وحشتينا يا ماما لبنى
فى نوفمبر 1992 تلقيت خطاباً من دار الهلال، وبالتحديد مجلة «سمير» يخبرنى بأنه تم قبولى كمراسل «سمير» الصحفى الناشئ مع بطاقة صفراء مزركشة عليها صورتى، وترجو من المصادر والمسئولين تسهيل مهمة حامله، وتوقيع صغير منمنم رقيق هو (ماما لبنى).
نتيلة إبراهيم راشد، هى إحدى مؤسسات مجلة «سمير» فى أبريل 1956، وإحدى أهم من كتبن للأطفال وأفنين عمرهن من أجلهم. هى هى ماما لبنى التى قابلتها فى الاجتماع الأول عام 1992 الذى رأيت فيه أطفالاً أكبرهم لم يكن قد تعدى 14 عاماً، تناقشهم وتجعلهم يتحدثون عما يحدث حولهم ويعبرون كما يريدون، وتعلمهم الصحافة برفقة أستاذى ومعلمى محسن الزيات الذى كان يشرف على الباب آنذاك. اسم نتيلة من الجزيرة العربية، وقالت لنا ماما لبنى إنه لإحدى عمات النبى عليه الصلاة والسلام، وكنا نقرأ دائماً فى «سمير» مقالها الأسبوعى (أولادى حبايب قلبى)، مع مذكرات عصام (الذى هو ابنها الشقى)، ومغامرات سمير وتهته، والكوميديا السياسية السلطان بهلول، وفريق البواسل للكشافة، وزيكو زكى العبقرى الصغير، وغيرها من المغامرات.
كانت القاعدة هى أنه إذا أردت أن (تتسلى) فاقرأ «ميكى»، وإذا أردت أن (تتعلم) اقرأ «سمير» التى كتب فيها كبار الكتاب والشعراء ورسم فيها عمالقة الفن، وكان من الممكن أن تتصفح المجلة فتجد نجيب محفوظ أو يوسف السباعى أو صلاح جاهين أو محيى الدين اللباد ومحمود سالم ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهم من العظماء يكتبون أو يرسمون لمجلة الأطفال الأهم والأشهر والأقدم فى مصر والعالم العربى، فى زمن كانت توزع فيه مجلة «سمير» أكثر من 150 ألف نسخة، وتعرّف قراءها بما يدور حولهم من أبسط الأشياء وأكثرها براءة فى عالم الطفولة حتى أعقدها فى عالم السياسة، وكان شعارها أنها مجلة موجهة للأطفال من 8: 88 سنة!!!
ورغم أن زوجها هو كاتب الأطفال الأشهر والرائد عبدالتواب يوسف الذى حصد جوائز عالمية فى الكتابة للأطفال، إلا أن ماما لبنى أصدرت فرماناً بألا يكتب فى مجلة سمير حتى تتقى الشبهات، ولا يقول أحد أنها تستكتب زوجها، والمرة الوحيدة التى كتب فيها عبدالتواب يوسف فى «سمير» كان فى عيد ميلاد المجلة وعبر خطة محكمة لم تعرفها ماما لبنى إلا بعد النشر!!
اهتمت ماما لبنى بالأطفال وبنائهم والتواصل معهم فابتكرت باب مراسل سمير الصحفى الناشئ لرعاية أجيال من الأطفال وتعليمهم الصحافة وقواعدها، وأكثر من التحقوا بالباب كانت تنشر موضوعاتهم الصحفية وحواراتهم فى مجلة سمير مع صورهم وهم لم يتعدوا الرابعة عشرة من عمرهم.
كانت ابتسامة ماما لبنى التى تختصر الكون فيها هى أفضل مكافأة لنا، ومجرد حرماننا منها قمة العقاب، وكانت تحب أن تنادينا بأسمائنا كاملة (إزيك يا محمد فتحى.. عامل إيه يا محمد فتحى)، وكانت أجمل مكالمة تهنئنى بزواجى منها، وأجمل مباركة لتعيينى فى الجامعة حيث أقوم بتدريس الصحافة من ماما لبنى.
فى 26 مايو 2012 رحلت ماما لبنى وعلى وجهها ابتسامة ما زلنا نذكرها فتحلو لنا أوقاتنا، وحين تقابلنا فى عزائها كان منا الصحفيون ومنا الكتاب ومنا أساتذة الجامعة ومنا الأطباء، ويتلقى عزاءها ابنها السفير هشام يوسف الأمين المساعد للجامعة العربية، وعصام يوسف الكاتب وصاحب رواية ربع جرام الشهيرة، وابنتها د.لبنى يوسف أستاذ الأدب الإنجليزى الشهيرة، وزوجها عمنا الكبير عبدالتواب يوسف.
أما مجلة سمير بعد أن تركتها ماما لبنى قبل وفاتها بسنوات، فقد تراجع توزيعها ليكاد لا يبلغ الألف نسخة وأصبحت تصدر شهرية بدلاً من أسبوعية. وتم تحجيم باب مراسل سمير الصحفى الناشئ وإلغاء فعالياته واجتماعاته، لم يجد محسن الزيات أستاذنا نفسه مع الإدارة الجديدة فانتقل لمجلة «طبيبك الخاص» التى زاد توزيعها لخمسة أضعاف على الأقل.
أمس مرت ذكرى ماما لبنى، ولم تتذكرها دار الهلال أو أى من مطبوعاتها.. ولم تتذكرها مجلة «سمير» التى أنشأتها، لكن يكفيها أن أبناءها لا يزالون فى اشتياق لابتسامتها، ويذكرونها بكل الحب.