية من الموت.
طائر النار يعود حياً:
لا تصدّق «نفيسة» أن الزائر الغريب أتى لكى يسأل عن أخيها «أحمد»: «هو مش قدّك فى السن، إنتَ حضرتك صغيّر، هو أكبر منك بكتير، عُمْر تانى يعنى»، تتعجب من مجيئى ووجهها الوضىء يملأه الاكتشاف: «هو مات من زمان، مكنتش انت اتولدت».
بنهاية الجلسة القصيرة، ستكون الرابطة التى تجمع بيننا هى أحمد عُبَيْدَة: «مش هتمشى إلا ما تشرب شاى أحمد»، تحكى «نفيسة» عن دار الأيتام الثلاثة، وعن أخويها الكبيرين: أحمد ومحيى، عن مرض أبيها الطويل، لمدة أربع سنوات، لقد طالت الشهور وبطنه يتضخم دون سبب، تضن الحياة حتى بأن يعرف الفقراء بأى مرض يموتون، لكنهم يموتون على أى حال، أما التركة فست قراريط، هى كل رأس مال الأيتام الثلاثة، تحكى عن أمها التى لحقت بوالدها بعد عامين من رحيله، وعن عمها الذى تولى الوصاية عليهم، وعن عمتها الكفيفة التى كانت ترعاهم صغاراً.
لم تدخل «نفيسة» المدرسة: «راحوا من خيبتهم يقولوا لابويا متوديش نفيسة المدرسة»، الفتاة القبيحة قد ينفعها «العَلَام»، و«نفيسة» صبية جميلة، ما يعنى أن زواجها مؤكدٌ فى مستقبل الأيام، فما الداعى لأن تتعلم؟: «طب ما كان العلم يفيدنى أحسن».
لكنها تعلّمت أن تميّز الأحرف العربية عن الإنجليزية على أغلفة الكتب التى تملأ الدار، كانت تقول لأخيها «أحمد» إن حروف «الإنجليزى» صغيرة، بينما الحروف العربية كبيرة، فيضحك: «انتى اتعلمتى من دون ما تروحى المدرسة»، لقد ظلت على الدوام فخورة بأخيها: «كان عامل شهادة فقر، إنه يتيم ومحدش بيعوله، وكان يحط الطبلية ويفرش عليها جرانين، ويحط اللمبة الجاز نمرة عشرة ويقعد يذاكر، طول الليل يذاكر، لحد ما ينكفى ع الطبلية، وعمتى تطبطب عليه، وتنيّمه زى العيّل جنبنا كده، مفيش سنة باتها أبداً، ولا سنة جاب فيها مجموع قليّل، لحد ما ربنا كرمه وراح الجامعة، بنت جمال عبدالناصر على شماله، وبنت عبدالحكيم عامر على يمينه، كانوا معاه فى الكلية».
«نفيسة» تؤكد أن مواقف أخيها المعارضة هى التى أودت بحياته: «كهربوه، الحكومة خدته كهربته عشان يسيّبوا عقله منه، وفعلاً عقله ساب»، تراه أيضاً شاعراً عظيماً لا يستحق هذا المصير: «طبعاً كان شاعر كبير، وكان على طول مع الأبنودى».
تعيش «نفيسة» فى شقة عصرية بحى مدينة نصر مع زوجها «ياسين»، لقد تفرّق الوَلَدان: «جمال» الابن الأكبر إلى السعودية، حيث يعمل مهندساً للأجهزة الطبية، و«أسامة»، الابن الثانى طبيب الأطفال، إلى سجن العقرب شديد الحراسة.
كان «أسامة» قيادياً فى جماعة الإخوان، ونائباً برلمانياً عن حزب الحرية والعدالة، ووزيراً للشباب، قبل أعوام قليلة، لكنه الآن يقضى عقوبتين بالمؤبد وثالثة بالسجن 3 سنوات فى قضايا «فض اعتصام رابعة»، وقتل متظاهرى «مكتب الإرشاد»، وقطع طريق قليوب عند مدخل القاهرة، وهى الأحداث التى أعقبت عزل الرئيس السابق، محمد مرسى، وسقوط دولة الإخوان المسلمين.
تعانى «نفيسة» مرض الفشل الكلوى، وتذهب بصحبة زوجها «ياسين» ثلاث مرات فى الأسبوع إلى مركز الكلى القريب للغسيل، لذا هجرت شقة العتبة القديمة، واستقرت مع زوجها فى شقة ابنها الكبير «جمال» بمدينة نصر.
لا يميل «ياسين» للحديث عن ابنيه، حتى فيما يتعلق بخالهما «أحمد»: «كانوا صغيّرين لما مات، جمال 12 سنة، وأسامة 10 سنين».
«الصغيّر حافظ كل أشعاره، الدكتور أسامة».. تقطع «نفيسة» بأن ابنها كان مولعاً بخاله «أحمد»، لا يكاد يفارقه خلال فترات إقامته الأخيرة فى شقتها القديمة بالعتبة: «لما أحمد تعب كان قاعد عندى برعاه، وأسامة كان بيقعد معاه على طول، وأحمد يقعد يقول له»، سيتولى «أسامة» بعد ذلك، بدأب وكتمان شديدين، مهمة جمع تراث خاله الشاعر، لا بد أنه ذهب إلى بيت العائلة القديم فى العمار، البيت الذى احترق فيه «عُبَيْدَة»، وعثر على ما تبقى من أوراقه المبعثرة، كانت الحصيلة تضم نحو نصف القصائد التى تركها الشاعر قبل أن يموت.
بإمكاننا أن نتصوّر فرحة الصبى عندما كانت تكتمل لديه إحدى القصائد، كان يرتّب أوراقها، ويكتب فوق عنوانها بلون مختلف كلمة «yes»، لقد نجح أخيراً فى جمع المتاح المتبقى من أشعار خاله «أحمد»، وكم كان «أسامة» الصغير مشغولاً وقتها بتسجيل انتصاره على الورق، هناك شرائح ورقية على كل مجموعة مكتوب عليها «تجميع أسامة ياسين».
ظلت هذه الأوراق تحت رعاية الصبى الذى سيكبر، ويلتحق بكلية الطب، جامعة عين شمس، قبل أن ينضم إلى جماعة الإخوان، وبعدها سيعود «أسامة» إلى أوراق خاله ليرى لأول مرة أنه «كافر»، يكتب الكلمة فوق إحدى القصائد، وفوق قصيدة أخرى «كُفر فى كُفر»، ويضع خطاً تحت أحد السطور يرى أن فيه تجديفاً، وفى هامش الصفحة «أستغفر الله العظيم». عاش «أسامة» تحوّلاته كلها فوق أوراق الخال.
لم يُظهرها حتى لوالده ووالدته: «أشعار أحمد كلها أخدوها صحابه»، لا يعرفان أن ابنهما «أسامة» هو الذى جمع ما تبقى منها: «مكانش بيجمع ولا حاجة»، لكنه قرر دفنها بعد ذلك على طريقته إثر انخراطه مع جماعة الإخوان المسلمين، عندما أرسل أوراق خاله مع الكتب الدراسية القديمة وبعض الكراكيب إلى الدار القديمة بـ«العَمَار».
ظلت الدار المهجورة متاحة للجميع من أهل الشارع على مدار أربعين عاماً، وكم أقامت بها بعض العائلات ريثما تنتهى من هدم منازلها الطينية والعودة إلى منازل «المسلّح» الجديدة، لكن أحداً ممن سكنوا هذه الدار لم يقترب من «غرفة الكراكيب» التى تضم أوراق الشاعر، لذا ظلت الغرفة مغلقة على أسرارها حتى سقط حكم جماعة الإخوان، ودخل أسامة ياسين السجن، وباعت «نفيسة» وزوجها الدار، وذهب المُلّاك الجُدد لإخلائها، لتظهر من جديد أوراق الشاعر أحمد عُبَيْدَة فى نفس المكان حيث تركها قبل انتحاره منذ اثنين وأربعين عاماً.
«الدار مسكونة».. أصاب «عبادة» الهلع لدى إخلاء الغرفة المغلقة منذ سنوات طويلة، فأر صغير قرض اثنين من أولاده، اعتقد «عبادة»، الشاب الذى آلت إليه ملكية الدار، أن أرواحاً شريرة تسكن هذه الجدران القديمة، وفى محاولة لطرد الأرواح أشعل النار فى محتويات الغرفة، لكن اثنين من شباب الجيران تمكنا من إنقاذ أوراق الشاعر قبل أن تطولها محرقة المالك الجديد.
كانت الأوراق التى أعدها الشاعر بنفسه قبل أن يموت تضم 122 قصيدة، هى كل ما تبقى لديه بعد أن سطت مباحث أمن الدولة على حقيبة أشعاره، رتّبها «عُبَيْدَة» بحرص بالغ فى شكل مَلَازم من ورق كبير مسطور، وجمع كل واحدة منها بمشبك معدنى، وكتب فى الزاوية اليسرى أعلى الصفحات الأولى اسمه كاملاً: أحمد عبدالعليم عُبَيْدَة، هو الذى اعتاد أن يبعثر القصائد على أفواه البنات، والصبيان، وعمال التراحيل، والأسرّة الغريبة.
ضمن حصيلة الأوراق الجديدة فهرس بخط الشاعر لأسماء هذه القصائد، لكن الكثير منها فُقِد بعد وفاته، ربما بسبب عمليات النهب المستمرة لأشيائه التى تركها، أما ما تبقى من مجموع القصائد فنحو نصف العدد، وهى القصائد التى استقرت بحوزة أسامة ياسين.
تعهّد «أسامة» أوراق الخال بالاهتمام على مدار سنوات صباه، لكنه بعد ذلك سيتدرج فى المناصب التنظيمية داخل جماعة الإخوان، انضم إليها 1985، ليصبح مسئولاً عن ملف الشباب بالجماعة، وفى ميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير، سيقود الفرقة 95، التى اعتلى عناصرها أسطح البنايات بدعوى مراقبة الأوضاع على الأرض، والمساهمة فى صدّ الهجوم على الميدان خلال موقعة الجمل.
يعترف «أسامة»، فى حلقة مع الإعلامى أحمد منصور، على قناة «الجزيرة» القطرية، بوقائع تعذيب ارتكبها أعضاء الفرقة بحق آخرين، من بينهم رجل إخوانى التقطوه بالخطأ، ولقى حتفه تحت التعذيب، قبل أن يكتشف «أسامة» أنه من إخوان شبرا: «لقيته ثابت عند الممات ورافع صباعه السبابة، وبيقول الشهادتين، فقربت منه، وسألته انت مع مين؟ فقال أنا من إخوان شبرا تبع البلتاجى»، ينفجر «منصور» و«أسامة» فى القهقهة، قبل أن يضيف الأخير وهو ما زال يغالب الضحك: «لقد أُخِذَ هذا الأخ غيلةً، ولكل معركة أخطاؤها».
يشارك «أسامة» فى اقتحام مقرات أمن الدولة: «لقيت ملفات جنسية لشخصيات معروفة، وحتى من الإخوان، وكلمت الدكتور مرسى»، كان «مرسى» وقتها رئيساً لحزب الحرية والعدالة، الذى شغل فيه «أسامة» عضوية الهيئة العليا، ثم عضوية المكتب التنفيذى للحزب، قبل أن يصبح نائباً عنه فى البرلمان، ووزيراً للشباب والرياضة عندما شغل «مرسى» منصب الرئيس.
عقب سقوط الإخوان، يظهر «أسامة» على منصة «رابعة»، فى 11 يوليو 2013، مُحرضاً جموع المعتصمين على الثبات لإسقاط «الانقلاب العسكرى»، وبعد فض الاعتصام، تلقى قوات الأمن القبض عليه فى شقة بالقاهرة الجديدة، أواخر أغسطس، وتودعه سجن العقرب شديد الحراسة، ليظهر من جديد، مايو 2016، فى ساحة المحكمة مخاطباً القاضى: «تهمتى أننى شاركت فى ثورة 25 يناير».
ظل القيادى الإخوانى الشاب منذ انضمامه للجماعة وحتى دخوله السجن يعتقد أن خاله الشاعر اليسارى انتهى تماماً من الوجود، ولم يعد له أثر، فمن بإمكانه أن يخرج الأوراق القديمة من مخبئها؟ ولا يعرف أن الشاعر سيختار لاحقاً وقت انبعاثه من جديد، عندما يدخل «أسامة» السجن بلا أمل فى الخروج إلى الحياة.
الآن يعكف «محمد» و«عمر»، الطالبان بكلية الطب، مع العديد من رفاق الشاعر القدامى بقرية العمار على تحقيق أوراق «عُبَيْدَة» التى ظهرت قبل ثلاث سنوات. تضم الأوراق 42 عنواناً، منها 3 مسرحيات كاملة، إحداها مكتوبة على الآلة الكاتبة، والعديد من القصائد، بالعامية والفصحى، على الهوامش وفوق بعض السطور والكلمات تعديلات كتبها الشاعر بنفسه، وبذلك تكون الأوراق المتاحة من تراث «عُبَيْدَة» هى القصائد التى كان راضياً عن نسختها النهائية، قبل أن يُضرم النار فى جسده العارى قبل اثنين وأربعين عاماً.
بالنسبة لشابَّى العَمَار «محمد» و«عمر»، «عُبَيْدَة» هو الشاعر والمناضل صاحب المبادئ الذى عاش من أجل الجميع، بينما تسأل «نفيسة» لدى مغادرتى شقتها فى مدينة نصر: «هما قالوا لك فى البلد أسامة فين؟».
الجزء الثاني من خلال الرابط التالي:
«أحمد عُبَيْدَة».. احتراق ونهوض «طائر النار» «2-2»
صور من مسودات الشاعر
جانب من مراحل إنشاء السد العالى
لافتة وضعها الأهالى لشارع «عبيدة»
منزل أحمد عبيدة بالعمار
مشروع إنشاء السد العالى
«مرسى» فى قفص المحاكمة
جانب من مفاوضات الكيلو101
أسامة ياسين خلال جلسة محاكمته «صورة أرشيفية»
فيلم "قرية العمار" - الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
الجزء الثامن
الجزء الأخير