"السنباطي".. ابن القصبجي وقصائد العرب وشاعر الموسيقى: "رجُلٌ بلا ثورة"

كتب: مصطفى علي موسى

"السنباطي".. ابن القصبجي وقصائد العرب وشاعر الموسيقى: "رجُلٌ بلا ثورة"

"السنباطي".. ابن القصبجي وقصائد العرب وشاعر الموسيقى: "رجُلٌ بلا ثورة"

في 30 نوفمبر 1906، يوم وُلد هو، كانت أم كلثوم، صوته المستعار الذي حمله إلى الأعلى، قد وُلدت قبل ذلك ببضع سنوات، غير محددة العدد، في بدايات القرن العشرين..

هناك حيث تُولد المواهب الكبرى في أرياف مصر، كان الإنشادُ سيدًا على عالم الغناء.. السطوة للشيوخ وميراث الأشعار الصوفية في الموالد، وكان الهلس والصخب ملِكًا على المُدُن.

نعم الفقرة الأولى تحدثت عن أم كلثوم وريف مصر والقصيدة وشيوخ القرى لا عن السنباطي..

لا يُعرف على وجه الدقة إن كان محمد عبد الوهاب قد وُلد قبله أم لا، فهو دائمًا مختلَفٌ حوله، قيل إنه وُلد في 1913 وقيل 1910 وقيل 1902، لكن على أي حال كان ابن باب الشعرية يتربّى على شيوخ المدينة، حتى التقى أحمد شوقي فأصابه الاستغراب، بينما كان يتربى "رياض" على شيوخ فارسكور بدمياط وأجوارها، وتشاء الأقدار فيما بعد بسنوات، أن يعزف ابن الشيخ محمد السنباطي، المقرئ ومغني الأفراح والموالد، على عوده، وراء ابن الشيخ محمد أبو عيسى، المؤذن والمقرئ، وهو يسجل أغاني فيلم "الوردة البيضا".

نعم الفقرة الثانية تحدثت عن "عبد الوهاب" وشيوخ المدينة المودرن ولم تركز تماما على بطلنا "السنباطي"..

لم يحب "رياض" عبد الحليم حافظ، ابن ثورة المصانع، الطامح إلى غرب الموسيقى.. يبدو أن صوت الشاب النحيل كان لا يملأ عباءة الراهب صاحب "لحن الوفاء"..

الفقرة الثالثة كانت عن عندليب الخمسينيات ومصانعها والاتجاه غربًا..

لذا، نعود شرقًا إلى "رياض"، الذي نحبه ونحترمه، في عيد ميلاده الـ111..

 

لا جديد في أن نقول إنه أحد العازفين المهَرة لآلة العود التي غنّى لها وبها.. لا جديد في أن ندعوه حارسًا أمينًا على موسيقانا، موسيقانا التي تخصّنا ولا يستطعمُها مثلُنا أحد، موسيقى البطء والأغوار، موسيقى تشبه الحركة في انحناءات أصداف البحر، لا في خطوط الأسفلت..

ربما لا يكون "السنباطي"، الذي نحبه ونحترمه، مدرسة كاملة في الموسيقى، كأستاذه القصبجي، ولا خطا فريدًا في حد ذاته ولا رائدًا، وربما لا يكون وحده المعبر الحقيقي عن موسيقانا بتطعيماتها وتشابكاتها الأرابيسكية وينابيعها التركية والشامية، لكنه كان الأجدر بين موسيقيي جيله ومن سبقوه بـ"الرهبنة والحفر في منطقة القصيدة والوعي بصنع موسيقى موازية للنص المكتوب"..

وهؤلاء قليلون جدا في تاريخ أي فن..

 

لم يعش الرجل حياة اللهو والأنس والصهللة مثل الشيخ زكريا أحمد، ولم يعش نجومية "عبد الوهاب"، مطرب الملوك والأمراء، وبالمناسبة كان جديرًا بها مثلما كانت هي جديرةً به.. لم يدرس على يد الغرب ولا يتربى في أحضانهم، لم يتاجر بنعومته ويأسه من مرض كالعندليب، عاش محافظًا أصيلا، "مايعملش ثورة"، بحسب وصف "عبد الوهاب"، عاش موظفًا موسيقيا لا يغادر مكتبه إلا للضرورة، ولهذا نحبه.

-        ليست الثورة من طباع الشرق

وعليه، فالسنباطي يمثلنا، ولهذا نحبه..

يمثلنا كثقافة موسيقى غارقة في نفسها كالبحر، حتى حين مالت نفسُه ليثبت أنه حداثي ومجدد وخواجة مثل "عبدالوهاب وبليغ" واستخدم آلات الغرب في لحن قصائد "أراك عصي الدمع، وأقبل الليل، من أجل عينيك"، لم تُقيَّم تلك الأعمال باعتبارها "سُنباطية"، بل اعتُبرت كرجل تعود على لبس العمامة فجرّب مرة أن يلبس قبعة، لكن أهله لم يتعرفوا على ملامحه.   

 

ويمثلنا "السنباطي"..

كشاعر موسيقي يدور حول عمود واحد، كساقية يُسمع صوت مائها في الدوران منتظمًا، هو الشاعر الأنيق لا الشاعر الفوضوي الجمالي، يسبحُ بضربات أذرع لا تخطئ الإيقاع، رغم تنوعه، ومن هنا يكون الاحتفاء به، كرجل يمثلنا ونرى فيه أنفسنا القديمة قبل أن يطالها التحول الاستغرابي والتشوه اللوني والتلاعب الجيني والاستحداث الذي اختلف فيه فقهاء الزمن.


مواضيع متعلقة