«دهابة» أسوان.. الهروب من الفقر إلى السجن
طواحين الحجارة لاستخراج الذهب بأسوان
مع ظهور أول خيط أبيض من النهار، يتجمع عدد من العمال فى إحدى مناطق محافظة أسوان ويستقلون سيارات نقل دفع رباعى، وينطلقون فى هدوء صوب هدف واحد فى جنوب مصر، ثم يدعون ربهم أن يفتح عليهم من رزقه ويمُن عليهم من خيراته وأن يبعد عنهم الملاحقات الأمنية لأن النهاية وقتها ستكون «السجن» بعد خروجهم من المدينة ومراكزها يسلكون دروباً جبلية وطرقاً وعرة للابتعاد عن الكمائن الأمنية، حتى يصلوا إلى هدفهم المنشود الذى يبعد نحو 200 كيلومتر عن مدينة أسوان.. بعد مرور نحو 5 ساعات كاملة يصل «الدهابة» إلى موقعهم الأثير، ويحصلون على قسط من الراحة لاستجماع قواهم بعد أن أرهقهم طول ومشقة السفر والطرق الصعبة، ثم يتناولون وجبة الغداء التى أحضروها معهم داخل سياراتهم، ويتناولون طعاماً معلباً وغير طازج، ليكفيهم طوال الرحلة التى قد تطول أو تقصر حسب ظروف العمل، عقب الانتهاء من تناول الغداء، يتمم أحدهم على مخزون المياه الذى سيكفيهم طوال المدة التى يقضونها فى قلب الصحراء.
يعلم الدهابة علم اليقين أنهم يعملون بطرق غير قانونية، لكنهم لم يجدوا بديلاً للرزق غير هذه الحرفة التى احترفوها منذ ما يزيد على 6 سنوات بعد تدهور أوضاعهم المعيشية، حسب وصفهم.
قائد الدهابة: «الناس فاكرة إننا بنكسر من جبال الدهب ونملاها فى شنط.. إحنا مظلومين».. و«محمود»: بدأت العمل فى المهنة بعد توقف السياحة عقب ثورة يناير
فى قلب الصحراء البعيدة يعمل هؤلاء العمال، وعددهم 7 أفراد، بعيداً عن أعين الحكومة ويعملون فى العراء لمدة تصل لأسابيع متواصلة، بحثاً عن جرامات الذهب المتناثرة بين حبيبات الرمال الشاسعة، يتحرك بعضهم فى خفة ونشاط لإقامة بعض الخيام بطريقة بدائية للهروب تحت ظلها من أشعة الشمس الحارقة خاصة فى فصل الصيف، والتى تصل لما يزيد على 50 درجة مئوية، ينامون نحو ساعتين حتى تقل حرارة الشمس وعقب استيقاظهم من القيلولة، يبدأون فى ممارسة عملهم الذى قطعوا من أجله عشرات الكيلومترات.
بعد العصر يمسك أحد العمال بجهاز الكشف عن المعادن ويساعده أحد زملائه ممسكاً فى يده فأساً صغيرة لرفع الرمال فى الأماكن التى يطلق فيها الجهاز صافرات الإنذار، يرفض بعض الدهابة التصوير خوفاً من ملاحقة الحكومة لهم، ويغيرون أسماءهم الحقيقية وينادون بعضهم بعضاً بألقاب معينة. مصطفى العبادى، شاب لا يتجاوز عمره 27 سنة، بالرغم من صغر سنه فإنه القائد فى رحلة الدهابة، يبدأ حديثه لـ«الوطن»: «انتو معانا ولا ضدنا؟»، أنا وافقت إننا نتكلم بس لأننا فعلاً عندنا مشاكل كثيرة فى الجبل مع حرفة «الدهابة» ومظلومين فيكفينا المشقة والناس فاكرة إننا بنكسر من جبال الذهب ونملاها فى شنط ونرجع وكأننا ملوك الذهب فى مصر، وده طبعاً خيال واسع ومش حقيقى، والناس لازم تعرف إن العمل فى الدهابة صعب وخطير وبنغامر بحياتنا من أجل جرامات ذهب بسيطة، واحنا فى عملنا بنكون 7 عمال وأنا قائدهم فى السيارة أو ممكن تكون سيارتين على حسب المجموعة والشغل اللى رايحينه، وبيكون تجمعنا دائماً من الليل علشان بعد الفجر ومع طلوع أول ضوء نبدأ رحلتنا فى البحث عن ذرات الذهب المترامية فى الجبال من خلال الظروف المناخية والسيول التى تجرفها من مكان لآخر، وبنسافر فى الفجر حتى نستطيع أن نصل للعمال فى الجبل مبكراً ولازم أتمم على أجهزة البحث عن الذهب بنفسى وأقسّم العمل فيما بيننا مثلاً واحد بيتمم على الأكل والشراب اللى يكفينا ويكفى العمال فى الجبل خلال فترة البحث عن الذهب فى الجبال».
سائق لودر: الوصول لمكان العمل صعب.. ونتفق مع صاحب اللودر على الساعة بـ250 جنيهاً.. و«البشارى»: نشترى المياه بأسعار غالية
وقال «العبادى»: «لازم العمال نجتمع معاهم قبل السفر للعمل والبحث عن الذهب ونتأكد من كل حاجة أكل وشرب والزاد والسيارة ونرتب كل شىء قبل السفر ونتحرك بدرى عقب أذان الفجر ونتوكل على الله على الشغل وبنكون مريحين بدرى علشان الشغل شاق والمشوار بالنسبة للمدقات فى الطريق الجبلى يصل لـ5 ساعات كلها عبارة عن طرق وعرة والسيارة تغرز فى الرمال وهذه من مشقة السفر وممكن فى غرز السيارة فى الرمال نطلعها فى ساعتين أو 3 ساعات على حسب التساهيل والعمل بالليل غير النهار، وأفضل وقت قيادة السيارة بالنهار لأن بالليل ممكن السائق لا يرى الغرز وكذلك لا يرى الحجارة اللى فى الطريق لأن الطريق يتغير معاك بالليل وهناك مدقات وطرق جبلية كثيرة فلا نرى الحجارة والغرز ولا نعرف الطريق اليمين من اليسار وكمان الطريق يتغير بسبب الرياح لأن ده جبل مش أسفلت ممهد». بصوت قوى وملامح سمراء تناول سيد البشارى طرف الحديث، وهو رجل أربعينى يرتدى جلباباً أبيض وصديرياً أسود ويتلفح بشال فوق رأسه، قال: «غالباً فى عملنا فى الدهابة بنطلع نشتغل كلنا عائلة واحدة فمثلاً نحن أبناء عمومة واحدة وفى الرحلة سواق و4 عمال وقائد دليل لنا بالإضافة لفتى صغير يساعدنا فى العمل ويناولنا ونقوم بتعليمه الحرفة، والعدد غالباً بيكون على حسب العمل والطلعة وكلنا وظائفنا واحدة ومتشابهة وبنكمل بعضنا البعض وأهم واحد فينا الحقيقة هو السائق لو تاه تهنا كلنا معاه، ولذلك دائماً بنحاول نريّحه علشان بيتعب كتير فى الطريق ولا يعمل على جهاز البحث عن الذهب بس ممكن نخليه يشتغل فى تجهيز الطعام والشراب لنا فى الجبل خلال فترة العمل اللى ممكن تطول أو تقصر لأن إحنا بنساعده كمان فى أعمال الغرز فى الجبل وبندفع السيارة من الخلف ومن الجانبين ونطلعها فى حال إنها غرزت فى الرمال وندفعها للأمام وكلنا إيد واحدة ونقسم العمل فى تحضير الطعام وبعد ذلك نبحث عن الذهب من خلال الجهاز، وعند وصولنا إلى المنطقة التى نعمل فيها فى الصحراء نقيم وندشن خيمتنا ونحضر وجبة الفطور ونرتاح بعدها لأن الشمس تكون قوية وحرارة الجو عالية فى أى مكان فى الجبل وعقب الراحة نقوم فى العصر وكل عاملين يشتغلوا على جهاز البحث عن المعادن ويشتغلوا عليه لمسافة تصل نحو 2 كيلومتر وكل واحد فى منطقة مختلفة». يقطع حالة الصمت التى خيمت على الجميع صراخ أحد العمال وهو يهتف قائلاً «الله أكبر، اللهم صل على النبى»، يجرى نحوه زملاؤه لمتابعة الكشف المهم الذى عثر عليه لتقييم حجمه، يمسك أحدهم بقطة الذهب الخام وقد غمرت الفرحة وجهه: «وجهك حلو علينا يا أستاذ ربنا أكرمنا بقطعة ذهب نحو 3 جرام».. هذه الكلمات قالها سيد محمود، 30 سنة، لم يتحدث معنا طيلة الطريق وكأنه يركز فى عمله وحين بدأ العمل وضع جهاز الكشف عن المعادن فى ساعده الأيمن وسماعات الجهاز فى أذنيه ولكن بعد رؤيته جرامات الذهب الممتزجة برمال الصحراء بدأ الحديث عن عمله فى «الدهابة»: «أنا بدأت العمل فى الدهابة من 5 سنين وتحديداً فى فبراير 2012 لما السياحة وقفت بسبب الثورة وتراجعت الحياة كان لازم ألاقى بديل عن السياحة وذهبت للجبل مع أصدقاء لى فى البداية ولكن بعد كده بدأنا نكوّن مجموعات من العائلة ونطلع مع بعض وفى أول الوقت قمت ببيع هاتفى المحمول وكمان عربية قديمة علشان أشترى جهاز الكشف عن المعادن. وعن العمل به أقدر أقول لك إن لازم كل يوم فى الجبل وفى الصباح الباكر الصبح نظبط الجهاز لأنه هو دليلنا فى الكشف عن جرامات الذهب المتناثرة وجهاز الكشف عن المعادن فيه بطارية ونلبسه فى الذراع الأيمن أو الأيسر على حسب ما يرتاح صاحبه والسماعة كمان بنوصلها بالجهاز والبطارية، وأصعب حاجة إن الجهاز بيرن ويصدر أصوات مع أى معدن مثلاً صوت الذهب والنحاس مقاربين جداً لبعضهم أما أى معدن آخر فله ذبذبة مختلفة ونضطر لحفر نحو 50 سنتيمتراً من خلال عامل يحمل فى يده فأس يساعدنا وساعات أنا كباحث وكاشف للمعدن أعمل لوحدى علشان نعرف إيه الموجود أسفل الجهاز والناس لازم تعرف إن الأرض مش كلها فيها ذهب. أول جهاز أنا شفته فى بداية عملى 2012 كان اسمه «تكنس» وهو عبارة عن 3 قطع وصلتين وطبق فى الأمام ومداه 20 سنتيمتراً فقط تحت سطح الأرض وله شاشة بها أرقام وعند اكتشافه للذهب الأرقام تزيد على 50.. والجهاز الثانى اسمه «جى بى» ومداه أكبر من اللى قبله ويصل نحو 50 سنتيمتراً وفى بداية العمل منذ فترة كان صعباً جداً علينا كحاملين لجهاز الكشف عن المعادن لأن له برمجة خاصة وكنا نعانى منه كثيراً لأن البرمجة فى بعض الوقت تتغير بقصد أو دون قصد وبعد فترة اتعلمنا البرمجة الخاصة بالجهاز واللى يتم استيراده حالياً من السودان ويصل سعره لنحو 6 آلاف جنيه مصرى بالرغم من أنه فى بداية ظهوره كان يصل سعره لنحو 40 ألف جنيه وسعره رخص لأن البحث عن الذهب أصبح أمراً شاقاً ولا يوجد كثيرون معهم فلوس لشرائه لكن فى عام 2010 كان كثير من الناس بيشتروه حتى لو بهذا المبلغ لأنهم كانوا معتقدين أن العثور على ذهب يغطى ثمنه لكن الآن لما نزلنا الجبل وعرفنا حقيقة الشغل ومشقته ومفيش كميات الذهب فسعر الجهاز نزل».
يتوقف عن الحديث قليلاً ليشرب، ثم يقول بنبرة مرتفعة ممزوجة بالسعادة: «لكن كل ده يهون فى رؤية جرامات من الذهب تيسر علينا المشقة لنبدأ البحث من جديد فى أماكن أخرى ولازم تكون قريبة من منحدرات جبلية تسير فيها السيول».
على محمود، أصغر عامل بالمجموعة لا يتجاوز عمره 15 سنة، قصير القامة نحيل الجسد، يميل لونه للسمرة، خفيف الظل سهل الحركة لا ينقطع عن الغناء طول الرحلة، يقول: «أنا جاى أخدمهم بس فى رحلة الدهابة وعملى يقتصر على جمع الحطب وإيقاد النيران وكمان حمل الأمتعة من طعام وشراب وتنظيف المكان المحيط بالعمل وإعادة كل شىء مكانه، لأن كبارنا علمونا من صغرنا إن مكاننا لازم يكون نظيفاً حتى لو فى الجبل ولو هناك أوراق وبقايا معلبات أو زجاجات مياه يتم حرقها فى مكان بالقرب من أى جبل حتى يعود المكان نظيفاً لأن ده مش ملكنا وممكن حد ييجى بعدنا فى هذا المكان». ودندن ببعض كلمات لموال يتغنى به: «يا ليل أنا والله ليل يا ليل إطلع بالأدان للصايمين فطّرهم والله جبر بخاطرهم وأنا بهدى سلامى للى بخاطرهم والشباب والصحبة علشان خاطرهم».
وبصوت قوى جهورى وبملامح غير معروفة نظراً لارتدائه شالاً يغطى وجهه تماماً ونظارة شمس فلا يُرى من وجهه شىء طوال عمله كسائق، قال «أبوكادى»، كما يلقبه عمال الدهابة فى الرحلة، وهو سائق الرحلة: «أنا بلبس طقم واحد طوال الرحلة واللى ممكن تمتد لأسابيع بنكون به فى الجبل لدرجة إننا حين نعود نرميه خلاص، ولبسنا نظيف الآن لأننا أول الرحلة لكن بعد أيام قليلة تجد الشكل تغير وتتسخ ملابسنا ولبسنا مبنغسلوش لأن البنطلون والجلباب والحذاء كله يتسخ ويتكرمش عليك ويصبح ناشف كالبلاستيك خلاص الشمس والعرق كله ينشف، اللبس أقسم بالله لما أروح بيتى ناسى لا يعرفوننى، وأقسم بالله أنا اشتغلت 3 أسابيع فى شغلى بالجبل المياه لم تنزل على جسدى خالص ولذلك عند عودتى أستحم فى اليوم 3 مرات، وأى سائق بيسير بعربيته معاه جهاز كشف عن المعادن يتصادر منه لا نعرف لماذا؟، واللى يتقبض عليه مع إنه (عبادى) أو (بشارى) فى منطقته يتعمل له محضر ضبط فى منطقة محظورة بالرغم من أن المنطقة ملكهم وملك قبائلهم واللى موجود يتعمل له محضر ضبط فى منطقة محظورة وجزاؤه سنة حبس بعد 15 يوم حبس بعدها يعرض فى جلسة ولازم يتحبس السنة، ولا ننجو من المطاردات أو التفتيش وناس كثير ماتت من أهلنا فى «الدهابة»، ولو دخلت على كمين يسألنى «إنت حامل لجهاز البحث عن المعادن ليه؟ أو معاك وقود بنزين أو سولار فى جراكن ليه؟»، والحقيقة إننا فى جبل وليس من المعقول أنى أنزل كل يوم والآخر علشان أملأ خزان وقود السيارة وليس هدفنا إننا ضد البلد وممكن نرميه فى الجبل لأ، أنا هدفى إنى أملأ سيارتى من أجل مساعدتى فى التحرك وسط الجبال».
وعلى نفس الشاكلة، قال سليم الأسوانى، 32 سنة، سائق أحد اللودرات فى الجبل، والذى يقوم بكشف التربة الترابية الأصلية للأرض فى الجبل، وقد بدت عليه ملامح التعب وهو يرتدى ملابس متسخة مغطاة بالأتربة: لى 6 شهور فى الجبل ولم أخرج منه ولم أعُد لمنزلى بعد.. كنت أعمل فى وظيفة سائق لودر بمنجم السكرى ولما سمعت عن البحث عن الذهب فى الجبال بنيت أحلامى إنى أتزوج وأكون فى مستوى معيشى أفضل من اللى أنا فيه، وتركت العمل فى منجم السكرى قلت فى نفسى إيه اللى يخلينى أشتغل عند حد لما ممكن يبقى الخير لى واشتغلت سائق على لودر فى الجبل لمساعدة الباحثين عن الذهب لكن بعد 3 أو 4 شهور وجدت إن مصاريفى زادت على اللى يطلع لى من العمل وبدأت أستلف أموال من العاملين معى ومن أخويا وابن عمى ولقيت إن «الدهابة» مش مكفيانى وبصراحة ندمت إنى تركت عملى بمنجم السكرى لأن العمل فى السكرى أفضل من عملى الحالى بكثير لأن كان فيه راتب شهرى بالإضافة للطعام والشراب لكن فى الجبل مرة نلقى قطعة صغيرة من الذهب وأوقات مبنلاقيهاش.. بصراحة تعبنا وشقينا فى هذا العمل البحث عن الذهب.
وقال إن اللودر وصوله لمكان العمل فى الجبال صعب جداً ونتفق مع صاحب اللودر على الساعة قبل العمل يعنى ممكن فى الساعة إيجاره 200 أو 300 جنيه على حسب الاتفاق وكل مجموعة وظروفها ممكن نلاقى ذهب وممكن لا، وكنا بنشترك كلنا بأموالنا لتأجير اللودر وكل واحد يدفع الفلوس اللى معاه ولو ربنا رزقنا بقطع ذهب بنكمل عدد ساعات زيادة لكن إذا لم نجد خلاص كل اللى دفعناه بيروح فى الهواء. وعن العمل باللودر يقول: كل مرة فى عمل اللودر بنرفع نحو 50 سنتيمتراً من التربة الجبلية والأرضية لغاية ما نصل إلى الأرضية الأصلية الثابتة ولما اللودر يصل لهذه الأرض الثابتة خلاص اللودر مش بيشتغل فيها مرة أخرى لأن عملنا إزالة التراب فقط، ونشون التراب بكميات فى مكان قريب وجهاز الكشف عن المعادن يبحث من خلفى، وأنا أستريح شوية نحو ربع ساعة حتى ينتهى جهاز الكشف من قراءة المنطقة التى كنت أعمل فيها، وأعاود العمل مرة أخرى، والعمل لازم يكون من خلال إحساسى كإنسان، مثلاً أختار مكان فيه مخر للسيول ونبدأ أعمال الحفر فيه والحفرة تكون من 3 أو 4 متر وممكن ربنا يكرم ويلاقى قطعة ذهب تغطى مصاريفه ومصاريف العمال فى الرحلة، وبنقول دائماً يا رب أكرمنا ولكن فيه ناس بتقول إننا نستخرج 3 و4 كيلو ذهب لكن ده مستحيل، ده رزق ولكننا لم نصل للمبالغ اللى سمعناها فلان لقى كيلو ذهب وفلان لقى 2 كيلو غير إن هذا أو ذاك لقى مليون، عمرنا لم نرَ ذلك.
مع غروب الشمس يتوقف الدهابة عن العمل بسبب حلول الظلام ويتناولون العشاء ثم يدخلون فى وصلات من الغناء الشعبى والفلكلور والأغانى السودانية والمواويل العبادية والبشارية لقتل الوقت والترفيه عن أنفسهم حسب وصفهم، ولكن وسط هذا يروى العم سعيد البشارى، الرجل الخمسينى، بعض المتاعب التى قابلها فى الجبل أثناء عمله فى «الدهابة»: الموضوع مش سهل فى العمل كدهابة لأننا واجهنا مخاطر كثيرة وحكايات ممكن الناس متصدقهاش منها على سبيل المثال أقسم بالله أحياناً نلاقى العقارب السامة بجوارنا وأسفل فراشنا وكمان الطريشة وهى أخطر أنواع الثعابين فى الصحراء فالجبل لا يخلو من هذه المخاطر، وغالبية المناطق فى الجبال بها ثعابين وحشرات ضارة مع الحجارة ونلاقى العقارب والثعابين وممكن لا ينتبه لها أحد، وفى يوم من الأيام وفى ليلة حالكة شديدة الظلام كان فيه عامل معانا لدغته الطريشة السامة وكان بين الحياة والموت وقطع صباعه بسرعة لأن بها خطورة شديدة، مش كده وبس ده أنا كنت نائم ومع استيقاظى صباحاً من نحو سنة نظرت لإيدى وجدتها انتفخت ومش عارف إيه ده؟، ونزلت لبيتى وذهبت للطبيب فى الوحدة الصحية وشخّص لى المرض بأنه «خُراج» وبعد فترة اتضح لى إنها لدغة ثعبان وأسنان الثعبان ما تزال فى يدى، وكان فى القرية عندى رجل يعالج اللدغات «الحاوى» ويستخرج سم الثعبان وأكد لى أن أسنان الثعبان ما تزال فى يدى، ده غير أنه من المخاطر أيضاً إننا بنشترى المياه بأسعار عالية فالجركن يصل سعره لـ13 أو 15 جنيهاً لغاية وصوله لنا فى مكاننا وجراكن المياه بنشرب فيها 15 يوماً، والصلاة نتيمم بالتراب وخلال الأسبوعين أو الثلاثة لا نستحم لندرة المياه ويجب علينا الحفاظ عليها بأقصى درجة.
ومع بداية ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى الفجر عاد السائق بى منفرداً إلى مدينة أسوان مرة أخرى وترك باقى العمال ليستكملوا رحلة المشقة والبحث عن الذهب، وخلال العودة اتخذ دروباً جبلية أخرى غير التى جئنا منها معللاً: «الجبل ده دروبه وطرقه كثيرة وإحنا حافظينها واللى ندخل منه منطلعش منه مرة أخرى ويا ريت توصلوا صوتنا ده للناس كلها علشان تعرف إننا مظلومين إزاى ونفسنا نعيش زى الناس فى أمان».