«الإمام الجنيد».. واجه شطحات «البسطامى والحلاج والشبلى»

«الإمام الجنيد».. واجه شطحات «البسطامى والحلاج والشبلى»
- ابن تيمية
- ابن خلدون
- التاريخ الإسلامى
- التقرب إلى الله
- العلوم الشرعية
- القرآن والسنة
- حفظ القرآن
- آثار
- آلة
- أئمة
- ابن تيمية
- ابن خلدون
- التاريخ الإسلامى
- التقرب إلى الله
- العلوم الشرعية
- القرآن والسنة
- حفظ القرآن
- آثار
- آلة
- أئمة
عاش الإمام الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندى، ثم البغدادى، فى القرن الثالث الهجرى، حيث ولد ببغداد بعد سنة 220هـ، وقد كان واحداً من أبرز رموز التصوف الإسلامى بمعناه الأصيل، حيث حياة زهدية فى ضوء القرآن والسنة؛ وترفع عن الملذات والزهد فى المباحات وترف الحياة، والإقبال على العبادة والذكر، وتطهير الروح مما لحقها من ترف بعدما فتحت الدنيا على المسلمين، وبعدت طوائف منهم عن المنهج القويم، وغلبت رقة الدين على الأفراد، وكثر الشبع، وفشا الكسل والتواكل، وانغمست الناس فى ملذات الدنيا، وكان بادئ هذا الأمر النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى.
{long_qoute_1}
يقول ابن خلدون فى كلامه عن علم التصوف: «هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة فى الملة، وأصله أن طريق هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق فى الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً فى الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا فى القرن الثانى وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة».
وقد حافظ الجنيد على أصالة المذهب وأصوله وكان حائط صد كبيراً ضد شطحات وسكرات لكثير من منتسبى المنهج والمذهب فى حالة كادت تودى بالتصوف لولا وجود الإمام الجنيد ومواجهته لتلك المسالك المعوجة لغلاة التصوف.
وقد ساعد الإمام الجنيد ما درسه من فقه وحديث وسائر علوم الآلة العلمية فى النجاة من التطرف الذى استشرى فى تلك الآونة، يقول أبونعيم: «كان فى أول أمره يتفقه على مذهب أصحاب الحديث مثل أبى عبيد وأبى ثور»، قال الخطيب: «وأسند الحديث عن الحسن بن عرفة، ثم أقبل على شأنه وتعبد وصحب الحارث المحاسبى، وأبا حمزة البغدادى فسلك مسلكهما فى التحقيق بالعلم واستعماله»، قال ابن المناوى: سمع الحديث الكثير من الشيوخ، وشاهد الصالحين، وأهل المعرفة، ورزق من الذكاء وصواب الجواب، لم ير فى زمانه مثله فى عفة وعزوف عن الدنيا. يقول عن نفسه رحمه الله: كنت أفتى فى حلقة أبى ثور الكلبى ولى عشرون سنة».
{long_qoute_2}
بدأ التنظير للتصوف الإسلامى والتعريف به وخصائصه ووضع معالمه، وذلك من أجل حمايته وصيانته فى النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى، وظهر العديد من المنظرين للتصوف أبرزهم أبوالقاسم الجنيد بن محمد (ت 297هـ)؛ الذى أرسى قواعد راسخة للتصوف العلمى البعيد عن الشطح بل والمواجه له ومقاوم للتطرف، الأمر الذى دعا الصوفية لتلقيبه عبر العصور بـ«سيد الطائفة»، ومن أقواله رداً على من ادعى سقوط التكاليف الشرعية من صلاة وصوم وسائر العبادات من بعض الصوفية، قال سيد الطائفة الجنيد بن محمد لما قيل له: «أهل المعرفة يصلون إلى ترك الحركات من باب السير والتقرب إلى الله»، قال الجنيد: «إن هذا كلام قومٍ تكلموا بإسقاط الأعمال عن الجوارح، وهو عندى عظيمة، والذى يزنى ويسرق أحسن حالاً من الذى يقول هذا، فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة، إلا أن يحال بى دونها»، وقال «الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول» وقال: «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به فى هذا الأمر؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة» لقد كان يحث أصحابه وأتباعه على العلم ليكون زهدهم علمياً وفى ضوء الشرع الذى يتعلمونه.
وسئل الجنيد عن التصوف فقال: (اسم جامع لعشرة معان، الأول: التقلل من كل شىء من الدنيا عن التكاثر فيها، والثانى: اعتماد القلب على الله عز وجل من السكون إلى الأسباب، والثالث: الرغبة فى الطاعات من التطوع فى وجود العوافى، والرابع: الصبر على فقد الدنيا عن الخروج إلى المسألة والشكوى، والخامس: التمييز فى الأخذ عند وجود الشىء، والسادس: الشغل بالله عز وجل عن سائر الأشياء، والسابع: الذكر الخفى عن جميع الأذكار، والثامن: تحقيق الإخلاص فى دخول الوسوسة، والتاسع: اليقين فى دخول الشك، والعاشر: السكون إلى الله عز وجل من الاضطراب والوحشة، فإذا استجمع هذه الخصال استحق بها الاسم وإلا فهو كذاب)، وقال الجنيد: «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به فى التصوف؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة» لقد ربط التصوف بالعلم الشرعى بميثاق واضح للبعد عن شطح الجهال فهو تصوف فى ضوء الشريعة وحدودها.
يقول صاحب نشأة التصوف: «كانت أهمية الجنيد أنه أصدق مثل لمرحلة الصحو لا المحو والشطح التى وجدت آثارها وأفكارها وشطحاتها فى هذه الآونة عند البسطامى والحلاج والشبلى، يقول الجنيد عن شطحات الشبلى هو رحمه الله سكران ولو أفاق من سكره لجاء منه ما ينتفع به، فقد وقف الجنيد فى تاريخ التصوف موقف التوفيق بين الحقيقة والشريعة، وحاول أن ينظم المذهب الصوفى ويطوره حتى استحق لقب سيد الطائفة، وانتهت جهوده فى ذلك إلى أنه لا مجافاة بين التصوف والشريعة».
وقال العفيفى فى كتابه الثورة الروحية فى الإسلام، كان الجنيد وأتباعه يفضلون الصحو عن السكر، لأن السكر يخرج الإنسان من حالته الطبيعية ويفقده سلامة العقل والوعى والقدرة على التصرف، فالسكر فى نظر الجنيد وأصحابه أشبه بميدان لعب الطفال وأليق بالمبتدئين فى الطريق الصوفى، وحينما جاءه الحلاج لصحبته قال له الجنيد أنا لا أصحب المجانين، فالصحبة تقتضى كمال العقل وأنت فى كلامك حماقة ومخرقة».
قال الجنيد: إن هذا قول قومٍ تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندى عظيمة، والذى يسرق ويزنى أحسن حالاً من الذى يقول هذا».. ونص آخر يؤكد أهمية العمل عن الجنيد ما ذكره عند قوله تعالى: «ودرسوا ما فيه» الأعراف. قال: «تركوا العمل به»، فلا شىء يرفع التكليف، والإلزام بالعبادات، ويوافق الإمام الجنيد أبوعلى الروذبارى الصوفى حين سئل عمن يسمع الملاهى ويقول هى لى حلال، لأنى وصلت إلى درجة لا تؤثر فىّ اختلاف الأحوال فقال: نعم، وصل ولكن إلى سقر».
لقد أطبق علماء التراجم على الثناء على الإمام الجنيد، وعلى فضله وزهده، قال السلمى: «وهو من أئمة القوم وسادتهم، مقبول على جميع الألسنة»، وقال السبكى: «سيد الطائفة ومقدم الجماعة»، وقال الذهبى: «كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء فى زمانه»، وقال الخطيب البغدادى فى «تاريخ بغداد»: «سمع بها الحديث، ولقى العلماء، ودرس الفقه على أبى ثور، وصحب جماعة من الصالحين، منهم الحارث المحاسبى، وسرى السقطى، ثم اشتغل بالعبادة ولازمها وصار شيخ وقته، وفريد عصره فى علم الأحوال والكلام على لسان الصوفية، وطريقة الوعظ، وله أخبار مشهورة، وأسند الحديث عن الحسن بن عرفة».
وقال أبونعيم الحافظ فى «حلية الأولياء»: «كان الجنيْد رحمه الله ممنْ أحْكم علْم الشريعة»، وقال الحافظ الذهبى فى تاريخ الإسلام: «كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء فى زمانه، رحمة الله عليه»، وقال أحمد بن جعفر بن المنادى فى تاريخه: قال محمد بن أحمد بن يعقوب: سمعنا الجنيد غير مرة يقول: «علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقه، لا يقْتدى به».
لقد وصل قبول الإمام الجنيد ومعرفة فضله وعلمه حتى من أعدى أعداء التصوف من أئمة الحنابلة المتشددين وعلى رأسهم ابن تيمية، الذى قال فى «مجموع الفتاوى»: «الْجنيْد منْ شيوخ أهْل الْمعْرفة الْمتبعين للْكتاب والسنة»، وقال أيضاً: «كان الْجنيْد رحمه الله سيد الطائفة، إمام هدًى»، و«من سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف والمعرفة كان قد اهتدى ونجا وسعد»، وقال «والجنيد وأمثاله أئمة هدى، ومن خالفه فى ذلك فهو ضال، وكذلك غير الجنيد من الشيوخ تكلموا فيما يعرض للسالكين وفيما يرونه فى قلوبهم من الأنوار وغير ذلك؛ وحذروهم أن يظنوا أن ذلك هو ذات الله تعالى».
توفى الإمام الجنيد سنة 298هـ يوم الجمعة فى بغداد ولما حضرتْه الْوفاة: جعل يتْلو الْقرْآن، فقيل له: لوْ رفقْت بنفْسك، فقال: «ما أحدٌ أحْوج إلى ذلك منى الآن، وهذا أوان طى صحيفتى»، لقد حاز الإمام الجنيد مكانة مرموقة فى التاريخ الإسلامى، فقد حما التصوف الذى هو علم الأخلاق ووضع له أسساً راسخة كالجبال ليصل إلينا خالصاً نقياً من أى كدر أو شوائب وليكون له الفضل فى صيانة وحفظ وتجديد علم الأخلاق للمسلمين.