العيب

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

- صباح الخير يا حلو.. يا مدوخنى انت يا حلو.. والنبى أنا دايخ.. وحاقع.. دا أنا خلاص وقعت..

وجّه عبارات الغزل اللزجة السوقية العلنية تلك «حمدى الجندى»، الموظف بإدارة التراخيص بإحدى المصالح الحكومية، إلى «سناء».. بمجرد دخولها لأول مرة الحجرة التى تضم ثلاثة موظفين رجال.. ورئيسهم.. وإلقاء تحية الصباح عليهم.. و«سناء» موظفة جديدة ضمن خمس فتيات أخريات وزعت أربع منهن على إدارات أخرى مختلفة..

وقد قال «الجندى» تلك العبارة همساً وهو يرفع دوسيهاً ليحجب وجهه عن الباقين.

ورغم أن رد فعل «سناء» كان مزيجاً من الغضب والاشمئزاز والاحتقار.. إلا أنه واصل فى الأيام التالية متعدياً حدود الغزل إلى عروض الزواج.. وخلف الدوسيه تسيل كلماته:

- هو أنا لا سمح الله نيتى وحشة؟!.. أنا هدفى شريف.. أنا راجل بتاع سنة الله ورسوله.. ومستعد من دلوقتى وبالشروط اللى تطلبيها.. أصلى بصراحة دايب.. وواقع.. ومش لاقى اللى يسمى علىّ..

تقرر أن توقفه عند حده وتندفع شاكية إياه لمدير الإدارة الذى يستدعيه.. وفى دهاء حقير يقلب «الجندى» الباطل حقاً.. والحق باطلاً.. مؤكداً أنها هى التى تتمحك به على أمل أن تتزوج به، رغم أنه زوج لامرأتين وأب لتسعة أطفال..

لا تجد «سناء» حلاً إلا احتقاره بتجنبها له وتجاهله تماماً ومعاملته كأنه غير موجود.. وتنشغل بعملها ومشكلتها الخاصة مع أخيها الطالب وتوفير مبلغ عشرة جنيهات هى مصاريف القسط الثانى الذى حل موعد دفعه.. وتوقف حضور الامتحان عند هذا الدفع، حيث اقتطع قيمة نصيبها من معاش والدها بمجرد تعيينها بالوظيفة.. تطرق كل الأبواب لاقتراض المبلغ وتفشل بينما موعد الامتحان يقترب..

أما حقيقة ما يجرى بشأن العمل نفسه بقسم استخراج التراخيص فقد تحول منذ سنوات طويلة إلى.. بيع التراخيص مقابل رشوة يقوم بتنظيمها وإدارتها والإشراف عليها وتوزيع نسبتها على الباشكاتب وبقية الموظفين، «الجندى».. ووجود موظفة جديدة مثل «سناء» يستلزم إشراكها مقابل نسبة ولو قليلة.. حتى لا تقوم بفضح أمرهم وعرقلة حصولهم على رشوة.. ويقرر «الجندى» أن يقوم بنفسه «بجر رجلها» وأن يقترب إليها من هذا الباب بعد أن سدت فى وجهه الأبواب الأخرى.. قرر أن يجرب معها ذلك المفتاح السحرى الذى يردد حكمته دائماً: الفلوس يا حبيبى is the master key هى كل شىء.. مفتاح السعادة ومفتاح الدنيا.. وبالذات مفتاح قلب كل امرأة على سطح الأرض.. حتى لو كانت المرأة هى «سناء» وقد وضع فى اعتباره ما تعانيه هى وأسرتها من أزمة وحاجة إلى المصاريف، وقد عرف ذلك من زميلة لها فى إدارة أخرى.

بعد محاولات طويلة مضنية.. وأساليب ثعبانية ملتوية تزين الانحراف والسقوط الأخلاقى وتبرره وتفلسفه وتطلق عليه مسميات أخرى حانية ومترفقة.. وبعد صراع ضخم يعتمل فى نفس «سناء» تسقط فى براثن «الجندى».. براثن الجريمة..

تشكل تلك المقدمة المنطقية عشرة فصول من رواية «يوسف إدريس» البديعة «العيب»، التى كتبها فى الستينات من القرن الماضى.. إنها مقدمة طويلة تمتلئ بالتفاصيل البالغة الدلالة والتأثير والكشف عن أبعاد أزمة أخلاقية تحتشد بدقائق معقدة تعبر تعبيراً عميقاً عن أسرار الذات الإنسانية واشتباكاتها مع واقع مرير.. ورغم أن القصة مكتوبة بمهارة وتحتوى على أحداث شائقة.. إلا أن التحليل النفسى للشخصيات، وخاصة شخصية «سناء»، هو فى تصورى أهم ما فى تلك الرواية الجميلة..

إن لحظة مكاشفة «الجندى» لـ«سناء» التى يورطها فى جريمة مشاركتهم فى الحصول على نصيبها من الرشوة أثناء وجود الراشى، هى لحظة رهيبة تراها أخطر وأسفل إهانة وجهت لها فى حياتها.. بل حتى فى خيالها.. فما بالك والإهانة لم تحدث فى الخيال.. إنها واقعة حقيقية.. الإهانة فيها ليست لشرفها فقط وكرامتها.. وإنما الإهانة العميقة هى أن هذا كله وجه إليها من رجل.. الأعمق والأخطر أنها فتاة (أنثى) وأن رجلاً هو الذى ظن فيها هذا الظن.. ربما لو كانت شاباً وعوملت بنفس الطريقة لما جُرحت هذا الجرح العميق.. لاعتبرت أن ما حدث سبة أو تهمة عادية وجهت إليها ولردتها مضاعفة.

إن «يوسف إدريس» يرى بجلاء بصيرته وغوصه العميق فى أغوار النفس البشرية واستخلاصه لجوهر وحقيقة الوجود الإنسانى، أن الإهانة التى وجهت إلى شرفها هى فى الحقيقة إهانة لأنوثتها.. لشرفها كأنثى وليس لشرفها كفتاة تعمل.. إهانة ليس ردها الصفع والركل وكيل أقبح الألفاظ.. فمهينها رجل.. والرجل لا يهمه أن يسب أو يشتم أو تصفعه سيدة.. بل حتى إذا همه وأهانه فهى إهانة لا توجه إلى شرفه.. قد توجه إلى شخصه أو مكانته.. لكنها أبداً لا تخدش شرفه.. ولا تجرحه الجرح الغائر الدامى.. هناك فارق رهيب إذاً بين أن يكون المرتشى أنثى وليس رجلاً.. لأن جريمة الأنثى هنا تتساوى والتفريط فى الشرف الأنثوى.

لا أعرف لماذا تذكرت تلك القصة الرائعة «ليوسف إدريس» الآن.. هل السبب هو تورط المرأة الحديدية نائب محافظ الإسكندرية فى قضية رشوة كبرى قدرها مليون جنيه، ووقائع فساد تتعلق بالتربح من المنصب الكبير والإضرار بالمال العام؟!..

ربما..