أكتوبر المجيد (2)

أصدر الرئيس السادات قراره بفك الجمود على الجبهة والخروج من حالة اللاسلم واللاحرب فى 6 أكتوبر عام 1973، بعد أن أمطره المصريون بوابل من النكات حول موضوع «الحسم» و«مرحلة الحسم».

هكذا الشعوب دائماً تريد الحسم، فى حين لا تستطيع القيادة اتخاذ القرار إلا فى ضوء حسابات دقيقة.

حسبة «السادات» تمركزت فى تحريك الأمور وحلحلة المشكلة التى أصابها الجمود، كان الرئيس الراحل يُردّد بعد الحرب عبارة «لقد حاربنا من أجل السلام»، ما يعنى أنه كان يمتلك تصوّراً محدّداً لحل مشكلة استرداد الأرض المصرية المغتصبة فى 1967، كانت حرب أكتوبر أول خطوة فيه، وقد تدفّقت الخطوات التالية لها بعد ذلك بسلاسة. هذا كان تصور الرجل للمسألة، ولا يستطيع أحد أن يلومه على ذلك، فالقيادة محاسبة فى ضوء مدى نجاحها أو إخفاقها فى تحقيق ما رسمته لنفسها من أهداف، بغض النظر عن مستوى الاتفاق أو الخلاف حولها.

استقبل المصريون الأخبار الأولى للحرب بقدر كبير من التشكك بسبب التجربة السيئة التى عاشوها فى 67، حين كانت البيانات تتدفّق من الإذاعة المصرية مبشّرة بتحطيم طائرات العدو وشل حركة قواته، فى وقت كان الطيران المعادى فيه قد تمكن من تدمير قدراتنا الجوية على الأرض فى ساعات معدودات، بمرور الوقت بدأ المصريون يصدّقون أن نصراً يحدث على الأرض، خصوصاً بعد أن تزيّنت صفحات الجرائد بصور لطوابير الأسرى من جنود العدو. لا تستطيع أن تتخيّل فرحة الناس بهذه الصور، أذكر أن الكثير من أصحاب المحلات فى ذلك الوقت كانوا يلصقون الصفحات التى تحمل هذه الصور على الحوائط و«الفاترينات»، متباهين بما فعله أبناؤهم. بعدها بدأ الحديث عن الثغرة وحصار بعض من جنودنا فى الدفرسوار. وكانت تلك واحدة من مآسى هذه الحرب.

تواصل الحصار لشهور، غاب شباب كثيرون عن أسرهم، لم يكن أحد يعلم وقتها أى شىء عنهم. أربك هذا الموقف الكثير من الأسر المصرية، أمهات ينتظرن أبناءهن، وزوجة تمكث فى انتظار زوجها، وخطيبة تتشوق إلى عودة خطيبها. ظلت الأمور على هذا النحو حتى تم فك الحصار وعاد الغائبون يحكون قصصاً متنوعة عن المعاناة التى عاشوها. كل حرب ولها ألمها، والنصر لا يمكن أن يتم بلا ثمن. وقد دفع المصريون الكثير حتى يستردوا كرامتهم، ويثبتوا أنهم قادرون على هزيمة الصهاينة.

كان المصريون متشوقين إلى فرحة بعد سنوات طويلة من الحزن، ولا يستطيع أحد ممن عاصر هذا النصر أن ينسى فرحة الناس حينذاك، لكن ليس فى مقدوره أيضاً أن يغفل كيف امتزجت الفرحة بالقلق. بعد هزيمة 1967 كان هناك حديث لا ينقطع عن «إزالة آثار العدوان»، أشياء كثيرة تم ترميمها فى هذا السياق، مبانٍ ومدن وطرق وكبارى، الشىء الوحيد الذى لم يخضع للترميم حينذاك هو الشرخ الذى أحدثته النكسة فى نفس المصريين، ربما لعب نصر أكتوبر دوراً فى التخفيف من أثره، لكنه لم يعالجه. كان جوهر المشكلة أن المصريين عاشوا خلال فترة الستينات حياة خيالية وحلماً كبيراً استيقظوا منه حين ارتطمت رؤوسهم بصخرة النكسة، وبعد نصر أكتوبر أراد الناس العودة إلى الخيال والحلم من جديد، لترتطم رؤوسهم هذه المرة بصخرة «الواقعية السياسية» التى انتهجها الرئيس السادات.