الدكتور عماد عبداللطيف يحلل خطابات السادات من البرلمان للكنيست: بلاغة خطب السادات حول «كامب ديفيد» وفن صناعة الزلازل السياسية

كتب: الدكتور عماد عبداللطيف

الدكتور عماد عبداللطيف يحلل خطابات السادات من البرلمان للكنيست: بلاغة خطب السادات حول «كامب ديفيد» وفن صناعة الزلازل السياسية

الدكتور عماد عبداللطيف يحلل خطابات السادات من البرلمان للكنيست: بلاغة خطب السادات حول «كامب ديفيد» وفن صناعة الزلازل السياسية

منذ تعلّم الإنسان الأبجدية، أدرك أن اللغة ساحة حرب. فقد كان قصف الكلمات يسبق صليل السيوف، وقصف المدافع، أو يحل محلّها، أو يمكّن المنتصر من جنى ثمارها. وكلما ازداد لهيب الصراع السياسى، علتْ قيمة الكلمات، وتزايدت خطورتها. ومنذ أشعل تصريح بلفور نيران الصراع العربى الإسرائيلى قبل قرن مضى، استمرّت الكلمات جزءاً من آلة الحرب، والتفاوض، والسلام. فقد غيّرت 67 كلمة، هى مجمل وعد بلفور، خريطة صراعات الشرق الأوسط لأكثر من قرن من الزمان. وما زال نص قرار الأمم المتحدة رقم 242 بعد نكسة يونيو 1967 يُثير خلافات لا يُنتظر حسمها قريباً، وهو القرار الذى لا يزيد على مائتين وتسعين كلمة فى نسخته الإنجليزية.

خطاب المبادرة: حين تمتزج الخطابة بالدراما

يبدو خطاب المبادرة حدثاً درامياً بامتياز. فقد أُلقى الخطاب فى الافتتاح العادى للدورة الثانية لمجلس الشعب، وهى مناسبة عادية، تُلقى فيها عادة خطابات «عادية»، لها طابع طقوسى فى كثير من الأحيان، وتتضمن استعراضاً لبعض السياسات الداخلية والخارجية. وكثيراً ما تكون هذه الخطب مُعدة سلفاً، وتُستعمل فيها اللغة الفصحى. وقد بُنى الخطاب ليحقق هذه «العادية» على نحو ممتاز، فقد كُتب الخطاب بالفصحى، وقرأه السادات من أوراق مكتوبة أمامه، دون أدنى تدخل فى النص المكتوب، والذى ذكر موسى صبرى أنه هو الذى ألفه للسادات.

ركّز الخطاب على قضايا داخليّة عدّة مثل قانون الضرائب، وانتفاضة الخبز، حتى ربعه الأخير الذى انقلبتْ فيه هوية الخطاب ووظيفته رأساً على عقب. وذلك إثر قول عبارة قصيرة مكوّنة من 55 كلمة، أعلن فيها السادات استعداده لزيارة إسرائيل، غيّرت هوية الخطاب، فأصبح يشتهر باسم خطاب المبادرة، وليس خطاب افتتاح دورة مجلس الشعب. لكن الأهم من ذلك أنها غيّرتْ مستقبل السادات، ومصر، والمنطقة بأسرها. وذلك على نحو يُشبه لحظة التحول فى حياة بطل المسرح التراجيدى، التى تنقلب فيها حياته رأساً على عقب، بسبب فعل، أو قول ما. وقد حاول السادات بذكاء شديد، إيهامنا أن الفعل التراجيدى غير مخطط له، ولجأ إلى استراتيجية الإيهام بالعفوية لتحقيق ذلك.

الطريق إلى القدس: لحظة صمت وإيهام العفوية

نعلم الآن أن مبادرة زيارة إسرائيل لم تكن نتاج لحظة مبالغة خطابية عاطفيّة غير محسوبة من جانب السادات. فهناك وثائق كثيرة تكشف عن مراحل التفكير فيها، والاتصالات السريّة الممهدة لها؛ سواء ما كان منها برعاية الملك المغربى الحسن الثانى، أو الرئيس الرومانى السابق تشاوشيسكو، أو وزير الخارجية الأمريكى هنرى كسينجر، أو سفير أمريكا فى القاهرة حينها. وتبرهن الأحداث التالية للخطاب، على أن الخطوات التالية لطرح المبادرة كانتْ مرتبة إلى حد كبير، وقد وصل التنسيق بين الطرفين المصرى والإسرائيلى إلى درجة أن الزيارة، التى كانت زلزالاً سياسياً بكل المقاييس، قد أُنجزت بعد عشرة أيام فقط من خطاب المبادرة. وكأن هناك سباقاً زمنياً لإنفاذها.

اختار «السادات» إخراج قرار زيارته للقدس فى شكل مسرحى، مستفيداً من عنصر المفاجأة، موهماً جمهوره، بأن عباراته التى تتضمن المبادرة إنما جاءت عفو الخاطر، دون إعداد مسبق، وأنها ليست إلا عبارات عاطفية، مفاجئة، هدفها إفحام الخصم، وإدهاشه. وقد حقق ذلك بأداء رائع؛ فقد اختار طرحها فى شكل خروج على النص، بعد مرور ما يقرب من ساعتين من الخطابة، وصاغها فى عبارات عامية، مغايرة للفصحى السائدة فى معظم الخطاب، وقبل أنْ يبدأها، توقف لبضع ثوانٍ، وعبث فى الأوراق التى أمامه، وصاغها فى شكل تحدٍ شجاع، وأداها بنبرات مسرحية مفعمة بالحماس الصوتى، والنبر المتصاعد، والأداء الحركى المبالغ فيه، كما يظهر فى الضرب المتوالى على خشبة منصة الإلقاء.

بنى «السادات» عبارات المبادرة مستعملاً استراتيجية التكرار، والتخصيص، وذلك على ثلاث مراحل، تضمنت الأولى استدعاءً لعبارة سابقة تُعد التمهيد الأساسى لخطاب المبادرة «سمعتمونى أقول إننى مستعد أن أسافر إلى آخر هذا العالم إذا كان فى هذا ما يحمى أن يُجرح، مش أن يقتل، أن يجرح عسكرى أو ضابط من أولادى»، والثانية تأكيد العبارة بواسطة تكرارها اللفظى «أنا أقول، فعلاً، مستعد أن أسافر إلى آخر هذا العالم»، ثم جاءت الصياغة الثالثة تتضمن تكراراً ثالثاً للعبارة مع تخصيص الجمهور المتلقى للكلام (ستُدهش إسرائيل)، وتخصيص المكان (الكنيست): «وستدهش إسرائيل عندما تسمعنى أقول الآن أمامـكم إننى مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاتـه، ومناقشتهم». ويصل ذكاء «السادات» فى التمويه على الترتيبات المسبقة مع إسرائيل إلى حد أن ينسب الدهشة المتولدة من قراره إلى إسرائيل نفسها، فنسب إليها هى، وليس إلى الشعب المصرى، أو العرب، أو العالم، الدهشة من إعلانه زيارتها.

فور نطق العبارة الأخيرة ارتفع صوت واحد من الجمهور عالياً ليُقدّم الاستجابات التى يرجوها السادات تماماً؛ فقد هتف الصوت «الله أكبر، الله أكبر، زادك الله فطنة، زادك الله فطنة، زادك الله فطنة». وهى هتافات تتعامل مع العبارات على أنها شكل من أشكال النصر الذى يستحق التهليل، وعلى أنها دليل ذكاء وفطنة، حباهما الله للسادات.

وهكذا اجتمع للسادات، صدمة المفاجأة، والأداء الدرامى للمبادرة، وهتافات الجمهور، وتصفيقهم. وأُغلقتْ الستارة، والخطاب أيضاً، على وعد برفعها مرة أخرى، بعد أن أصبح المسرح مُعداً للفصل الثانى من زلازل الخطابة، فى مكان لم يتخيله مصرى قبل خطبة المبادرة؛ أعنى كنيست إسرائيل.

خطاب الكنيست: أنشودة سلام أمام جنرالات الحرب

وصل السادات إلى فلسطين المحتلة يوم 19 نوفمبر 1977، وفى الرابعة من عصر اليوم التالى، يوم عيد الأضحى نفسه، ألقى خطاباً مطولاً فى الكنيست، سوف يتحول مع مرور السنوات إلى أحد أبرز الخطابات السياسية العربية فى القرن العشرين. تناول الخطاب الذى قارب 4000 كلمة موقف السادات من الصراع العربى مع إسرائيل، ودعوتَه لتحقيق سلام يُنهى الحرب بين الطرفين فى المنطقة. وبحسب مذكرات موسى صبرى، فقد اشترك فى تأليف الخطبة مع الدكتور أسامة الباز. وتوزَّعت أدوارهما؛ فقد كتب «صبرى» متن الخطبة، وصاغ «الباز» الفقرات ذات الصبغة القانونية، ودمجا الجزأين لاحقاً. ووفقاً لموسى صبرى نفسه أيضاً، فإن السادات كلّف أكثر من شخص بكتابتها، ثم اختار هو من بينها، ووفقاً للسيدة جيهان السادات، حرم الرئيس الراحل أنور السادات، فإن السادات اشترك مع موسى صبرى فى كتابة الخطاب.

خطابة العاطفة وصورة القائد الشجاع

اختار السادات فى هذا الخطاب التوجه إلى مشاعر الجمهور. فقد خاطب العواطف الإنسانية الكامنة فى البشر، مركزاً على آلام الحروب، وويلاتها، وعلى آثار إحلال السكينة والسلام فى العالم. وصيغت الأجزاء العاطفية فى الخطاب بطريقة بلاغية مميّزة، معتمداً على التناص مع الكتب المقدسة، ليس فقط بواسطة الاقتباس المباشر منها، بل بالأساس بواسطة تقليد طريقة بنائها، وبخاصة الاعتماد على التكرار اللفظى للمقاطع الأولى من الجملة، وموسيقى التوازى الصوتى التى تُهدهد النفوس، وهو ما تكرر على مدار الخطبة من بدايتها إلى نهايتها، ولعل العبارات التى لصقت بالذاكرة الجمعية هى نفسها التى بُنيت بهذه الطريقة؛ مثل:

«ويا أيتها الأم الثكلى.. ويا أيتها الزوجة المترملة.. ويا أيها الابن الذى فقد الأخ والأب..».

علاوة على ذلك، سعى السادات إلى بناء صورة مميزة لنفسه بوصفه قائداً شجاعاً، يختار بوعى الذهاب إلى دار عدوه، كى يحقن الدماء، ويمنح الإنسانية فرصة للتعايش. وهى صورة حرص على تكرارها، والإلحاح عليها، بهدف تقديم الزيارة بوصفها خياراً استراتيجياً واعياً، هدفه بناء أرضية للثقة فى المستقبل.

لغتان.. وخطابان

يمكن التمييز بين مستويين لغويين مختلفين فى خطاب الكنيست؛ الأول لغته أدبية إنشائية، أنتجت ما يكاد أن يكون أنشودة فى مدح السلام، وذم الحرب. يبدو أنها استهدفت الأفراد العاديين ممن عانوا ويلات الحروب، مستعينة بالنصوص الدينية بوصفها مرجعية للسلام بشكل أساسى. أما الثانية فلغة شبه قانونية، تكاد تخلو من المجاز، وتهيمن عليها جُمل خبرية، استهدفتْ تحديد الخطوط العامة للسلام المنشود. وذكر فيها السادات استحقاقات السلام، وضرورات الوفاء بها.

من المثير للاهتمام أن الأجزاء التى تتحدث عن شروط تحقيق السلام الذى ذهب السادات ليعرضه على إسرائيل، تكاد تكون قد سقطت من ثقب الذاكرة. فالمقاطع التى تتحدث عن أنه لا سلام دون استعادة الأراضى المحتلة، ودون تأسيس الدولة الفلسطينية على كامل الأراضى المحتلة قبل 1967، وحق العودة للفلسطينيين، وغيرها من «شروط السلام»، سرعان ما وقعت فى فوهة النسيان، وسرعان ما نُسيت أقوال مثل: «إن الانسحاب الكامل من الأرض المحتلة بعد ‎1967 أمر بديهى، لا نقبل فيه الجدل، ولا رجاء فيه لأحد أو من أحد»، أو «إننى أقول، أيها السيدات والسادة، إنه لا طائل من وراء عدم الاعتراف بالشعب الفلسطينى وحقوقه فى إقامة دولته وفى العودة». ويبدو هذا غير مستغرب. لقد زار السادات إسرائيل، بينما يربض جنودها على التراب المصرى، وخطب تحت سقف الكنيست؛ وهو المكان الذى اتُخذت فيه قرارات احتلال أرضنا العربية، وطرد أهلنا من بيوتنا، وإهانة جنودنا فى صحراء سيناء. كان الساداتُ يُنشد للسلام، لكن جمهوره كانوا من جنرالات الحرب. كان يحلم بالتعايش، بينما كان يُخطط جنرالات إسرائيل الذين ملأوا القاعة، لاستنزافه، واستنزاف القوى العربية حتى آخر قطرة. كان يُلقى موعظة المحبة، أمام نفوس لا تأبه إلا للقوة أو المصلحة.

لقد اختار السادات أن يُغيّر خارطة الصراعات فى الشرق الأوسط، وجعل من الخطابة السياسية عُدة أساسيّة لتحقيق ذلك، واتخذ من زلازل الكلام استراتيجية أثيرة، وحين خفت ضجيج الخطابة، وانصرف المفوهون من فوق منصات الكلام، اكتشف العرب جميعاً أن زلازل الخطابة السياسية، قد أحدثت شروخاً هائلة فى الجسد العربى، وفى بناء الوحدة الشامخ، الذى شيدته حرب أكتوبر. وحين اختار السادات أن يصل إلى نهاية الشوط وحده، بدا أنّ زلازل الخطابة لم تترك شيئاً قبلها كما كان.


مواضيع متعلقة