"المجانين لا يكتبون الشعر".. نجيب سرور الذي لا نعرفه

كتب: شريف حسين

"المجانين لا يكتبون الشعر".. نجيب سرور الذي لا نعرفه

"المجانين لا يكتبون الشعر".. نجيب سرور الذي لا نعرفه

يضيق عليه الخناق فيكاد ينفجر، يصرخ فيقولون: "مجنون"، يكتب فيقولون: "بذيء"، بينما يردد هو "المجانين لا يكتبون الشعر، لا يؤلفون المسرحيات، لا يغوصون في تفاصيل شخصياتهم لتقديمها حية على المسرح". الاضطهاد والقهر الذي عاناه مبدع شهد له أغلب أبناء جيله بعبقرية الكتابة المسرحية والإخراج والتمثيل والنقد والشعر، يزداد شراسة فلا يستوعبه ويكاد يُجن، لا يكف عن الاستنكار.

مدهوشا يسأل: كيف لهذا الذي سيطر على الجمهور في أوائل الستينات - كتابةً ومسرحا وشعرا ونقدا وإذاعة وتلفزيون - أن يُطارد هكذا أينما حلّ، وكيف للجنان التي آتت أكُلها أن تبيد بهذه السرعة؟، هاله القبض عليه واقتياده إلى نقطة للشرطة العسكرية، ومنها إلى مستشفى الأمراض العقلية بعد اشتباكه مع الضباط، لذا فإنه يبحث عن مخارج يثبت بها - لنفسه أولا - أنه ليس مجنونا كما يشاع، فيزداد اضرابا على اضطرابه، يطلق قصيدته الطويلة "أمّيات" بألفاظها الجارحة وصورها الخادشة للحياء، ليعلن دون مواربة أنه ناقم على الجميع، على الجيل بأكمله، بفنانيه ومخرجيه وكتابه، ساسة العصر والشعراء والصحفيين ووزير الثقافة أيضا، المثقفين - كل المثقفين - بمن فيهم صلاح جاهين وأمل دنقل ونجيب محفوظ، يصب على الجميع غضبه، دون استثناء، وبلا أي شعور بالرغبة في المهادنة.

لا يكف الأمن عن ملاحقته حيا، فيعترض على نشر نجله "شهدي نجيب سرور"، قصيدة "أميات" على الإنترنت نهاية التسعينات، فيلاحقه بتهمة نشر مواد خادشة للحياء، ليعيد شهدي سيرة الأب المطارد، ويهرب على إثر ذلك إلى روسيا، وطن والدته ساشا كورساكوفا.

بجسده النحيل، ووجه المائل للسُمرة وشعره المهوش وعينيه البادية فيهما فطرة الفلاح والوجه الخالي من الأقنعة، يقف سرور وسط مقهى ريش، يهاجم مثقفي العصر بضراوة دائما وبألفاظ نابية في أحيان كثيرة، يجلس منتشيا، ليفكر فيما سيصيبه جرّاء معاداته للسلطة واشتباكه معها، وفي ردة فعل مخابرات صلاح نصر، ليحدّث به أمام الناس. نجمٌ سريعُ الأفول، وحياة حافلة بدراما ومآسٍ تليق بمسرحي لامع.

المولود في 1932 بدمنهور، صار علما من أعلام المسرح أوائل الستينات بعد عودته من بعثة دراسية لم تكتمل بروسيا، بضعة سنوات وتكاثرت عليه الأحزان، أحاطت به بحيث لم تدع له مجالا للفكاك منها، هزيمة يونيو 67 حيث الشعور بالعار والنقش الحزين الغائر الذي حفرته في أرواح الجيل الذي عاصرها من ناحية، وخيانة زوجته وانفصاله عنها من أخرى، ومن ثالثة اضطهاده بفصله من معهد الفنون المسرحية حيث كان مدرسا، وما ترتب عليه ذلك من غلق لجميع الأبواب في وجهه، إضافة إلى مطاردات الأمن، ثم إيداعه مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية، وتصنيفه "الدرجة الرابعة"، أي أشد الحالات خطورة آنذاك، عام 1969. قبع سرور عدة أشهر هناك، ليتعمق شعوره بعدها بأن ثمة مؤامرة متعددة الأطراف تُحاك ضده ببراعة - وضد أي مبدع حقيقي -، وتصيب أهدافها بنجاح مع مرور الأيام. فبالإقصاء.. قضى الواقع على شاعر مرهف.

أشهر ما نُقل عنه "أمّيات"، لكن ثمة أعمال مسرحية استقبلت باحتفاء جماهيري ونقدي كبير: "يس وبهية" و"آه يا ليل يا قمر" التي أخرجها جلال الشرقاوي، و"ميرامار" عن رواية نجيب محفوظ التي تحمل الاسم نفسه، كما أن له أعمال نقدية: "تحت عباءة أبي العلاء"، و"هكذا قال جحا"، "حوار في المسرح"، و"هموم في الأدب والفن"، بالإضافة إلى عدة دواوين، منها "بروتوكلات حكماء ريش"، "لزوم ما يلزم"، و"التراجيديا الإنسانية". لم تكن الإقامة بـ"العباسية" نهاية المطاف، بل بداية السقوط، فمنها إلى مصحة بالإسكندرية للعلاج النفسي وعلاج كبده المتأثر بالخمر، ومنها إلى الحياة العامة مرة أخرى، ثم انتكاسة جديدة ووفاة مبكرة في 24 أكتوبر عام 1978.


مواضيع متعلقة