الجوع والاضطهاد والفصل من العمل.. لعنات طاردت نجيب سرور

الجوع والاضطهاد والفصل من العمل.. لعنات طاردت نجيب سرور
طفل عاش حياة مآساوية، ترك دراسته الحقوق للالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي حصل منه على الدبلوم في عام 1956، عين مدرسا في معهد الفنون المسرحية ثم فصله، ثم نفيه إلى بودابست، وتجسس زوجته المصرية عليه بأمر من أمن الدولة، ودخوله مستشفى الأمراض العقلية، وعودته للتدريس في معهد فنون مسرحية مرة أخرى، لكنه لم يستمر لمدة عام وتم فصله مرة أخرى، عاش بعدها سنوات من البطالة، وطلب من محرري الجرائد أن يعمل حتى لا يموت بالبطئ وكانت هذه أكبر إهانة شهدها طلبه للعمل بعد أن أصبح كاتبا كبيرا، وسفر زوجته الروسية بابنه شهدي حتى يكمل دراسته في روسيا، ارتباكات كثيرة تحملها نجيب سرور وحده، جعلته نزيلا في مستشفى العباسية للأمراض العقلية.
"قصتى من بدئها مكتوبة بالسخرية، كنت أمضى ورفاقى فى البكور، قبلما ينقض عصفور نعاسه، حسرتي.. كنا بلون الميتين، كالدمى نصطف فى أنواء طوبة، كالكلاب الضمر نستجدي الكناسة، بعض سردين بعلبة، وثمالات من اللحم بعظمة، وحبيبات من صنوف الطيبات".
هذه هى الطفولة التى عاشها نجيب سرور فى قريته "أخطاب"، حيث الناس تعانى، والفقر يزحف إليهم، وقد ترجم "سرور" هذه الظروف فى رسالة إلى أبيه يوضح لنا فيها مدى ما عاناه هذا الطفل وغيره من الأطفال فى هذه الفترة من الحرمان والجوع، ومن سخرية أبيه منه عندما كان صغيرا، وما لهذه السخرية من أثر انطبع عليه بعد ذلك على أسلوبه.
وانعكست هذه الطفولة التى عاشها "سرور" عليه بعد ذلك بحيث أنه لم ينس ما حدث له ولأسرته عندما كان صغيرا وحدث ما حدث لأبيه من الإهانة عندما أرسل إليه العمدة فى طلبه، وحضر إليه وانهال عليه بالضرب بالحذاء، ولقد كان لهذه الحادثة أثر كبير على "سرور" حتى باتت بداخله وجعلته يكره الظلم والاستبداد.
"وذاك المساء، أتانا الخفير ونادى أبى، بأمر الإله.. ولبى أبى، وأبهجنى أن يقال الإله، تنازل حتى ليدعو أبى، رأيت الإله يقوم فيخلع ذاك الحذاء، وينهال كالسيل فوق أبى، أهذا .. أبى، وكم كنت أختال بين الصغار، بأن أبى فارع كالملك، أيغدو لعينى بهذا القِصَر".
ورفض "سرور" موقف أبيه السلبى الذى من داخله وهو ما زال طفلا صغيرا، إلا أنه يعكسه بعد ذلك عندما يكبر ويرفض كل الذين يسعون إلى إزلال الإنسان.
"وكان أبى صامتا فى ذهول، يعلق عينيه فى الزاوية، وجدى الضرير قعيد الحصير، تحسسنى وتولى الجواب، كذا يفعل الأغنياء بكل القوى، كرهت الإله.. وأصبح كل إله لدى بغيض البصر، تعلمت من يومها ثورتى".
انصهرت هذه الظروف التى مر بها "سرور" وكونت شخصيته، وفي هذه الفترة أصبح لا يبتعد عن حركة الشارع المصرى بل يشارك فى المظاهرات والتجمعات الطلابية والعمالية.
بدأت معاناة سرور منذ طفولته البريئة، عندما تعرض والده المزارع البسيط للضرب على يد عمدة القرية، وكتب سطور تلك الحادثة في قصيدة بعنوان "الحذاء" في عام 1956، وأطلق على العمدة فيها اسم "الإله"، ليكتشف بعدها نجيب الفضاء الأكثر رحابة وتأثيرًا من خلال المسرح، ما جعله يترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق قبل التخرج بقليل ويلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج منه عام 1956، الذي أبدى من خلال دراسته بوادر عبقرية ما جعله ضمن بعثة حكومية لدراسة الإخراج المسرحي في الاتحاد السوفييتي عام 1958.
في رحلة الشاعر والفنان ''نجيب سرور''، عراقيل وضعتها يد السلطة في طريقه، فأطلق لسانه وشعره لها؛ يغزل من محنته أدبًا، يضمد من معاناة شاعر مصري، ويغدو ميراثهما بين قصائد وبعض المسرحيات، مثل ''ياسين وبهية'' و ''الذباب الأزرق'' و''آه ياليل ياقمر'' والتي أخرجها جلال الشرقاوي عن رواية ''ميرامار'' للأديب العالمي ''نجيب محفوظ''، لتجعله من رواد المسرح المعاصر.
وفي رحاب الاتحاد السوفيتي، أعلن سرور عن إيمانه بالشيوعية وميله للفكر الماركسي، كما شكل مجموعة باسم "الديمقراطيين المصريين" لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم، واستغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبي في جامعة موسكو، فقفز إلى المنصة واستولى عليها، وأطلق بيانًا ناريًا ضد "النظام القمعي الديكتاتوري" في مصر وسوريا.
وبعد الواقعة بيوم واحد، احتجت السفارة المصرية على جامعة موسكو، وفصل نجيب من البعثة وألغى جواز سفره، وطالبت السلطات المصرية المسؤولين السوفييت بترحيل نجيب سرور إلى القاهرة، ولكن السلطات الروسية تمسكت به ولكنه نقل إلى مدينة جامعية أخرى حتى لا يحتك بالمبعوثين المصريين.
لكن أجراس عودته إلى مصر دقت عام 1963 عندما أدرك النفوذ الصهيوني في الاتحاد السوفيتي، وخصوصًا بعد الحادثة الشهيرة التي حدثت له في موسكو، فكانت "القشة التي قصمت ظهر البعير"، حيث ألقت قوات الأمن هناك القبض عليه إثر مشادة كلامية حدثت بينه وبين أحد أفراد الشرطة وأوسعوه ضربًا.
ويقول نجيب سرور عن الحادثة "لقد بكيت آنذاك ليس من الألم، بل على انهيار المثال، وأحسست أنه لا فرق بين شرطة سوفييتية ومباحث مصرية، فكلها أجهزة قمع، وإنما نحن الذين صدقنا الأوهام عن إنسانية الاشتراكية".
وفي عام 1971 اصطدم نجيب سرور بالمخابرات المصرية بسبب مسرحيته عن الفلسطينيين والمجزرة التي ارتكبت بحقهم في الأردن، وبدأت مرحلة جديدة في حياة سرور بالمواجهات مع الأنظمة الأمنية.
كان الأمن المصري قد ترك الحبل على غاربه لنجيب سرور بعد أن وجد صلابة هذا الفلاح المصري المثقف لن تفت في عضدها الزنازين إلى أن تجاوز نجيب سرور الخط الأحمر، حين توقف أمام مجازر الملك حسين بحق الفلسطينيين في أيلول عام 1971 بكتابة وإخراج مسرحية بعنوان "الذباب الأزرق" سرعان ما تدخلت المخابرات الأردنية لدى السلطان المصرية لإيقافها.
وانتهت المواجهات بطرد سرور من عمله وعزله عن الحياة الثقافية في مصر، كما تعرضت أعماله للاغتيال الأدبي وتم تهميش اسمه ومساهماته في المجالات الثقافية، فاتجه إلى كتابة قصائد انتقد سياسة حكومة أنور السادات تجاه الوطن والشعب وخصوصًا قمع الحريات العامة وحرية التعبير والتسلط على المثقفين والتنكيل بالمواطنين، فلفقت له الحكومة التهم المختلفة وساقته إلى مستشفى الأمراض العقلية.
حفرت هزيمة يونيو جرح في شخصية ''سرور''، لم تبرح حتى نالت من أعماله شعرًا وأدبًا، ليصدق الشاعر أن هناك مؤامرة عليه بداية من المخابرات المصرية حتى منافسيه من الشعراء والأدباء، كما أودعه جنون الشعر والفن في مستشفى الأمراض العقلية، حتى مكث فيها إلى أن وافته المنية.