وماذا بعد صدور قانون «جاستا»؟!

مصطفى بكرى

مصطفى بكرى

كاتب صحفي

شكّل قانون «جاستا»، الذى أصدره الكونجرس الأمريكى، حالة شديدة من الارتباك فى كافة الأوساط الإقليمية والدولية، وراحت دول عديدة ترقب الموقف بحذر شديد، وتعبّر عن القلق من خطورة إلغاء قانون حصانة الدول وسيادتها، لأن ذلك سيفتح الباب واسعاً أمام كل الخيارات، ويُنهى إلى غير رجعة دور الأمم المتحدة والقانون الدولى، ليحل محله القانون الأمريكى المحلى.

ولقد أعطى هذا التشريع لكافة دول العالم الحق فى رفع القضايا ضد أمريكا وجرائمها، وهو ما حدث فى اليابان على الفور، إذ بدأ بعض المواطنين من أسر ضحايا هيروشيما ونجازاكى يفكرون فى طلب التعويضات اللازمة من أمريكا جراء مقتل مئات الآلاف بفعل الضربات النووية الأمريكية.

ويبدو أن الأمر لن يكون مقصوراً على التعويضات المالية وحسب، فالقانون الأمريكى ذاته يفتح الباب واسعاً أمام خيار ملاحقة المتهمين الذين تثار حولهم الشبهات، وهو ما أكدت عليه نصوص القانون.

لقد نصت المادة السادسة من قانون «جاستا» على أن يتم السماح بمقاضاة دولة ما قضائياً من الأمريكيين أنفسهم، حيث تؤكد هذه المادة أن لدى الولايات المتحدة مصلحة حقيقية فى توفير الأشخاص أو الجهات التى تتعرض للإصابة جراء هجمات إرهابية داخل الولايات المتحدة بالمثول أمام النظام القضائى من أجل رفع قضايا مدنية ضد أولئك الأشخاص أو الجهات أو الدول التى قامت بتقديم دعم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى أشخاص أو منظمات تُعتبر مسئولة عن الإصابات التى لحقت بهم.

إن الأخطر من ذلك هو ما نصت عليه المادة الخامسة من القانون والتى تقول: «إن الأشخاص أو الجهات أو الدول التى تساهم أو تشارك فى تقديم دعم أو موارد سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لأشخاص أو منظمات تشكل خطراً داهماً وارتكاب أعمال إرهابية تهدد سلامة مواطنى الولايات المتحدة أو أمنها القومى أو سياستها الخارجية أو اقتصادها يتوقع جلبها للمثول أمام المحاكم الأمريكية للرد على أسئلة حول تلك الأنشطة».

إن ذلك يعنى، باختصار، أن الأمر لن يتوقف عند حدود الابتزاز المالى فقط، ولكن الأمر قد يصل إلى حد طلب مثول مسئولين من الدولة المتهمة بالمساندة بشكل مباشر أو غير مباشر أمام المحاكم الفيدرالية الأمريكية.

إن السؤال الذى يطرح نفسه هنا: ماذا عن الموقف إذا ما أصدرت المحاكم الأمريكية حكماً فى القضايا التى بادر بعض أسر ضحايا حادث 11 سبتمبر برفعها أمامها، وتم فيها اتهام المملكة العربية السعودية مباشرة بتقديم الدعم لمنفذى الهجمات الإرهابية التى تسببت فى مقتل ذويهم.

إننى لن أناقش هنا من هم الفاعلون الأساسيون وراء أحداث الحادى عشر من سبتمبر، غير أن تحريك القضية بعد خمسة عشر عاماً من وقوع الأحداث من خلال إصدار هذا القانون يؤكد عدداً من الحقائق الهامة أبرزها:

- أن الولايات المتحدة، وبعد أن فشلت فى مخططها الذى سُمى بـ«الشرق الأوسط الجديد»، قررت اللجوء إلى المواجهة المباشرة لإحداث حالة من الفوضى فى البلدان المستهدفة.

- أن هذا المخطط الجديد الذى يعطى «القانون الأمريكى» الأولوية على القانون الدولى يسمح لواشنطن بتنفيذ أجندتها فى الهيمنة الاقتصادية والقبض على الأشخاص والتدخل فى الشئون الداخلية للدول وصولاً إلى توجيه ضربات عسكرية وفرض حصار اقتصادى على البلدان التى ستعارض تنفيذ الأجندة الأمريكية المفروضة.

- إذا كان القانون قد نص على أنه لن تكون هناك دولة أجنبية محصنة أمام السلطات القضائية الأمريكية فى أى قضية تتم فيها المطالبة بتعويضات مالية من هذه الدول نتيجة أفعال وقعت ناجمة عن أعمال إرهابية أو أفعال تصدر من الدول الأجنبية، أو من أى مسئول أو موظف أو وكيل بتلك الدولة أثناء فترة توليه منصبه بغضّ النظر عما إذا كانت العمليات الإرهابية تمت أم لا، فهذا فى تقديرى يفتح الباب لمحاكمة قادة ورؤساء حاليين يمكن أن توجه إليهم هذه الاتهامات دون سند أو دليل، وقد يحكم فيها القضاء الأمريكى بالمثول أو الإدانة، وهو ما يجعل العالم ساحة مستباحة لقانون الفوضى وشريعة الغاب، دون محاسبة من أى جهات دولية أو غيرها.

- أن هذا القانون يؤكد مجدداً أن السعودية باتت فى مرمى «الهدف الأمريكى»، وهى تعاقَب بسبب كونها عقبة أمام مخطط «الشرق الأوسط الجديد» وباعتبارها الهدف الاستراتيجى الذى تحدّث عنه «جيمس ويلس» مدير المخابرات المركزية الأمريكية الأسبق عشية الحرب على العراق فى 2003، وكونها أيضاً واحداً من الحلفاء الأساسيين للإدارة المصرية الحالية، التى هى أيضاً فى مرمى «الهدف» الأمريكى.

- أن واشنطن لديها قناعة، الإدارة والكونجرس وصنّاع القرار والمنظمات الفاعلة فيها، بأن المملكة العربية السعودية هى من الدول التى تتبنى فى حكمها «الشريعة الإسلامية» وهذا يقلق الأمريكان وبعض الدوائر الغربية التى لا تزال تعتبر «الإسلام» هو العقبة الأساسية أمام العولمة، والذخيرة الحية التى تساعد على صناعة «الإرهاب» فى العالم بأسره.

- إن المقصود من وراء صدور هذا القانون هو ممارسة أكبر قدر من الضغوط لإجبار المملكة على تبنى أجندة معادية لوحدتها وثوابتها، وقد تصل هذه الضغوط إلى حد السماح بقيام كيانات طائفية وعرقية فى إطار «دولة فيدرالية»، وهو أمر من شأنه أن يقود البلاد إلى حروب أهلية خطيرة قد تؤدى لسقوط مؤسساتها وانهيار كيانها الوطنى الموحد لا قدّر الله.

تلك هى الأهداف الحقيقية للمخطط الجديد، غير أن رد الفعل العربى لا يزال باهتا، وكأن هناك غياباً متعمداً عن الحدث، أتراه الخوف، أم التردد، أم الانتظار لحين البدء فى التنفيذ؟

فى كل الأحوال هذا القانون لن يستثنى أحداً، والذين يظنون أن الأمر مقصور على السعودية وحسب، أقول لهم: بل إن المستهدف من وراء هذا القانون كل من يرفض الخضوع والخنوع للمخطط الأمريكى الهادف إلى تفتيت المنطقة، كما أن المتهمين بارتكاب الحادث ليسوا السعوديين وحدهم، بل هناك مصرى واثنان من الإمارات وأحد اللبنانيين.. تُرى من عليه الدور بعد السعودية؟!