أستاذ التاريخ العثمانى بالجامعة الأمريكية: نعيش عصر الشركات العابرة للقارات.. وأصحاب رؤوس الأموال يحكمون العالم منذ مائتى عام

كتب: سيد جبيل ومحمد الدعدع

أستاذ التاريخ العثمانى بالجامعة الأمريكية: نعيش عصر الشركات العابرة للقارات.. وأصحاب رؤوس الأموال يحكمون العالم منذ مائتى عام

أستاذ التاريخ العثمانى بالجامعة الأمريكية: نعيش عصر الشركات العابرة للقارات.. وأصحاب رؤوس الأموال يحكمون العالم منذ مائتى عام

قالت الدكتورة نيللى حنا، أستاذة التاريخ العثمانى بالجامعة الأمريكية، إن الفترة الزمنية التى أعقبت ثورة 25 يناير 2011 حتى الآن تتشابه مع الفترة الزمنية التى أعقبت رحيل الحملة الفرنسية عن مصر فى عام 1801 حتى تولى محمد على مقاليد الحكم فى عام 1805، فى كثير من الأوجه منها تغير التركيبة الاجتماعية واختفاء الطبقة التى كانت تسيطر على كل شىء. وأضافت المؤرخة البارزة، فى حوار لـ«الوطن»، أن المصريين فى القرون الماضية لم يشاركوا فى اتخاذ القرار السياسى إلا فى نطاق ضيق، إذ إنه لم تكن هناك أحزاب سياسية، لكن ذلك لم يكن قصراً على المصريين دون باقى الشعوب، مشيرة فى الوقت نفسه إلى أنها لا تتفق مع الدكتور جمال حمدان فى أن المصريين كانوا مغلوبين على أمرهم، لأن الشعب كانت له أدوات أخرى للتعبير عن مطالبه، مثل الشكاوى للسلطان، والتوسط لدى رجال الأزهر، والنزول إلى الشارع إذا لزم الأمر. وأوضحت «نيللى» أن أوضاع الأقليات الدينية، كالأقباط واليهود، فى مصر، كانت أفضل بكثير فى عهد العثمانيين عن عهد المماليك الذى شهد عنفاً بحق الأقباط وحرقاً لكنائسهم، فى أوائل القرن الرابع عشر، قبل أن تتحسن أوضاعهم فى عهد الدولة العثمانية.. وإلى نص الحوار:

{long_qoute_1}

■ باعتبارك باحثة مرموقة، خصوصاً فى العصر العثمانى، أى فترة من فترات تاريخ مصر الحديث تشابهت أزماتها مع الأزمات الحالية؟

- الأزمات كثيرة لأسباب، وتتكرر، لكن التاريخ لا يكرر نفسه، والمقولة الشهيرة أن «التاريخ يكرر نفسه» ليست صحيحة، فأى حادث يكون نتيجة لعوامل كثيرة، وهذه العوامل، داخلية وخارجية، دائمة التغيير. ومع ذلك فأنا أرى أوجه شبه بين السنوات التى أعقبت ثورة يناير 2011، والسنوات التى أعقبت الحملة الفرنسية على مصر وحتى عام 1805، عندما تولى محمد على باشا حكم مصر، ولعل أهم عامل مشترك بين الفترتين هو عدم وضوح الرؤية حول من يحكم مصر، فبعد هزيمة نابليون بونابرت، نجد أن التركيبة الاجتماعية فى مصر تغيرت، والطبقة التى كانت تسيطر اختفت فجأة، وكانت هناك فوضى رغم وجود ولى أو حاكم أرسله السلطان العثمانى للقاهرة، ثم استتبت الأمور بعد الانتخابات الرئاسية فى 2014.

■ لديك اهتمام كبير كمؤرخة بالأوضاع الاقتصادية للشعب المصرى بكل فئاته؟ ما وجه الشبه بين أزمات المصريين خلال العقود التى قمتِ بدراستها، بداية من القرن الخامس عشر، والأزمة الحالية؟

- مرة أخرى الأزمات تتكرر وتتشابه ولكن الأسباب تختلف، لكن فيما يتعلق بالوضع الاقتصادى المتأزم أستطيع أن أؤكد لك أن العالم كله، وليس مصر فقط، يعيش ومنذ أكثر من مائتى عام، مرحلة صعود الأغنياء، كما قال المؤرخ الأمريكى بيتر جران. الأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقراً، وتتكدس الثروات فى أيدى فئات محدودة بينما تعانى الغالبية من الفقر. وكل هذا ناتج عن صعود نوع من الرأسمالية يمكن الشركات الكبرى (العابرة للقارات والقومية)، أمثال «جوجل» و«أمازون» و«آى بى أم» و«إكسون موبيل» وغيرها، من السيطرة على قرارات الدول وتوجيه سياساتها، هذا كان وما زال موجوداً منذ قرن من الزمان فى معظم، إن لم يكن كل، دول العالم.{left_qoute_1}

■ هل يمكن أن توضحى لنا فكرة المؤرخ الأمريكى «بيتر جران» عن «مرحلة صعود الأغنياء» بشكل أبسط؟

- لبيتر جران نظرية رصدها فى كتابه «صعود الأثرياء»، خلاصتها أنه لا يتفق مع كثيرين فى أن الملمح الأساسى للعصر الحديث هو صعود الغرب، لأنه يرى أن الملمح الأساسى هو صعود الأثرياء فى الشرق والغرب، نتيجة تطور الرأسمالية بشكل تجاوز القانون وسلطات الدولة، وما يشكل الأحداث هو تعاون هؤلاء الأثرياء بغض النظر عن بلدانهم لتحقيق مصالحهم، كما هو حادث الآن ومنذ سنوات بين الولايات المتحدة والغرب ودول الخليج الغنية بالنفط. وعلاقة الدوحة بواشنطن مثال واضح على ذلك.

■ بعض المستشرقين الذين كتبوا عن مصر «العثمانية» رسموا صورة شديدة القتامة عن شدة فقر المصريين، ما مدى صحة ذلك؟

- هذه الصورة غير دقيقة فى حال تعميمها، فمصر تحت الحكم المملوكى والعثمانى مرت بفترات رخاء وأزمات، وأغلب هذه الأزمات كان السبب فيها جفاف النيل، إذ كانت هناك مجاعة تتكرر مع كل جفاف فى النيل كل بضع سنوات، وبالتالى ضرب قطاع الزراعة، ومن ثم الهجرة من الريف إلى المدن، وهؤلاء المهاجرون كانوا الأكثر فقراً فى المدن، ومنهم يأتى أغلب المتسولين فى الشوارع، أما التجار فكان منهم أغنياء، والحرفيون كانوا بصفة عامة «مستورين». وقد رصد المؤرخ الفرنسى «أندريه ريمون» أوضاع الحرفيين من خلال تركاتهم فى القرن الـ18 وتوصل لنتيجة خلاصتها أن أوضاعهم كانت جيدة، وأن المعاناة اقتصرت على أصحاب اليومية فقط مثل «الفواعلية».. طبعاً هذا لا يتعارض مع حقيقة أن الثروة كانت مركزة فى أيدى القلة من المماليك والتجار، وعدد هؤلاء لا يتجاوز بضعة آلاف شخص، وبلغت ثروة الأمير عثمان كتخدة فى القرن الـ18، على سبيل المثال، 11 مليون بارة، وهو رقم فلكى بأسعار اليوم. أما بقية المصريين فكانوا متواضعين فى مستوى عيشهم، وبطبيعة الحال كان هناك الشحاذون والمعدمون، وكان هناك أيضاً أصحاب ثروات طائلة أمثال «الرويعى»، الذى ترك أوقافاً كثيرة فى وسط البلد، ومن بينها الحى الذى يحمل اسمه حتى الآن، وإسماعيل أبوطاقية، شهبندر التجار، فى مطلع القرن السابع عشر.

■ كيف تعرفتِ على «إسماعيل أبوطاقية» الذى خصصتِ له كتاباً بعنوان «تجار القاهرة فى العصر العثمانى.. سيرة أبوطاقية شهبندر التجار»؟

- لاحظت أثناء مطالعتى لوثائق المحاكم الشرعية، خلال إعدادى لرسالة الدكتوراه فى الثمانينات، تكرار اسم «أبوطاقية» بشكل لافت للنظر، إذ كان كثير الحضور إلى المحكمة ومناسبات أخرى كثيرة، فقررت البحث عنه، واكتشفت لاحقاً أن «إسماعيل» رجل تعود أصوله إلى مدينة حمص فى بلاد الشام، وفد إلى القاهرة مع والده أحمد أبوطاقية، فى النصف الثانى من القرن السادس عشر، بحثاً عن فرص أوسع للتجارة، وبدأ مع والده الذى كان تاجراً جوالاً، وهى أدنى المراتب فى سلك التجار، قبل أن يصبح عين أعيان التجار بالديار المصرية والأقطار اليمنية والبلاد الحجازية والشامية، وليتولى موقع «شهبندر التجار» حتى وفاته عام 1624. واللافت أن «بزنس» إسماعيل توسع بشكل مذهل حتى شملت تجارته مدن البحر الأحمر، مثل جدة، ووصلت إلى بلاد الهند، وشرق أفريقيا، وامتدت إلى مدن البحر المتوسط، ثم إلى اسطنبول والبندقية، ومن أفريقيا كان يستورد الذهب وريش النعام والعاج والعبيد، وبلغ نشاطه مدينة كانو (فى نيجيريا الآن). ولم يكتف الرجل بالتجارة، إذ شكل نشاطاً للاستثمار فى المحاصيل الزراعية، خصوصاً قصب السكر، فى المنوفية والغربية بدلتا مصر، وتمكن من بناء «مصنع» لإنتاج السكر فى القاهرة.

{long_qoute_2}

■ كم بلغت ثروته وماذا حل بها بعد موته؟

- كانت ثروة كبيرة، يصعب حصرها، لكن بعض الوثائق الخاصة بجزء من تركته، وليس كلها، تقول إنه كان يمتلك نصف مليون بارة فضة، وحتى تتخيل قيمة هذا الرقم عليك أن تعلم أن متوسط أجر العامل البسيط كان 2 بارة يومياً.. أما بالنسبة لورثته، فلم يسجل التاريخ نجاحهم فى الحفاظ على ثروته، فأولاده لم يكونوا بنفس ذكائه، وتوزعت الثروة على ولد واحد و10 بنات و4 زوجات فتبددت. ولم أعرف له أحفاداً أو أثراً استمر حتى اليوم.

■ هناك بعض المفكرين، ومنهم الدكتور جمال حمدان، كان يرى أن المصريين كانوا خاضعين ومغلوبين على أمرهم طوال تاريخهم لأسباب مختلفة، منها قدرة الحاكم على السيطرة على شريان النشاط الاقتصادى وهو النيل؟ هل تتفقين مع هذا الطرح؟

- لا أتفق مع ذلك على الإطلاق، ورؤية جمال حمدان استشراقية إلى حد ما، ومفهوم الحاكم المستبد تبلور فى أوروبا وطبق فى مصر، وفى جميع البلاد التى جرى استعمارها، بأن الشعوب لا تاريخ لها، وأن التاريخ للحاكم المستبد. ثم إن مسألة «مغلوبين على أمرهم» نسبية، وأحياناً لا معنى لها، إذا لم تأخذ ظروف كل زمن. والمصريون لم يشاركوا فى اتخاذ القرار السياسى إلا فى نطاق ضيق، لأنه لم تكن هناك أحزاب سياسية لا فى مصر، ولا غيرها. لكن من المهم أن ننتبه أن العمل السياسى لا يقتصر على وجود أحزاب وبرلمانات، فالمشاركة لها أشكال أخرى. فمثلاً كان المصريون يقدمون الشكاوى للسلطان ويلجأون لعلماء الأزهر، والأزهر كان أحياناً يقف مع الشعب، وفى أحيان أخرى مع السلطة، إلا أنه فى النهاية كان وسيطاً للناس للوصول إلى السلطة. وهناك دائماً صراعات، خاصة فى عهد الدولة العثمانية، بين سلطة إسطنبول والأعيان فى جباية الضرائب، والغالبية العظمى من عوام الناس لم تكن لديهم القدرة على المشاركة فى القرار، واندلعت المظاهرات والاحتجاجات فى الشوارع اعتراضاً على الغلاء وزيادة الضرائب.

■ هل هناك سمات مشتركة للشخصية المصرية من واقع قراءتك للتاريخ؟

- لا، لأن الشخصية المصرية متطورة ومتغيرة حسب الظروف التى يعيش فيها المصريون، وهناك ثوابت منها ارتباطنا بالنيل، لكن فى النهاية لا توجد شخصية ثابتة.

■ هناك بعض الباحثين، ومنهم الدكتورة مديحة دوس، يرون أن المصريين وجدوا صعوبة فى استخدام اللغة العربية وفضلوا عليها العامية منذ دخول عمرو بن العاص مصر، ولذلك ازدهرت مهنة كتبة المحاكم الذين يحسنون الكتابة باللغة العربية، هل تتفقين مع هذا الطرح؟

- مسألة ضعف المصريين فى اللغة العربية التى أشرت إليها منذ مقدم العرب مصر، مسألة مفهومة، لأن «العربية» كانت لغة أجنبية على المصريين الذين كانوا قبل عمرو بن العاص يتحدثون القبطية واليونانية. لكن هذه الفترة لم تكن محل دراستى، دراساتى ركزت على العامية واستخداماتها بداية من القرنين السادس والسابع عشر. فى هذه الفترة لاحظت زيادة فى تفضيل المصريين استخدام العامية، حيث تم استخدامها فى كثير من الأدبيات التاريخية والآداب وفى المراسلات فى القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. وقد مال المصريون لاستخدام العامة حتى بالنسبة للغات الأخرى التى كان البعض منهم يتحدثونها، وعلى سبيل المثال وجدنا بعض المخطوطات المكتوبة بـ«العبرية العامية»، وأعتقد أن السبب لم يكن خاصاً بمصر بل بظاهرة عالمية سببها انتشار التجارة وتوسعها، ما أدى لتحول دول أوروبية من اللغة اللاتينية إلى اللغات المحلية هناك، كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، وانتقل الأمر لمصر بحكم التجارة بين الجانبين.{left_qoute_2}

■ ماذا عن أوضاع الأقليات الدينية كاليهود والمسيحيين والمرأة تحت حكم العثمانيين والمماليك؟

- أوضاع الأقليات كانت أفضل فى عهد العثمانيين عن عهد المماليك الذى شهد عنفاً بحق الأقباط وحرقاً لكنائسهم، فى أوائل القرن الرابع عشر، والشيخ الدمنهورى الذى كان أحد كبار علماء الأزهر كتب كتاباً فى القرن الثامن عشر يوضح فيه شروط هدم الكنائس. ما يعنى أن الفكرة كانت موجودة، لكن ومع ذلك حظى أعيان الأقباط، الذين كان يعمل كثيرون منهم فى إدارة المال وثروات الأغنياء، بامتيازات كبيرة، وفى عهد الدولة العثمانية تحسنت أوضاعهم كثيراً، ولاقوا دعماً من شيخ الأزهر آنذاك الشيخ عبدالله الشبراوى، الذى كان إماماً للأزهر منذ عام 1724 ولنحو 47 عاماً، وكان على علاقة طيبة بأعيان الأقباط، وقد أفتى «الشبراوى» آنذاك، لأول مرة، بجواز احتفال الأقباط علناً فى الشوارع بخروجهم للحج، وقد فعلوا وخرجوا بالشموع والطبل والمزمار فى رحلة حجهم إلى القدس فى شوارع القاهرة، إلا أن الناس ضربوهم بالحجارة.

■ معنى ذلك أنهم كانوا مضطهدين أم يعيشون فى تسامح؟

- مرة أخرى لا توجد إجابات عامة، كل فترة لها ظروفها، والتعميم خاطئ. ومع ذلك لم يعان الأقباط فى حياتهم اليومية، وكانت المشاكل تظهر أحياناً حين يرغبون فى ممارسة شعائر واحتفالات دينية فى العلن وبصورة ملموسة. أما عن أوضاع المرأة فكانت وما زالت مرتبطة بوضعها الاقتصادى، فلم تكن النساء تعمل فى وظائف تمكنها من الاستقلال بحياتها، وحتى زوجات التجار الذين امتلكوا المال، كنّ دائماً فى حاجة لرجل يستندن عليه، وبالتالى كان وضع المرأة دائماً أقل من الرجل. وكان لذلك سبب آخر مهم، وهو ضعف نصيبها من التركات، إذ كان نصيب التركة أو الميراث محدوداً نتيجة تعدد الزوجات وكثرة الأولاد، فنصيب زوجات «أبوطاقية»، وهو الثُّمن موزع على 4 من كل ثروته الموزعة على كامل أسرته الكبيرة. وفضلاً عن كل ذلك كان العرف فى الصعيد يمنع السيدات من الميراث، وقد اكتسب هذا العرف قوة بعد أن أفتى الإمام محمد العباسى المهدى، الذى جمع بين مشيخة الأزهر والإفتاء فى عهد الخديوى إسماعيل، بجواز تطبيق العرف عند تقسيم التركات.

{long_qoute_3}

■ يقال إن الاهتمام بدراسة التاريخ المصرى تراجع لدى الباحثين من مختلف دول العالم؟

- هذا صحيح، إذ لم يعد هناك اهتمام بالتاريخ المصرى فى الخارج، مقابل توسع فى الاهتمام بالتاريخ العثمانى التركى.


مواضيع متعلقة