وزير التخطيط الأسبق يشرح: الشعبوية الاقتصادية.. الجذور والدلالات والتوابع

وزير التخطيط الأسبق يشرح: الشعبوية الاقتصادية.. الجذور والدلالات والتوابع
- أسعار البترول
- أسعار السلع
- أصحاب الأعمال
- أصوات الناخبين
- أولى بالرعاية
- ارتفاع أسعار
- استطلاعات الرأى
- اقتصاد السوق
- اقتصاد العالم
- الأزمة الاقتصادية
- أسعار البترول
- أسعار السلع
- أصحاب الأعمال
- أصوات الناخبين
- أولى بالرعاية
- ارتفاع أسعار
- استطلاعات الرأى
- اقتصاد السوق
- اقتصاد العالم
- الأزمة الاقتصادية
قدم الدكتور عثمان محمد عثمان، وزير التخطيط الأسبق، تعريفاً للشعبوية الاقتصادية قال فيه، إنه "من المعتاد مع نهاية كل عام أن نقرأ ونسمع عن اختيار شخصية العام أو حدث العام، أو كتاب العام ... إلخ. ولكن ربما من غير المسبوق أن ترصد إحدى كبريات الصحف الأمريكية ما يجوز اعتباره كلمة العام، وتسجل أنه يمكن ايجاز مجريات سنة 2016 في كلمة واحدة هي "الشعبوية"populism (Adam taylor). بعد أن كانت نادراً ما تُسْتَخْدم خارج الدوائر الأكاديمية فى أقسام العلوم السياسية، أصبحت كلمة الشعبوية واسعة التناول فى المجالات العامة، بل لم تعد الكلمة تستخدم على اطلاقها، بل أصبح يضاف إليها صفة تعكس أحد نطاقات الاهتمام مثل الشعبوية الاقتصادية، والشعبوية السلطوية، والشعبوية المتطرفة، وغيرها".
وأضاف "عثمان"، في مقال مطول لموقع معهد التخطيط، أنه "بغض النظر عن المفهوم الدقيق، أو مضمون ودلالة هذا التعبير، الذي تتباين حوله الكتابات والآراء، بل ربما يساء استخدامه وتُحَرًّف معانيه، فالأغلب أن تستخدم صفة "الشعبوية" للتقليل من شأن شخص سياسى لأنه غير جاد أو يقدم حلولاً مبسطة –غير واقعية– للمشكلات القائمة. وبصفة عامة يكمن محتوى الشعبوية في الشعار المعارض لمؤسسة النظام الحاكم: "نحن"، "وهم". نحن "الشعب" ضد "النظام" ومؤسساته. الشعبوية تعطي لنفسها الحق في التحدث باسم الغالبية الصامتة، توجه سُخطها ضد النُخَب، تُعادى الأثرياء، إلخ.التفسير الواضح المباشر لاحتلال مفهوم الشعبوية، ساحة التحليل السياسى، والإعلامى، والفكرى، ومراكز البحث والدراسة يكمن فى ارجاع التطورات البارزة التى وقعت فى الآونة الأخيرة إلى صعود الشعبوية. يأتى فى مقدمة هذه الأحداث تصويت الأغلبية على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وانتخاب السيد "دونالد ترامب" رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية".
وتابع "عثمان": "وتكتسب ظاهرة الشعبوية أهميتها باعتبارها عنصراً رئيسياً في تفسير هذه التطورات، من خطورة هذه التطورات ذاتها، إذ ترى الإيكونومست (المجلة البريطانية الشهيرة) أنه إذا كان سقوط حائط برلين فى 9 نوفمبر 1989 قد اُعْتٌبِر "نهاية التاريخ"، وانتهى الصراع بين الشيوعية والرأسمالية وتلاشى الخلاف الإيديولوجي، وتم تكريس نظام اقتصاد السوق، والديمقراطية الليبرالية الذى ساد منذ الحرب العالمية الثانية، فإن 9 نوفمبر 2016 الذى شهد مؤشرات فوز ترامب بالرئاسة، أظهر سقوط هذا الوهم؛ فها هو التاريخ يعود ولكن بانتقام. وأدى شيوع الحديث عن ظاهرة الشعبوية، خلال الفترة الأخيرة إلى ترسيخ احساس المفاجأة فى فوز ترامب بالرئاسة، ومن قبله التصويت على البريكست".
وأردف قائلاً: "يرى البعض أن هذه الأحداث، التي وقعت على امتداد فترة بعيدة جرى توقعها من قبل، وكانت متوقعة بالفعل، ولكن ليس من خلال استطلاعات الرأي؛ أو التحليلات التي تتناول الوقائع والتغيرات منفردة، ولا ترى الرابطة، التي تجمعها معاً فى تسلسل قد لا يكون ظاهراً بجلاء. لقد وقعت الظواهر "الترامبوية" trumpism في معظم الدول الأوروبية، وعلى ساحتي اليمين واليسار في آن واحد، ولا شك أن أحزاب اليمين واليسار التى اعتمدت الظاهرة الشعبوية، تتخذ مواقف متباينة. إذ يتبنى "اليمين الجديد" أفضلية المواطنين على المهاجرين، وتمسُكاً عارضاً بالمفهوم الليبرالي لحقوق الانسان.
وتابع: على النقيض؛ يحبذ "اليسار الجديد" سياسات إعادة التوزيع والنمو الاحتوائى لا الإقصائى. ومع ذلك يشترك الطرفان – على غير ما يعتقد كثيرون– فى الدعوة إلى الرفاهية للجميع والعداء للعولمة، والأكثر مدعاة للدهشة هو تماثلهم فى تأييد دور أكبر للدولة، وضد هيمنة سدنة القطاع المالى (يقولها اليمينيون على استحياء). ما الذى دفع بالأحزاب نحو توجهها للشعبوية؟؟ يفسر البعض ذلك بعوامل اقتصادية محضة، كما يرجعها آخرون إلى اعتبارات سياسية - جيوبوليتكية. المهمشون واللامساواة لماذا كانت الشعبوية وراء فوز ترامب.
وقالا: "مثلاً؟ لدى البعض فقد صوت الأمريكيون ليس لتغيير الحزب، ولكن بصفة أساسية لتغيير النظام regime، فقد حٌمِل السيد ترامب إلى البيت الأبيض فوق موجة من الغضب الشعبى. ما هى أسباب هذا الغضب؟ مرة أخرى نٌذَكِّر باتساع شقة الخلاف حول مفهوم الشعبوية ومحتواها. تغذى الغضب – فى شق منه– بترديد أن الأمريكيين العاديين لم يشاركوا فيما وصلت إليه بلادهم من رخاء. فقد أصبح متوسط الدخل الحقيقي للفرد أقل من مستواه فى السبعينيات".
وتابع: "وخلال الخمسين سنة الماضية – باستثناء التوسع في التسعينيات – أصبحت الأسرة في الطبقة المتوسطة تحتاج إلى فترة أطول لاسترداد الخسارة التى تلحق بها مع كل حالة ركود اقتصادى. صاحب نوبل فى الاقتصاد Stiglitz Joseph يُرْجِع صعود السيد ترامب إلى تبنى النيوليبرالية التى حكمت السياسة الاقتصادية خلال العقود الأربعة الماضية. لقد أدت هذه السياسة إلى أن متوسط دخل العامل الأمريكى من دوام كامل أصبح أقل من مستواه قبل 42 سنة مضت. كما أصبح أكثر صعوبة على أصحاب التعليم المحدود أن يجدوا عملا دائما وبأجر مناسب".
واستكمل: "يتسع هذا التفسير ليشمل إلى جانب شعور الأمريكيين بأنهم ضحايا النظام الاقتصادى غير العادل، الموقف من النخبة السياسية فى واشنطن، واتهامها بالضعف وافتقاد الحنكة فى مواجهة الأجانب وكبار رجال الأعمال، بل والأسوأ اعتقادهم أن النخبة ذاتها جزء من المؤامرة. وبدرجة من التعميم – قد تبدو صائبة إلى حد بعيد- تخلُص الايكونوميست إلى أن انتخاب السيد ترامب هو بمثابة رفض لليبرالية، رفض للسوق الحرة والديمقراطية الليبرالية التقليدية، الذى انعكس فى التصويت فى بريطانيا ثم الولايات المتحدة الأمريكية، وسيأتى الدور على فرنسا وايطاليا وغيرهما من البلدان الأوربية. من الواضح أن التأييد الشعبى للنظام فى الغرب استند إلى النمو الاقتصادى السريع والتصدى الحاسم للتهديد السوفيتى، أكثر مما يعود إلى قناعات فكرية ثقافية. أما فى الأوقات الراهنة فإن الديمقراطيات الغربية لم تقدم سوى القليل لتوزيع عوائد الرفاهية والرخاء".
وأوضح: "عجز النظرية الاقتصادية لقد كان الهدف الاقتصادى الأساسى – فى الدول المتقدمة – يتراوح من فترة لأخرى بين تخفيض البطالة وكبح جماح التضخم. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قررت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها أن استمرار البطالة الواسعة يمثل تهديداً وجودياً للرأسمالية يلزم تجنبه مهما كانت التكلفة. ولذلك استهدفت الحكومات المختلفة "التشغيل الكامل" كمعيار حاكم للسياسة الاقتصادية".
وقال: في سبيل انخفاض معدل البطالة واستقراره عند 4% يستطيع أصحاب القرار الاسترشاد بالنظرية الاقتصادية لتحقيق هذا الهدف. ولكن فى ظل اقتصاد السوق وتحقيقاً لشروط النظرية فإن استهداف التشغيل الكامل واستمرار البطالة عند معدل طبيعى (3 – 4%) لفترة طويلة، يؤدى إلى انعدام تكلفة الانتقال من عمل لآخر. ومن ثم تتجه الأجور إلى الارتفاع باضطراد بغرض الحفاظ على العمالة، ولا يكون أمام أصحاب الأعمال فى مواجهة ذلك سوى رفع الأسعار. يُعَرِّف الاقتصاديون تلك الآلية بالتضخم المدفوع التكلفة cost –push inflation".
وأضاف: "الواقع أن السباق بين الأجور والأسعار، الذى بدأ فى السبيعنيات متزامنا مع نهاية بريتون وودز، ثم موجة ارتفاع أسعار البترول فى 1974، أطلق جماح التضخم. وفقاً Mark للكاتب Mark Blyth - ومن قبله Kalecki - فإن النظرية تُقَوٍّض أساسها بنفسها. يأخذنا مفهوم الاقتصاد السياسى من ساحة المتغيرات الاقتصادية المجردة إلى التفاعل والعلاقة المتبادلة بين أطرف المتعاملين فى الاقتصاد من فئات اجتماعية مختلفة. التضخم المرتفع مفيد للمدينين، ضار بالدائنين (المقرضين).
واستطرد، قائلا: "منذ منتصف السبعينيات، زادت حصة الأجور فى الناتج الاجمالى وبينما بقيت عوائد الشركات منخفضة، استقوت التنظيمات النقابية وتراجعت اللامساواة ، ولأن التضخم هو فى حقيقته ضريبة على عوائد الاستثمار والاقراض؛ فقد كان رد فعل المتضررين متوقعاً، فقد تحالف أصحاب الأعمال والمقرضين لقيادة ثورة صديقة للسوقmarket – friendly revolution تهدف إلى التخلى عن هدف التشغيل الكامل لصالح استقرار الأسعار (مكافحة التضخم)".
وواصل: "أصبحت هذه السياسة هى محور نظام (النيو ليبرالية). انقلب الحال خلال العقود الثلاثة التى تلت ذلك. وارتفعت حصة رأس المال فى الناتج الاجمالى إلى مستوى غير مسبوق، مقابل انخفاض نسبة الأجور وذهبت معظم عوائد زيادة الانتاجية إلى أصحاب رأس المال. (ومثلما ارتدت النظرية على ذاتها عندما استهدفت السياسة الاقتصادية تحقيق التشغيل الكامل جرى الأمر نفسه عندما استهدفت تخفيض التضخم). في ظل التضخم المنخفض أصبح الائتمان رخيصاً، وقام القطاع الخاص بالاقتراض المكثف".
وزاد: "في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية قفزت ديون القطاع العائلى فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى 12.25 تريليون دولار. المشكلة تكمن فى ارتفاع الديون المستحقة على مكتسبى الأجور إلى مستوى لا تتمكن زيادات الأجور من سدادها وتخفيضها. فى ظل هذا الوضع ترتفع قيمة الديون بينما تتضاءل القدرة على سداد هذه الديون. يُعَوِّل البعض على فهم وتتبع حركة المتغيرات الاقتصادية ورصد انعكاساتها الاجتماعية والسياسية لتفسير ظاهرة الترامبوية- الشعبوية الاقتصادية. لقد ارتبطت التغيرات الاقتصادية بتغير ميزان القوى بين الدائنين والمدينين. أصحاب المال يريدون استرداد قروضهم، المدينون لا يرغبون، وغير قادرين على رد الديون. ولكن هذا الوضع ارتبط سياسياً بتقوية موقف المدينين، لأنهم فى النهاية يملكون حق التصويت.
وقال: "أدى هذا إلى خلق حالة عداوة ضد (الدائنين) وداعمة لائتلاف المدينين وأصبحت الظروف مواتية لاستغلالها من المتمردين الشعبويين على جانبى اليمين واليسار.(9)هل هى نهاية العولمة؟يعتب Joseph S. Nye على البعض اللذين برجعون فوران الشعبوية للاعتبارات والضغوط الاقتصادية وحدها. فقد انتخب البولنديون حكومة شعبوية رغم استفادتهم من معدلات النمو الاقتصادى المرتفعة، بينما كانت كندا محصنة فى 2016 ضد الشعور المعادى للمؤسسة (النظام) الذى أرق جارتها. إن العوامل الثقافية أشد تأثيراً من غياب الأمان الاقتصادى بالنسبة لقوة العمل فى مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية. إن الشعبوية تمثل رد فعل قطاعات من الشعب للتغير فى القيم التى تهدد وضعها المهيمن وسيطرتها. ومن هنا يثور الشك فى أن السياسيين الشعبويين يمكن دحرهم فقط من خلال سياسات تهدف إلى تحسين الأحوال الاقتصادية لمؤيديهم".
وأكد أنه "ليس من السهولة عند محاولة فهم ظاهرة الشعبوية ترجيح الكوامن الاقتصادية، مثل زيادة معاناة المهمشين، واتساع الفوارق فى توزيع الدخل، على الاعتبارات الدولية فى رفض العولمة والنزوع إلى الحمائية. الواقع أن القول بتأثير حدة اللامساواة وزيادة سوء توزيع الدخل يمكن أن يقود إلى أن ذلك مرده – فى الأساس– إلى العولمة التى أدت إلى تنقلية العمالة والصناعة، مما تولد عنها زيادة فروق الدخل، ومعها زيادة قلق الناخبين مما دعم البركست وترامب. ينتهى البعض إلى أن الثورة على النخبة ليست مدفوعة فقط بالكراهية والخسارة والعنصرية، وإنما ارتبطت كذلك بتغيرات الاقتصاد العالمى ذاته، إنها ظاهرة عامة تؤكد أن مرحلة النيوليبرالية قد انقضت، وأن مرحلة الدولة "القومية" قد عادت.
وشدد على أنه هناك إذن من يرون، أن عدم الرضا وحالة القلق فى الولايات المتحدة والدول الأوربية التى أدت إلى صعود الظاهرة الشعبوية لا يكفى لمواجتها السياسات التى تحاول زيادة الحراك الاجتماعى، وتحسين دخل الطبقة المتوسطة .. إلخ. إذ أن "اللامساواة" ليست هى السبب الجذرى وراء الظاهرة، ولكن الاحساس بالخسارة وفقدان السيطرة هو الذى يحفز الدعاوى الشعبوية".
وأكمل: "حتى مع إمكان سد فجوة الدخل والثروة وضمان الحراك الاجتماعى، ستبقى العوامل المغذية لعدم الرضا الشعبى على حالها فى مختلف أرجاء العالم. لاثبات وجهة نظرهم يشير هؤلاء إلى نتائج استقصاءات رأى من أدلوا بأصواتهم فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة؛ التى ظهر منها أن الفقراء هم من فضلوا السيدة كلينتون، بينما اختار الأغنياء السيد ترامب، أى أن ترامب مدين فى فوزه للناخبين غير القلقين من الهبوط على السلم الاقتصادى. وهناك أيضا ما يشير إلى أن رجال الأعمال الأثرياء دعموا حملة الخروج من الاتحاد الأوروبى. ولعل المثير للدهشة أن نعرف أن مشاعر البريطانيين العاديين التى ساهمت فى فوز دعاوى الخروج لا تعود إلى عدم عدالة توزيع الدخل، أو هي ضد 1% من السكان؛ ولكن الناخبين من الفقراء والمهمشين وجهوا غضبهم نحو نظرائهم من الفقراء والمهمشين، بصفة خاصة المهاجرين، وليس ضد الأغنياء".
وتابع قائلاً: "ما يجمع بين مؤيدي كل من ترامب والخروج من الاتحاد الأوروبي ليس هو الغضب جراء استبعادهم من دوائر المستفيدين من عوائد العولمة، وإنما الشعور المشترك بعدم الارتياح لأنهم لم يعودوا يتحكمون فى مصائرهم. قد تؤدى زيادة تفاوتات الدخل إلى تفاقم حالة عدم الرضا، ولكن ثمة عوامل أخرى، بل أكثر أهمية، تفسر حالة الغضب والقلق من جانب كافة فئات الدخل ومستوياته، وليس المهمشين وحدهم.ويربط البعض بين هذا التوتر والغضب وبين آثار العولمة وانعكاساتها ؛ وخاصة على توزيع الدخل العالمى. هناك من يرون أن تراجع تفاوت الدخل على المستوى العالمي، وليس زيادة اللامساواة داخل كل دولة، هو الذى ولد ضغوطاً شديدة على النظام الدولي. ولقد أدى ذلك إلى أن يتراجع وينحسر نفوذ دول "محور الأطلنطى" التى كانت تدير العالم ، وقد تزايد الشعور بفقد السيطرة والتحكم لدى النخب السياسية فى هذه الدول، ولدى المواطنين العاديين كذلك. ولا شك أن ترامب وأنصار الخروج من الاتحاد الأوروبى قد استثمروا هذا الشعور وقدموا الوعود باستعادة نفوذ بلادهم فى نظام دولى سريع التغير".
وزاد: يرصد الباحثون تتابع هذه الدورة من التطورات الاقتصادية الحادة التى يعقبها تغيرات سياسية شديدة. فقد تبع أول سقوط للعولمة، كما وصفها ماركس وانجلز فى 1848، الاصلاح القانونى الذى أقر حقوق الطبقة العاملة. وانهيار الاستعمار البريطانى فى أعقاب الحرب العالمية الأولى تبعه "الاتفاق الجديد" New Deal ودولة الرفاهية، كما أن انكسار الاقتصاديات الكينزية بعد 1968 تبعه صعود التاتشرية – الريجانية. وقد دعا هذا التتابع إلى أن يتوقع البعض "الانهيار الرابع" للرأسمالية العالمية، بعد انفجار وتفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية فى 2008.
وواصل: "عندما يعمل نموذج الرأسمالية بنجاح، يؤدى التقدم المادى إلى تخفيف الضغوط السياسية، بينما يؤدى التراجع الاقتصادى، خاصة إذا استمر لفترة ممتدة وأصبح عرضاً لتناقضات عميقة، إلى تفاقم الانعكاسات السياسية للتغيرات الاجتماعية. وهذا هو ما حدث فى أعقاب أزمة 2008. فعندما بدا واضحاً أن فشل حرية التجارة والتحرير الاقتصادى، وازالة الضوابط ، وتهافت النظرية النقدية سيؤدى إلى حالة عادية من التقشف الدائم، وتضاؤل التوقعات، أكثر من حدوث مجرد أزمة عارضة تعانيها البنوك، لم يكن ممكناً اكتساب الشرعية والقبول باللامساواة ، والبطالة ، والتناقضات الثقافية.الثقة العمياء فى العولمة دفعت البعض للمبالغة فى نتائجها مما خلق توقعات مستحيلة من تحرير التجارة. وبدلا من الاعتراف بدور أسعار السلع فى حفز التجارة والنمو فى بداية القرن الجديد أرجع معظم الاقتصاديين والسياسيين هذه التطورات الإيجابية لسياسات تحرير التجارة. لقد رسخ ذلك فكرة ان العولمة المتزايدة هى مفتاح الكسب للكل. ولم يكن مستغرباً عندما لم تتحقق هذه المكاسب أن شعر الكثيرون بالخديعة ورفضوا "التجارة الحرة".
وأكد أن "السياسة والقرارات الاقتصادية عندما نلحظ هذا النوع من التحولات، فإن دعوات الاصلاح الجزئى التى تحاول معالجة مشكلات الهجرة، التجارة، أو تفاوت الدخل، لن تصمد فى مواجهة السياسيين المتطرفين الذين يرفضون النظام برمته. لا يجوز القاء اللوم على الهجرة، التجارة، أو التقدم التكنولوجى، كسبب لنقص فرص العمل الصناعية الجيدة. ولكن عندما ترتبط هذه العوامل للمنافسة الاقتصادية بزيادة الدخل القومى، فليس هناك ما يضمن بالضرورة أن تتوزع عوائد الدخل بطريقة مقبولة اجتماعيا. وكي يتحقق ذلك، يلزم التدخل السياسى الصريح على جبهتين: فمن ناحية، يتوجب أن تضمن إدارة الاقتصاد الكلى نماء الطلب بقوة تماثل زيادة العرض الناجمة عن التقدم التكنولوجى والعولمة".
وأوضح: هذه هي أسس الكينزية التى جرى دحضها مؤقتا فى غضون صعود "النقودية" أوائل الثمانينيات، ثم أعيد ترسيخها فى التسعينيات، ولكن تم اهمالها مجدداً فى ظل أزمة العجز بعد 2009. ربما تكون العودة إلى إدارة الطلب الكينزية هى الميزة الاقتصادية للإدارة الاقتصادية القادمة؛ وقد تكون الولايات المتحدة الأمريكية جاهزة لهجر الدوجما النقدية لاستقلال البنك المركزى أى استهداف التضخم، وإعادة "التشغيل الكامل" على رأس أولويات إدارة الطلب.من ناحية ثانية، لا بد من ثورة فكرية فى مفهوم دور الدولة وتدخلها فى الشأن الاجتماعى والاقتصادى، وأن أسس السوق تخفى الكثير من التناقضات.
وقال: التجارة الحرة، والتقدم الفني، وغيرها من العوامل التى تحقق الكفاءة، تُعَدُّ مفيدة، من الناحية النظرية، للمجتمع ككل، حتى لو ألحقت ضرراً ببعض الأفراد من العمال أو أصحاب الأعمال، ذلك أن تنامى الدخل القومى يمكن الذين ربحوا من تعويض الذين لحقت بهم الخسائر، ومن ثم لن يضار أحد. إن ما يعرف " بأمثلية باريتو" يُتخذ مبرراً أخلاقياً لسياسات حرية السوق، ويعتمد على الافتراض الجوهرى بأن القرارات السياسية سوف تعيد توزيع الدخل من الرابحين لصالح من تلحقهم الخسارة. ما الذى يحدث عندما يفعل السياسيون عكس ذلك فى الواقع؟ إن أنصار حرية السوق لا يتجاهلون فحسب مسألة إعادة التوزيع، بل هم يرفضونها. ولكن بعد أحداث 2016 لا يمكن إغفال التعارض بين الفوائد الاجتماعية والخسائر الفردية.
وواصل: يصبح ضرورياً تدخل الدولة لإعادة توزيع عائد النمو الاقتصادى؛ فى ظل نموذج مختلف لاقتصاد السوق والرأسمالية.بينما قد يرى البعض أن ظاهرة الشعبوية مآلها إلى انحسار فما زال آخرون غير مقتنعين بأنه يمكن إعادة " العفريت إلى القمقم". وعلى الرغم من ذلك، فإن عناصر المقاومة لتبعات الدعوات الشعبوية ما زالت قوية وصامدة . ويعول الخبراء فى ذلك على ديناميكية السوق والأثر الصافى لتفاعل الاعتبارات السياسية والأسس الاقتصادية. فإلى جانب القناعة بسلامة هذه الأسس، يحذر اقتصاديون من هيمنة القاعدة المرزولة: " القرارات السياسية الرديئة تطرد الاقتصاديات الجيدة ". يؤدى ذلك إلى زيادة الغضب الشعبى والإحباط وخيبة الأمل مما يزيد الأوضاع السياسية اضطراباً.
وقال: ما لم يتم تصحيح هذه الأوضاع طوعاً على أيدى قادة سياسيين راشدين فإن تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية سوف يجبر متخذى القرارات على تطبيق إجراءات أشد سوءاً. ولكن هل تستطيع السوق أن توفر حائلاً وحائط صد ضد الديماجوجية ( الغوغائية) التى قد تنطوى عليها الشعبوية؟ ربما تشكك أحداث التاريخ فى هذه القدرة. ففى العشرينيات والثلاثينيات صعدت الفاشية فى إيطاليا وألمانيا على أكتاف رأس المال الكبير. ولكن اختلاف الظروف فى الزمن الراهن قد يُمَكِّن الأسواق من القيام بدور مغاير. الأسواق فى ظل العولمة تعنى إن تنافس الأعمال ورؤؤس الأموال فى الاقتصاد العالمى لا يقبل ولا يتحمل تلك النزعات القومية (القطرية nationalism) القاصرة.
واستطرد: على رأس قائمة المقتنعين بأن الفوز المثير لترامب يعود إلى أن كثيراً من الأمريكيين خاصة الرجال البيض، يشعرون بأنهم أهملوا وتركوا خارج دائرة الرخاء الأمريكى، يأتى الاقتصادى الشهير، جوزيف ستيجلتز؛ الذى يرى كذلك أنه من سخرية القدر أن الحزب الجمهورى الذى يقوده ترامب تبنى العولمة المتطرفة، وكان يرفض كافة السياسات التى يمكن أن تخفف من وطأة آثارها. ومن خلال مناقشة مقترحات وآراء السيد ترامب، لا يرى بروفيسور ستيجلتز أية فرصة واقعية لنجاح الإدارة الجديدة فى تغيير قواعد اللعبة إلى الأفضل، بل ان القواعد الجديدة ستؤدى إلى سوء الأوضاع واقصاء مزيد من الأمريكيين عن الحلم الأمريكى.
واختتم بقوله: لعله من الصعوبة بمكان إدعاء أن التغيرات الأخيرة فى الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، والتى يطلق عليها صعود الشعبوية، تنبثق من رؤية متماسكة أو أيديولوجية محددة، والأحرى أنها سياسات ومواقف تتجه عموماً ناحية اليمين (يمين الوسط واليمين المتطرف). ولعل الأصعب هو إمكان إرجاع تصاعد موجاتها إلى عوامل اقتصادية مثل تفاوت توزيع الدخل وسطوة العولمة، أو القلق من اختلال توازن القوى الاقتصادية العالمية، أوصراع ثقافى وحضارى حاد. وكرد فعل فقد تطرف البعض فى استشرافه لنتائج هذه الظاهرة إلى الحد الذى رأوا فيها نهاية النيوليبرالية الاقتصادية، بل قد تمثل بداية سقوط الديموقراطية الليبرالية وربما الرأسمالية ذاتها.ودون الحاجة إلى التسرع فى إدعاء إجماع حول ما ترسله الظاهرة من عِبَر فلعل أكثر الأمور لفتاً للنظر هو ما ينبغى على واضعى السياسات من الحذر من إعطاء الأسبقية للاعتبارات السياسية وأصوات الناخبين على حساب التكلفة الاقتصادية القومية.
وقال: الاقتصاد هو علم المفاضلة بين العائد والثمن المدفوع لتحقيقه. ويلزم بالضرورة التعرف على من يستحوز على كل جزء من الدخل القومى وما إذا كان قد دفع ماعليه من تكلفة.لقد ظلت النظرية الاقتصادية تُرَاوٍح بين اسثهداف التشغيل الكامل واستقرار الأسعار، بين حفز النمو الاقتصادى وزيادة الدخل القومى من ناحية وإعادة توزيعه لسد فجوة اللامساواة، وبين الاندماج فى الاقتصاد العالمى وتقييد التجارى الدولية. العلرة لبست فى مبادلة هدف نبيل بهدف آخر، ولكن فى نجاح السياسة الاقتصادية وإدراك واضعيها لأهمية الوصول إلى توافق مجتمعى رصين وليس الرضوخ لمطالب شعبوية قد لا تكون هى الأولى بالرعاية".