«العز بن عبدالسلام»: قاوم الحكام وقاد الشعب لمواجهة الصليبيين والتتار

«العز بن عبدالسلام»: قاوم الحكام وقاد الشعب لمواجهة الصليبيين والتتار
- الإصلاح السياسى
- البيع والشراء
- التاريخ الإسلامى
- الحمد لله
- الربع الأخير
- العالم الإسلامى
- الفترة الزمنية
- النصف الأول
- بن لقمان
- بيت المال
- الإصلاح السياسى
- البيع والشراء
- التاريخ الإسلامى
- الحمد لله
- الربع الأخير
- العالم الإسلامى
- الفترة الزمنية
- النصف الأول
- بن لقمان
- بيت المال
يبرز دور العلماء بشدة فى مواجهة المخاطر القومية الكبرى التى تواجه الأوطان، فالعلماء خاصة علماء الدين منهم يكونون فى مقدمة الصفوف حامين ومدافعين وقادة للحراك الشعبى المضاد للخطر والداعم المساند لمؤسسات الدولة الرسمية فى المواجهة، وقد كان الإمام المجدد الفقيه الصوفى الزاهد العابد العز بن عبدالسلام علامة فارقة فى تاريخ هذه الأمة وهذا الدين، فهو سلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء، كما أجمع الجميع على تلقيبه وكان من أعظم المواجهين للمخاطر المحدقة بالدين والأمة.
{long_qoute_1}
وُلد العز بن عبدالسلام بدمشق سنة 577هـ ونشأ بها، عاش العز بن عبدالسلام فى الربع الأخير من القرن السادس الهجرى، وأكثر من النصف الأول من القرن السابع (577-660هـ)، وعاصر الدولة الأيوبية والدولة المملوكية فى الشام ومصر، وتعد هذه الفترة الزمنية من أشد العصور فى التاريخ الإسلامى اضطراباً وقلقاً؛ يروى الإمام الزحيلى أنه كانت سلطة الخلافة العباسية والدول القائمة تحت نفوذها فى ارتفاع وانخفاض مطلقين، والناس يتنقّلون بين الاستقلال والاحتلال، والوحدة والانفصال؛ ففى القرن الخامس الهجرى اتجه الصليبيون إلى ديار الإسلام، فاحتلوا أجزاء كثيرة من العالم الإسلامى، حتى سقط بيت المقدس فى أيديهم سنة 492هـ، ثم جاء عهد عماد الدين زنكى أمير الموصل الذى تصدى للصليبيين، وبدأ بتوحيد صفوف المسلمين، ثم خلفه ابنه نور الدين محمود الذى اتسم عهده بالصلاح والاهتمام بالعلم، فسعى لتوحيد البلاد الإسلامية وجمع صفوفها ضد أعداء الإسلام، حتى توفى سنة 569هـ، فخلفه صلاح الدين الأيوبى الذى كان نائباً عنه فى حكم مصر، فأسس الدولة الأيوبية، وبدأ فى الإصلاح السياسى والعلمى والاجتماعى والعسكرى، وسعى إلى توحيد الشام ومصر، ثم اتجه إلى محاربة الصليبيين، فاستطاع أن يسترد بيت المقدس سنة 583هـ، وتابع تحرير فلسطين وسائر بلاد الشام من الصليبيين حتى توفى سنة 589هـ.
وبعد وفاة صلاح الدين الأيوبى وقعت الفُرقة بين حكام الإمارات والمدن من أبناء صلاح الدين وإخوته، فانقسمت الدولة الأيوبية إلى دُويلات يتآمر حكامها على بعض، ويحارب بعضهم الآخر، فاشتد ضعفهم، وهزلت صورتهم وكيانهم أمام الصليبيين من الغرب، والتتار من الشرق، ووصل بهم الأمر إلى أن يتحالف بعضهم مع الصليبيين ويستعينوا بهم على إخوتهم أو أبناء إخوتهم، ويُسلِّموهم البلاد والقلاع والحصون، واستمر الأمر كذلك حتى انتهت الدولة الأيوبية، وبدأت دولة المماليك، وتولى قطز الإمارة سنة 657هـ، واتجه لملاقاة التتار المقبلين من الشرق، وقد أسقطوا الخلافة العباسية فى بغداد سنة 656هـ، ودخلوا الشام واتجهوا نحو مصر.
اشتهر العز بن عبدالسلام بمواقفه العظيمة أمام حكام عصره، فحينما اشتد الصراع بين حاكم دمشق «الصالح إسماعيل بن الكامل» وأخيه «نجم الدين أيوب» سلطان مصر (توفى سنة 647هـ)، حتى إن حاكم دمشق حالف الصليبيين، لينجدوه من الصالح أيوب ويساعدوه عليه، وسلّم إليهم لقاء ذلك صيدا والشقيف وصفد وغير ذلك من حصون المسلمين، وذلك سنة 638هـ، وزيادةً على ذلك، أذن إسماعيل للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين فى مصر، فغضب العز بن عبدالسلام، فأفتى بحرمة بيع السلاح للصليبيين قائلاً: «يَحْرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين»، ثم صعد منبر المسجد الأموى الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة، وشنّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة، وصار يدعو أمام الجماهير بخلع السلطان واستبداله، ويقول: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُعمَل فيه بطاعتك، ويُنهى فيه عن معصيتك»، والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على الأعداء، فأمر الحاكم بعزله واعتقاله، ثم رأى أن يستميله فأرسل إليه رسولاً يقول له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتُقَبِّل يده!. فقال الشيخ: «والله ما أرضاه أن يقبّل يدى، فضلاً عن أن أقبّل يده، يا قوم أنتم فى واد، وأنا فى واد، والحمد لله الذى عافانى مما ابتلاكم به»، فقال رسول الملك: قد رُسِمَ لى أن توافق على ما يُطْلَبُ منك، وإلا اعتقلتك! فقال الشيخ: «افعلوا ما بدا لكم».
انتقل العز إلى مصر وعندما وصل إليها سنة 639هـ، رحّب به الملك الصالح نجم الدين أيوب وأكرم مثواه، ثم ولاّه الخطابة والقضاء، وكان أول ما لاحظه العزّ بعد توليه القضاء قيام الأمراء المماليك، الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم فى خدمته وجيشه، وتصريف شئون الدولة يمارسون البيع والشراء وهو تصرف باطل؛ لأن المملوك لا ينفذ تصرفه، فأخذ سلطان العلماء لا يمضى لهم بيعاً ولا شراءً فضايقهم ذلك وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى، فقال لهم بائع الملوك: أنتم الآن أرقَّاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمَّم، لا يصحَّح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، فتعطلت مصالحهم، وكان من جملتهم نائب السلطان الذى اشتاط غضباً، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك فقال: نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعى فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ -رحمه الله- فى دخوله فى هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به.
فلما لم يستطع سلطان العلماء تحقيق العدل عزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن مصر حاملاً أهله، ومتاعه على حمار، وركب حماراً آخر، وخرج من القاهرة، وما إن انتشر الخبر بين الناس فى مصر، حتى تحركت جموع الناس وراءه، فلم تكد امرأة ولا صبى ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف، ولا سيما العلماء، والصالحون، والتجار، فرُفِعَت التقارير حول هذه الظاهرة إلى السلطان، وكانت التوصيات: متى رحل كل هؤلاء ذهب ملكك فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه، وطيبَّ قلبه، فرجع بشرط أن يُنادى على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، فأرسل إليه كبيرهم -نائب السلطان- بالملاطفة والشيخ لم يتغير؛ لأنه يريد إنفاذ حكم الله، عندئذ، انزعج نائب السلطان من ذلك وقال: كيف ينادى علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض، والله لأضربنَّه بسيفى هذا بنفسى فى جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف فى يده صلتاً، فطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمراً جلداً، فعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال لولده فى ثبات وتواضع: يا ولدى: هل أبوك أقلُّ من أن يُقْتل فى سبيل الله، فلما رآه نائب السلطان؛ اهتزت يده وارتعدت فرائصه وسقط أرضاً، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له قائلاً: يا سيدى! خيراً، أى شىء العمل؟ فقال الشيخ: أنادى عليكم وأبيعكم، قال نائب السلطان: ففيم تصرف ثمننا؟ قال الشيخ: فى مصالح المسلمين، قال نائب السلطان: من يقضيه؟ قال الشيخ: أنا، وأنفذ الله أمره على يد الشيخ -رحمه الله- فباع الملوك منادياً عليهم واحداً تلو الآخر، وغالى سلطان العلماء فى ثمنهم وقبضه وصرفه فى وجوه الخير التى تعود بالنفع على البلاد والعباد، وبعدها عرف الشيخ العز، بـ«بائع الملوك» واشتهر أمره فى الآفاق.
وكان للعز دور مهم فى معركة المنصورة حينما تعرضت مصر آنذاك إلى حملة صليبية جديدة سنة 647هـ يقودها لويس التاسع ملك فرنسا، فاستولوا على دمياط ثم اتجهوا إلى القاهرة حتى وصلوا إلى المنصورة، حيث دارت معارك هُزم فيها الإفرنج وأُسِرَ لويس التاسع وكبار قواده، وحبسوا فى دار ابن لقمان، يقول ابن السبكى: «وكان الشيخ (العز بن عبدالسلام) مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخُ حالَ المسلمين نادى بأعلى صوته مشيراً بيده إلى الريح «يا ريحُ خُذيهم» عدة مرات، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثرُ الفرنج، وصرخ من بين يدى المسلمين صارخ: الحمد لله الذى أرانا فى محمد رجلاً سخّر له الريح»، وكان النصر المبين للمسلمين، واعتبر المؤرخون هذه الصيحةَ من كرامات العز بن عبدالسلام.
ولم تتوقف عجائب الشيخ الجليل سلطان العلماء وبائع الملوك عند ذلك الحد، فحين هاجم التتار البلاد الإسلامية ودمروا بغداد، وأبادوا المسلمين وعظم خطرهم على العالم الإسلامى استشاره السلطان قطز بأمر المملكة وحرب التتار قال رحمه الله: اخرجوا وأنا ضامن لكم على الله النصر، فقال السلطان له: إن المال فى خزانتى قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار ما أستعين به على قتال التتار، فقال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الإمام قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى فى بيت المال شىء، وأن تبيعوا مالكم من الحوائص المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوب وسلاحه ويتساوون هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقائه فى أيدى الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، وكان فى مجلس السلطان كبار العلماء والفقهاء والقضاة فأيدوا ما ذهب إليه ابن عبدالسلام، فنفذ الملك والأمراء والجند فتوى العز وامتثلوا أمره، فأحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلى نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئاً فى الباطن.