لماذا كانت عيون "داليدا" حزينة؟

لماذا كانت عيون "داليدا" حزينة؟
هي "ست الحسن" بلا منازع، الجميلة التي ولدت في "شبرا"، وقضت معظم حياتها في أوروبا، وربما ورثت من مصر مسحة الحزن في عينيها، واعتبرتها موطنها الأصلي، ما يظهر ذلك جليا في نبرة الشوق الذي نسمع فيها كل مرة غناءها "أملي دايما كان يا بلدي، إني أرجعلك يا بلدي، وأفضل دايما جنبك على طول"، ورغم الجمال والشهرة والفن والسفر والثروة، ظلت عيون داليدا حزينة، حتى وهي تبتسم، فلماذا؟.
في 3 مايو من العام 1987، عُثر على داليدا "جثة هامدة" في منزلها الفخم بشارع أورشانت على سفح هضبة مونمارت بباريس، مزيج من العقاقير بجرعة زائدة، ورسالة كتبتها: "سامحوني.. الحياة لم تعد تحتمل"، كانت المحطة الأخيرة من الحزن الذي صاحبها طوال حياتها، وقررت هي أن تضع حدا له.
بالرجوع إلى طفولة يولاندا جيجليوتي – الاسم الحقيقي لداليدا- نجد أنها لم تعش كباقي الأطفال، صاحبها الحزن منذ صغرها، بعد أن ولدت ضعيفة وتعاني من "حول" في عينها اليمنى، أجرت على إثره 3 عمليات، وارتدت نظارة طبية لفترة طويلة، وكانت زميلاتها بالمدرسة الكاثوليكية يسخرن منها، وكثيرا ما نادوها بـ"أم أربع عيون".
كطفلة رقيقة، كانت داليدا كثيرة البكاء بسبب ما تتعرض له، إلا أن راهبة حنونة في مدرستها تدعى "إيزابيل" دائما كانت تواسيها، وتخبرها أتها تمتلك أجمل عيون في العالم، كانت هذه الراهبة هي البلسم الذي رطّب قلب داليدا، حتى أنها لم تنساها بعد أن أصبحت نجمة مشهورة، وعندما علمت باحتضار هذه الراهبة عادت خصيصا إلى القاهرة لتودعها.
سُجن والد داليدا لعدة أشهر إثر اندلاع الحرب العالمية، فهو إيطالي، وحينها كانت مصر تحت الحماية البريطانية، ورغم ابتعاده عن السياسة، اعتقل عدة أشهر، عانت فيهم الأسرة كثيرا، فاضطرت والدتها أن تعمل في الخياطة لتدير دفة المنزل، وبعد خروجه ساءت طباعه وضيق الخناق على داليدا وأخواتها، فلم يكن يسمح لها بالخروج سوى للذهاب للكنيسة، وكانت تقابل الفتى الذي أحبته خلسة في أثناء القداسات.
نتيجة المعاملة التي لاقتها من والدها، سلّمت داليدا بفكرة أن حياتها ستسير على الوتيرة التقليدية، تتخرج من المدرسة وتتزوج بعدها بناء على ضغط منه لتكوين أسرة، إلا أن وفاة والدها غيّرت تطلعات داليدا، ونما من جديد حلم الشهرة الذي تعلقت به.
بعد وفاة الوالد، ضاقت الحياة واضطرت كحل لذلك أن تأخذ دروسا في الطباعة على الآلة الكاتبة، وعملت سكرتيرة في شركة أدوية، لكن حلم النجومية راودها مجددا، بعد أن تغلغل داخلها منذ صغرها، بعد أن سمعت أن لديها قريبة تعمل كممثلة إيطالية شهيرة. ودفعها حلمها لتشارك في مسابقة ملكة الجمال، وتفوز بلقب "ملكة جمال مصر" في العام 1954، ورغم سعادتها وفوزها بزوج من الأحذية الذهبية، إلا أن والدتها غضبت بسبب صورة ابنتها بثوب السباحة على الصفحات الأولى للصحف، واعتبرت الأمر "فضيحة" للعائلة.
كان لقب ملكة جمال مصر بوابة داليدا للشهرة، وأخذت تغني بالفرنسية والإيطالية وبعدها بلغات أخرى، ورغم سعيها واجتهادها وجمالها، لم يحقق أولى أفلامها النجاح الذي توقعته، إلا أن بعدها نالت شهرة واسعة في الغناء من منتصف الخمسينيات وحتى الستينيات، وكانت المغنية الأشهر في أوروبا، لكن أصابها الإحباط بعد ذلك، مع ظهور نجوم جدد بروح شبابية أكثر وموسيقى كلها إيقاع، أشعرت داليدا بأنها "قديمة".
"غابت يولندا لتخلد داليدا، نجحت كليا في حياتها الفنية بينما فشلت كامرأة، تركت حياتها العادية جانبا، ما جعل يولاندا تعاني إلى حد كبير، حتى أنها ضحت لإسعاد داليدا".. هكذا وصفها شقيقها أورلاندو جغيليوتي. قال إنها عاشت حياة عاطفية بائسة أثرت فيها، فكانت دائما تبحث عمن يقاسمها حقيقتها كامرأة مصرية النشأة وإيطالية الأصل ونجمة مشهورة، لذا عاشت في صراع داخلي سبب لها اكتئاب عانت منه كثيرا.
تزوجت داليدا للمرة الأولى من "لوسيان موغيس"، اعترفا لبعضهما بالحب رغم أن الزواج كان جزء منه مصلحة شخصية، إذ كان يملك شركة للإنتاج الغنائي، وكانت داليدا مفتاح شهرته، وبدأت مأساة داليدا بانتهاء الزواج الذي لم يستمر كثيرا رغم شهرتهما معا في الأوساط، انخرطت بعدها في علاقات عاطفية، وكانت أول علاقة بعد انتهاء زواجها، مع شاب إيطالي انتحر بعد فشله في مسابقة غنائية بأوروبا، وهو الأمر الذي ترك أثرا سلبيا عليها، بخاصة وأنها شاهدته يطلق الرصاص على نفسه، وحاولت هي الأخرى الانتحار لكنها نجت.
"حزن دفين" سيطر على قلب داليدا، رغم عودتها للغناء ثانية، ولم تكف عن محاولات البحث عن سعادة حقيقية، بعيدا عن كل الزيف الذي غلف السعادة المؤقتة التي شعرت بها، وبعدها وفي السبعينيات ارتبطت بشاب فرنسي، إلا أنه انتحر أيضا، ما زود من حجم الحزن داخلها.
دخلت داليدا في علاقات عدة، لكنها ظلت وحيدة، ولم تنجب طفلا، حيث أجهضت جنينها ذات مرة، فأثر ذلك على قدرتها على الإنجاب، ما زود الجفاء داخلها، ونهشت الوحدة كل دفء وعاشت في حزن تغلفه بابتسامة سعيدة، لكن ظلت عيونها حزينة، حتى حاولت الانتحار ثانية في الثمانينيات.
يحكي شقيقها "انتحار عشاقها ومحبيها ومن أحبتهم وعشقتهم، دفعها إلى تكرار محاولة الانتحار مرة ثانية في مطلع الثمانينيات، لكنها نجت مرة أخرى. الفراغ العاطفي دفع بداليدا إلى السفر عبر العالم والغناء بلغات مختلفة، من كبيك في كندا إلى بيروت في لبنان وطوكيو ودلهي في آسيا، ونيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية".
في السنوات التي سبقت انتحارها، عانت داليدا من فراغ عاطفي وحزن ووحدة، لكنها شاركت في العام 1986 كممثلة فرنسية في فيلم "اليوم السادس" للمخرج يوسف شاهين، لكن ملامحها كانت بدأت في التحول للعجز، ما زاد حزنها أكثر، بعد أن كانت جميلة جميلات العالم، يقول شقيقها: "داليدا لم تكن ترغب أن ترى نفسها عجوزا كبيرة في السن، ولهذا قررت وضع حد لحياتها في العام 1987".
انتحرت داليدا بعد مسيرة طويلة وحياة يراها الجميع حافلة، نالت فيها من الحسد ما نالت، لكنها لم تشعر بالسعادة، بل كانت حزينة ولم تستطع إخفاء حزنها، وهو الأمر الذي انعكس دوما في عينيها، حتى في أفضل لحظات نشوتها بالشهرة والنجومية، بدت عيون داليدا حزينة، رثاها شقيقها قائلا: "داليدا امرأة فريدة ولا أحد يمكنه تعويضها. أسعدت الملايين لكنها غادرت الحياة وهي حزينة".