فدائية أسيرة شهيدة

جيهان فوزى

جيهان فوزى

كاتب صحفي

إذا كانت حكومة حماس تريد أن تمحو هوية المرأة الفلسطينية بخلق هوية جديدة تعود إلى عصور الكهنوت والحرملك بقرارها المستهجن إلغاء الاحتفال باليوم العالمى للمرأة، فى مخالفة صارخة لقرارات الحكومات المتعاقبة، ورغم أن هناك قراراً من مجلس الوزراء باعتبار اليوم العالمى للمرأة إجازة رسمية لجميع المؤسسات الحكومية لتكريم المرأة الفلسطينية، فهى بذلك تحاول محو تاريخ طويل من نضال المرأة الفلسطينية ضد الاحتلال، وإذا كانت المرأة نصف المجتمع، فإن المرأة الفلسطينية هى نواة المجتمع، وهى المكون الرئيسى لمشروع الشهداء الذين يتساقطون تباعاً على مر تاريخ النضال الفلسطينى، وسجلها حافل بتقديم الدعم والمشاركة فى عمليات المقاومة العسكرية ضد الاحتلال، هى محور الأسرة إذا ما فقدت عائلها شهيداً أو أسيراً، تربى لتوهب أبناءها قرابين فداءً للوطن، تعيش حياة معقدة تتأرجح بين تعصب المجتمع الذكورى رغم وقوفها جنباً إلى جنب الرجل فى عمليات المقاومة بمختلف أشكالها، وبين غطرسة احتلال لا يفرق بين رجل وامرأة فى القمع، فاستطاعت أن تنتزع لها دوراً اجتماعياً وفكرياً وسياسياً، ووقفت صامدة مرابطة فى خندق المقاومة، نفذت عمليات فدائية لا تقل بطولة عن رفاقها الرجال فذاقت مرارة التعذيب والاعتقال وأيضاً الاستشهاد، ولنا فى المناضلات شادية أبوغزالة وعايدة سعد ودلال المغربى وليلى خالد الملقبة بـ«خاطفة الطائرات» مثل يحتذى.

كانت «ليلى خالد» أول سيدة فى التاريخ تقدم على المشاركة فى خطف طائرة. فقامت باختطاف الطائرة الأمريكية WTA رقم 840 لتدخل فى التاريخ الفلسطينى، وكانت عملية الاختطاف بمثابة المنبه الذى نبه العالم إلى القضية الفلسطينية، حيث أثارت جدلاً واسعاً، ولفتت الانتباه إلى قضية شعب تجاهله العالم طويلاً ولم يكترث لمعاناته، ولا يزال العالم يذكر إلى اليوم تلك الشابة السمراء التى نالت إعجاب الحلفاء، وأثارت قلق ومخاوف الأعداء، بعملية جريئة فى 28 أغسطس 1969 خطفت خلالها طائرة أمريكية، لتحلق بها فوق سماء تل أبيب، وتتجول على علو منخفض فوق مسقط رأسها مدينة «حيفا» التى طردت منها وهى فى الرابعة من عمرها. ما جعل قضية ليلى خالد تتحول إلى أسطورة راسخة فى الأذهان أكثر من غيرها من الرموز الفدائية، لأن جرأتها لم تقتصر فقط على تلك العملية الأولى، فبعد عام واحد عاودت الكرة وحاولت خطف طائرة أخرى تابعة لشركة «العال» الإسرائيلية! لم تكن ليلى خالد النموذج النضالى الوحيد فى سجل المقاومة الفلسطينية، فقد سطرت «دلال المغربى»، بطلة عملية الساحل الفدائية العسكرية التى شاركت فى تنفيذها فى 14 مارس عام 1978، أسمى معانى التضحية عندما قامت باختطاف حافلة إسرائيلية كانت متجهة من حيفا إلى تل أبيب واستشهدت خلال العملية، وتركت دلال المغربى التى بدت فى الصورة و«إيهود باراك» يشدها من شعرها وهى أمام المصورين وصية، تطلب فيها من رفاقها «المقاومة حتى تحرير كامل التراب الفلسطينى». تسعة وثلاثون عاماً مرت على «عملية الساحل» التى قامت بها «دلال المغربى» وما زالت ذكراها تصدح فى سماء نضال المرأة الفلسطينية، تعطى العبر وتضرب الأمثال فى الشجاعة والتضحية والبطولة، حتى إن الجيش الإسرائيلى لم يتوقع أن تصل الجرأة الفلسطينية إلى تلك الدرجة، ولكن «دلال المغربى»، الشابة الفلسطينية التى ولدت عام 1958 فى أحد مخيمات بيروت لأسرة من يافا لجأت إلى لبنان عقب نكبة 48، قد فعلتها!.

تجلت تضحيات المرأة الفلسطينية حين حرمت أن تعيش كأنثى وفرضت عليها ظروف الاحتلال أن تتحدى الطبيعة، سطرت بطولات عجز عن تصديقها الخيال، فكانت الأم والأسيرة والشهيدة والبيت الحاضن وزوجة الشهيد وأم الشهيد والتربة الخصبة الولادة للمزيد من الشهداء، فمن قلب الوجع ومخاض الحرية تودع شهداءها بالزغاريد تزفهم إلى السماء بهمة شامخة وإرادة صلبة، كأشجار السنديان الضاربة جذورها فى عمق الأرض والتاريخ، تمتزج صرخات الألم بزغاريد الأمل وهى ترى نفسها خنساء العصر الحديث ووتد الصمود وعنوان التضحية والعطاء.

المرأة الفلسطينية حقوقها الإنسانية مهدرة، تعانى الاضطهاد وتتعرض للقتل والاعتقال والعزل فى سجون الاحتلال، ويوم المرأة العالمى ربما لا يعنى لها شيئاً سوى أنه يجدد المأساة مذكراً بما يحدث لها، لأنها ليست كأى امرأة فلا تخلو المنازل من أم شهيد أو جريح أو أسير، وفى قطاع غزة على نحو خاص تعانى ظروفاً قهرية فإلى جانب الاعتداءات الإسرائيلية والحصار ترك الانقسام آثاره السلبية على الأسرة والمجتمع، وجعل المرأة طرفاً ضعيفاً فى معادلة الصمود والتحدى فأظهرت نتائج دراسة حديثة أن 85% من النساء يعانين أمراض القلق والاكتئاب والغضب والعصبية الزائدة وافتقاد الأمان الشخصى أو العائلى، ورغم أن ما تتعرض له من معاناة قد أصبح أسلوب حياة تأقلمت مع تفاصيله واستأنست وحشيته، إلا أن تكريمها والاعتراف بفضلها ودورها النضالى «حق» لا تستطيع «حماس» ولا خفافيش الظلام سلبه منها أو تجاهل مكانتها وتضحياتها.