أين تقف الولايات المتحدة من قطر وأزمتها؟

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

تحت ضغط العديد من مؤسسات الحكم الأمريكى، يظل ترامب فى مقام التردد والمراوحة فى خطوة تصنيف «جماعة الإخوان المسلمين» كجماعة إرهابية رسمياً. رغم أنه سجل مبكراً ثناءً معلناً لمحور المقاطعة العربى لإجبار قطر على وقف دعم الإرهابيين، فى الوقت ذاته الذى تجنب فيه ريكس تيلرسون، وزير الخارجية، الانحياز المحدد تجاه طرف بعينه، ربما كونه الوزير المقبل من قطاع الأعمال «الرئيس التنفيذى لإكسون موبيل» سادس أكبر شركة فى العالم. لذلك يتحرك حامل حقيبة الدبلوماسية الخارجية الأهم فى العالم؛ وفق ما يتم وضعه على مكتبه من إنتاج بيروقراطية وزارته، حيث يغلب عليه حتى الآن ملامح التردد وعدم الظهور بمواقف واضحة لها طابع الحسم. بدا ذلك فى معظم الملفات والقضايا التى تناولتها الخارجية الأمريكية منذ وصول إدارة ترامب، لتظل جميعها عناوين تشابه فيها أداء الوزير «الباهت» مع الموقف من المقاطعة العربية لقطر.

المركز البحثى الأمريكى «مجموعة الدراسات الأمنية»، أحد منتديات الفكر البديل للمراكز الأكثر ارتباطاً بمؤسسات القرار الأمريكى؛ نشر الأسبوع الماضى تقريراً يفتش فيه عن مسارات الموقف الأمريكى من أزمة المقاطعة العربية، جاء فيه سطور عميقة الدلالة (إن تأثير جماعة الإخوان المسلمين وقطر غير المتوقع، هو مثال آخر على ما اعتاد هيرمان خان أن يطلق عليه «العجز المتعلم» فيما يعنى عدم قدرة «عدد قليل» فهم أو حتى إدراك الحقائق الواضحة للكثيرين غير المتعلمين. ومن ثم، فهى بالأساس قصة تدور حول كيف شجعت أفكار الإخوان المسلمين وأموال الدولة القطرية، الأساتذة والمراكز البحثية والبيروقراطيين فى دولة الأمن القومى الأمريكية على إثارة مجموعة خاصة من القيم والأولويات الأمريكية من خلال الانغماس فى تحيزاتهم الخاصة). تلك الصورة الأمريكية التى رصدها المركز البحثى، والنافذة لدهاليز صناعة القرار، أقرب للحقيقة الساكنة تحت المياه العميقة للبيروقراطيين المشار إليهم. فعندما كان الرئيس ترامب على وشك قيادة وزارة الخارجية لإدراج جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية؛ نشرت مجلة «فورين بوليسى» فى مارس 2017م، ومؤسسة «بروكينجز» فى أبريل 2017م، سلسلة مقالات متطابقة تقريباً. حيث ذكرت «فورين بوليسى»: «إن بعض الجماعات المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين انخرطت بالفعل فى أنشطة عنيفة، إلا أن وصم تنظيم الإخوان المسلمين بأكمله بالإرهاب، سيضر بمشاركة الجماعات الإسلامية فى العمليات الديمقراطية. ولهذا السبب، ينبغى رفض تصنيف الإخوان إرهابيين». كذلك على ذات التقييم قالت «بروكينجز»: إن معارضة الخبراء بالإجماع؛ لأن جماعة الإخوان المسلمين هم «التيار الإسلامى الأكبر»، ووصفها بأنها منظمة إرهابية سيصم جميع الإسلاميين بالتطرف، مما يشجع «القمع» ضدهم. وسيكون ذلك «ستاراً لانتشار الإسلاموفوبيا»!!

من الممكن بسهولة «مستحقة» أن نصف نحن هذا الكلام بـ«الفارغ» تماماً، لكن الأمر بجدية، هو أعمق من ذلك من حيث المعانى أو التأثير. بعبارة أخرى لن تساعد الحكومة الأمريكية بغض النظر عما سيفعله الرئيس الأمريكى على عزل قطر، بل ستركز على إنهاء هذه العزلة. ففى حين اعترف تيلرسون نفسه بأن قطر تدعم الإرهاب، أوضح أن هذا الدعم كان أقل أهمية من العلاقة معها. حيث ذكر تيلرسون: «إن أمير قطر تميم بن حمد آل ثانى حقق تقدماً فى قطع التمويل عن جماعات مرتبطة بالإرهاب، ولكن يجب عليه أن يفعل المزيد، وبسرعة أكبر، وهذا كان من المهم للغاية لتهدئة الأوضاع». بمعنى: نفضل دعم قطر التى لا تدعم الإرهاب، لكننا سوف نظل ندعمها!

لتبقى الحقيقة البارزة، حتى الآن، أن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية تفضل الإخوان المسلمين وقطر والإرهاب على بدائلهم. وليبقَى نفس السؤال الذى طرحته «مجموعة الدراسات الأمنية» هو الأهم بالنسبة لنا: كيف وصلوا إلى تلك النقطة؟

المركز البحثى الأمريكى طرح فرضية أكثر اقتراباً، أن إقناع مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية بالتغاضى عن الإرهاب من أجل ما تتصور أنه سيكون أكثر أهمية لم يكن مشكلة أبداً. إلا أنه مع انتقال الطابع الفكرى والأخلاقى للطبقة الحاكمة فى الولايات المتحدة إلى أبعد من ذلك، أصبحت العملية كمحاولة لإقناع المقتنعين.

ربما الإشارة هنا المقصود بها نماذج مثل هدايا حكومة قطر المليونية لـ(مؤسسة كلينتون) قبيل الانتخابات الرئاسية، بمناسبة عيد ميلاد بيل كلينتون، أو مؤسسة تكساس (A & M)المقربة لعائلة بوش، التى لديها فرع فى الدوحة وتعمل كشريك للمؤسسة الوطنية، وتساعد على تعيين المنح. كما تساعد فى سلاسل المنح المقدمة إلى جامعات (تكساس، وبايلور) على التأكد من أن الأشخاص المؤثرين فى ولاية الطاقة الأساسية فى البلاد لن يفتقروا إلى أصوات تفهم وجهات النظر القطرية. كما تستضيف الدوحة فرعاً من جامعة (فيرجينيا كومنولث)، مما يجعلها مناسبة لموظفى الحكومة الأمريكية لمواصلة الحصول على الدرجات التى تعرقل أوراق اعتمادهم. ومثلها يحصل الباحثون فى جامعة (أريزونا) على أموال قطرية، كمثيلها فى (دنفر، وبيتسبرج، وبورتلاند) وغيرها. ثم هناك (مجلس الأعمال القطرى الأمريكى) فى الدوحة، برئاسة «باتريك ثيروس» سفير الولايات المتحدة فى قطر سابقاً، وهو فضلاً عن كونه الصديق الشخصى والمستشار للأمير الوالد «حمد بن خليفة»، مثل الدبلوماسيين الأمريكيين السابقين لدى الدول الغنية بالنفط، شهادة حية على الازدهار المنشود، الذى يأتى من الاصطفاف عن يمين مصدر لا ينضب من الصفقات الممتازة.

لذلك فالعشرات من المؤسسات التى تدعمها قطر، ليس بالضرورة عن طريق «بيت الحكم»؛ إنما يصل الأمر واقعياً إلى عدد لا يحصى من الجهات المانحة، استطاعت جميعها أن تحقق ضمانة غاية فى الأهمية، خاصة بالسياسات الحاضنة للقضايا القطرية التى لا تجد صعوبة فى وصولها وسماعها، فى الأماكن المرموقة بحثياً وسياسياً، عبر أولئك الذين يضعون سياسة الولايات المتحدة والمنتظمين داخل هذا الجهاز المشكل بعلم وذكاء المستشارين الأمريكيين، والممول تمويلاً جيداً كاستثمار سياسى طويل المدى.