يا قدس.. عيوننا إليكِ ترحل كل يوم

كم تغنّى جيلنا مع فيروز ذات الصوت الملائكى عن القدس واستمع لكلماتها «عيوننا إليك ترحل كل يوم/ تدور فى أروقة المعابد/ تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد/ يا ليلة الإسراء/ يا درب من مروا إلى السماء». كانت تحمل قلوبنا معها إلى القدس شوقاً إليها وحباً فيها ورغبة فى تحريرها، كانت تُنهى أغنيتها بكلمات رائعة: «الآن الآن وليس غداً/أجراس العودة فلتُقرع». ولكن مرت أزمان طويلة ولم تتحرر القدس، ولا الأقصى، ولا كنيسة القيامة، رد نزار قبانى على فيروز لخبرته بأحوال العرب: «عفواً فيروز ومعذرة/أجراس العودة لن تُقرع/خازوق دُقَّ بأسفلنا/ من شرم الشيخ إلى سعسع».

أما تميم البرغوثى فرد عليهما قائلاً: «عفواً فيروزٌ ونزارٌ/ فالحالُ الآن هو الأفظع/ إنْ كان زمانكما بَشِعٌ/ فزمانُ زعامتنا أبشع/ أوغادٌ تلهو بأمَّتِنا/ وبلحم الأطفالِ الرُّضَّع/ والشعبُ الأعزلُ مِسكينٌ/ من أين سيأتيكَ بمدفع؟».

ورد عليهم شاعر عراقى بعد احتلال أمريكا للعراق بقوله: «عفواً فيروز ونزار/ عفواً لمقامكما الأرفع/ عفواً تميم البرغوثى/ إن كنت سأقول الأفظع/ لا الآن الآن وليس غداً/ أجراسُ التاريخ تُقرع/ بغدادٌ لحقت بالقدس/ والكل على مرأى ومسمع/ والشعب العربى ذليلٌ/ ما عاد يبحث عن مدفع/ يبحث عن دولار أخضر/ يدخل ملهى العروبة أسرع».

كانت هذه المساجلة الشعرية المعروفة تمثل أدق وصف لأحوال العرب مع القضية الفلسطينية التى كانت قديماً قضية العرب والمسلمين الأولى ثم توارت تماماً. كانت معظم الأغانى الوطنية تتغنى بالقدس وفلسطين، كانت أم كلثوم وعبدالوهاب وفيروز يغنون لفلسطين والقدس، كنا ندرس بعض هذه الأشعار ونحفظها فى المدرسة.

فى السنة الثانية الثانوية كتبتُ كتاباً عن فلسطين، كانت تجربة ساذجة وبسيطة، نتجت عن قراءتى لعدة كتب عن فلسطين، لم يكن يرقى الكتاب لأن يُطبع أو يُنشر، ولكنه كان يدل بوضوح على أن هناك اهتماماً كبيراً لدى الشباب بفلسطين، طالب فى ثانية ثانوى يكتب عن فلسطين، عشرات ومئات أمثالى كتبوا أشعاراً وقصصاً عن فلسطين وبطولات الأبطال من أجلها.

الآن لا أحد يقرأ عن فلسطين أو يكتب عنها أو يهتم بها أو يثور من أجلها أو يتفاعل مع قضايا القدس والأقصى، وخاصة بعد تلك الثورات التى خلفت صراعات سياسية عنيفة وحروباً أهلية عرقية ومذهبية داخل بلاد المسلمين.

فالشباب العربى إما دخل أو أُدخل فى هذه الصراعات السياسية والدموية، أو ولج دوامة تفاهات الحياة أو الدوامات الأخطر، الإدمان أو الإرهاب أو الشهوات المحرمة.

الشباب العربى يعانى من حالة ضياع واكتئاب، فلا يعرف قدر نفسه ولا مكانة وطنه أو مقدساته، ولا مصالحه ولا مصالح وطنه، فضلاً عن الاهتمام بقضية فلسطين والقدس، توارى الاهتمام بهذه القضية الجوهرية أمام غول البطالة والتخلف الذى ضرب بلاد العرب، فأزمة الصراع العربى العربى، واليمنى اليمنى، والسورى السورى، والعراقى العراقى قضت على كل شىء.

الآن الهمُّ الأول لكل فصيل عربى أن ينتصر على منافسه العربى ويزيحه من الجغرافيا والتاريخ والسياسة ومن الحياة بأسرها، فلا يجد وقتاً للاهتمام بفلسطين والقدس، كانت إسرائيل تخشى العرب، ولكنها الآن تستخف بهم وتسخر من غبائهم وصراعاتهم الوهمية، تسخر من عقولهم.

الآن إسرائيل أقوى من كل الدول العربية مجتمعة، ليس ذلك لقوة فى ذاتها ولكن لهوان العرب وضعفهم، إسرائيل الأولى تكنولوجياً وصناعياً وديمقراطياً، والأذكى فى استيعاب التيارات الدينية اليهودية المتطرفة فى إطار الدولة، والأولى تصديرياً، والأغرب أنها الأولى زراعياً، فهى تصدّر من الحاصلات الزراعية أكثر من الدول العربية التى تجرى فيها أكبر الأنهار.

العرب هم الذين أعزوا إسرائيل وأذلوا أنفسهم، ورفعوها ووضعوا أنفسهم، وسالموها وحاربوا أنفسهم، ووحدوها وفرقوا أنفسهم.

سنن الله لا تحابى أحداً، فمن أخذ بأسباب الهزيمة انهزم حتى لو كان مؤمناً، ومن أخذ بأسباب النصر انتصر حتى ولو كان كافراً، والعرب يأخذون بكل أسباب الهزيمة، ثم ينتظرون المعجزة من السماء، والله لن يغير سننه من أجل أحد «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً».