«البوركينى».. جولة جديدة فى معركتنا المقدّسة

لا يمكن تحليل أزمة «البوركينى» فى فرنسا من زاوية صراع القيم الإسلامية مع القيم الغربية، أو حتى من منظور صراع القيم داخل المجتمع الفرنسى نفسه فقط؛ إذ إن أزمة «البوركينى» ليست سوى امتداد لمعركة كبيرة نخوضها فى العالم العربى والإسلامى منذ عقود، وهى المعركة على جسد المرأة.

سيأتى من يؤكد أن استخدام «البوركينى» ليس مقتصراً على المسلمات فقط، وأن الحشمة لا تتعلق بأتباع دين معين، وأن بعض الأوروبيات يرتدينه لحماية بشرتهن، أو اتقاءً لهجمات بعض الكائنات البحرية أثناء السباحة.

وسيأتى أيضاً من يقول إن معظم الدول الغربية تدافع عن حق المسلمات فى ارتداء هذا الزى، استناداً إلى قيم الحداثة، بل إن فرنسا أيضاً التى حظرت بلدياتها، خصوصاً فى نيس وغيرها، ارتداءه، عادت، عبر أعلى هيئة قضائية بها، لتلغى قرار الحظر، «منتصرةً للحرية والمساواة».

كل هذا الكلام جيد، ويمكننا أن نأخذه على محمل الجد، وأن نتفق أو نختلف معه، لكن الأكيد فى الوقت ذاته أن أزمة «البوركينى» ليست فرنسية خالصة، ولا هى أوروبية المنشأ، لكن تم تصديرها إلى هذا العالم المتقدّم من عندنا.. من عالمنا العربى والإسلامى.

يبدو لكل متابع جاد للشأن العام فى عالمنا العربى فى الآونة الأخيرة أن معركة كبيرة تبقى جذوتها مشتعلة دون أن تخمد أو تخبو على مدى المساحة من الخليج إلى المحيط، وهى تلك الدائرة على «جسد المرأة»، مستهدفة استخدامه بالامتهان من جهة، أو حجبه بالامتهان كذلك من جهة أخرى، وفى ذلك تتفق المجتمعات الحضرية مع البدوية، والثرية مع الفقيرة، والسُّنية مع الشيعية، والجمهورية مع الملكية.

فمن «أختى حجابك أغلى من دمى»، إلى «الحجاب قبل الحساب»، فـ«تحجبى يا أختاه»، وصولاً إلى الفتاوى بـ«ضرورة النقاب»، و«لون العباءة الأسود وجوباً»، و«النقاب ذى العين الواحدة الخالية من الكحل والزينة»، وحجاب فتيات «الكرة الشاطئية» بالأولمبياد، يتصور المتابع المهتم أن كل مشكلاتنا قد حُلّت تماماً، وأن أراضينا المحتلة قد حُررت كلها، وأن إشكالنا المقيم مع العلم والمدنية قد حُسم لمصلحتنا، ولم يبقَ لنا سوى هذا الجسد المنفلت، الذى يجب أن نُسخّر له كل جهودنا لنحجبه ونغطيه.

وعلى الموجة نفسها تخرج الإبداعات التحريمية يومياً، حاملة دعاوى المنع والحجب والمصادرة؛ مرة لموقع إلكترونى ينشر أجساداً عارية ومناظر مثيرة لنساء سافرات، وأخرى لقناة فضائية تبث «كليبات» شهوانية لفتيات شبه عاريات، وثالثة لفيلم أو مسلسل متجاوز، ورابعة لقصة أو رواية تظهر فيها المرأة على نحو غير هذا الذى يجب أن يكون عليه احتشاماً واختباءً.

لم يعد الأمر قاصراً على الدول المحافظة فى منطقة الخليج، حيث تتعدّد الفتاوى المثيرة للجدل، وتتوالى يوماً إثر يوم؛ من التحريض على قتل أصحاب «فضائيات العرى»، إلى الحضّ على «تقنين خروج المرأة للأسواق»، و«ضرورة الالتزام باللون والاتساع المناسبين للزى المحتشم الفضفاض»، و«الاقتصار على فتحة واحدة صغيرة» لإحدى العينين الفاتنتين، عوضاً عن ترك الحبل على الغارب لهما للإساءة إلى حياء الشبان واستدراجهم إلى ما لا يُحمد عقباه.

لكن الأمر تعدّى تلك الدول المحافظة ليتفاقم فى دول أقل محافظة وصاحبة تاريخ لا يُستهان به فى إتاحة الفرص للمرأة للعيش فى مجتمعها كمخلوق كامل الاعتبار والقيمة، وكشريك للرجل فى مضمار العمل الخاص والعام، بل كفاعل وناشط فى المجتمع المدنى، ومنتج للقيمة فى مجالات تبدأ من الهندسة والطب، وتمر بالفن والثقافة، ولا تنتهى عند البرلمان والمشاركة فى الحكومة وصُنع القرار واتخاذه كمصر ولبنان وتونس والكويت.

وليت الأمر اقتصر على هذه الدول ذات البنية المحافظة والتقاليد الاجتماعية الراسخة، لكنه اتسع وتمدّد لأسباب كثيرة تحتاج مجالاً أرحب لذكرها، ليصل إلى مجتمعات أقل محافظة وأكثر اتصالاً بالتجليات الغربية، خصوصاً فى ما يخص أوضاع المرأة وتشخيص دورها وتقنين أساليب انخراطها فى الحياة العامة وتقاليد التعاطى معها.

المعركة على جسد المرأة تكرست، متواصلة بلا انقطاع أو ملل فى لبنان وسوريا ومصر، ومن بعدها تونس والجزائر والمغرب والحبل على الجرار.

صحيح أن انتشار مسألة الحجاب والنقاب فى مصر على سبيل المثال كان مرتبطاً بالتأثر بالثقافة الوافدة من بعض دول الجزيرة العربية، ومقترناً باندحار المشروع الوطنى، وتزعزع اليقين بالهوية المصرية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وزيادة النزعة الانفتاحية الاستهلاكية، وتدهور التعليم، وتردى الثقافة.

لكن ما يجب ألا ننساه فى هذا الصدد أن هذا الانتشار كان مقترناً بحملات إعلامية ودعائية منظمة، ومشروعات اقتصادية ومالية ضخمة، وآليات ترويج وتحفيز، ومتاجر ومصانع وبيوت أزياء، ودور نشر وصحف ومواقع ومحطات فضائية.

والإشكال الذى يُحيّر فعلاً أن التعصُّب الزائد والتركيز المبالَغ فيه فى محاولة حجب المرأة عن الحياة العامة أولاً، وعن النظر، إن هى انخرطت فيها جبراً، تالياً، لا يترافق مع مدٍّ موازٍ ومفترض فى التديُّن الموضوعى الصحيح، أو تحسُّن مطلوب فى الأخلاقيات العامة، أو ميل إلى الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية الضرورية والمستمدة من ديننا الحنيف.

ويبدو أن المسلم العربى الذى باء بالخسران فى معارك التنمية والحداثة والعلم والمواجهة مع المنافسين والأعداء والخصوم فى الإقليم وخارجه، لم يجد معركة سهلة يمكنه أن يُحقق فيها نصراً خالصاً، سوى تلك المعركة مع جسد المرأة، التى أوقعتها الظروف التاريخية والجغرافية والتقاليد الاجتماعية تحت وصايته.

والواقع أن الإصرار المبالَغ فيه على تغطية جسد المرأة واعتباره مصدراً للشهوات والشرور ليس إلا، لا يقابله ويوازنه فى مجتمعنا العربى سوى ميل مشابه لتعريتها وامتهان إنسانيتها؛ سواء عبر تسليعها فى الإعلان والإعلام، أو عبر استخدامها كمحظية ومسرية، باستخدام وسائل العنف والمال، من خلال ثنائية الترغيب والترهيب.

يُقدّم «داعش» فى تعامله مع المرأة، سواء المسلمة «الحرة»، أو غير المسلمة «السبية»، بياناً واضحاً للطريقة التى ينظر بها بعض المحسوبين على الإسلام إلى المرأة، والطريقة التى يحب هؤلاء أن يعاملوها بها.

خدمة كبيرة يُقدّمها الرجال المنخرطون فى المعركة على جسد المرأة فى مجتمعاتنا العربية لكل عدو أو خصم أو منافس متربص ببلادنا وبحضارتها وبنا؛ ذلك أنهم انصرفوا تماماً عن كل ميادين النزال الحقيقية، وباتوا متفرّغين للمعركة الكبرى، التى يبدو النصر فيها سهلاً قريب المنال؛ فميدان المعركة أوراق الصحف وشاشات الفضائيات، ووسائلها الحوقلة والبسملة والافتئات على الدين، وجمهورها عريض ومنوم ومسلوب العقل وغائم الإرادة، والعدو فيها قليل الحيلة معدوم الوسائل والأدوات؛ إنه المرأة.. الأخت والأم والزوجة والابنة.

أم المعارك العربية الإسلامية اليوم معركة على جسد امرأة، وهو أمر جد مضحك، لكنه ضحك كالبكا.

ومن أكثر ما يدعونا إلى البكاء بصدد تلك الجولة الأخيرة من المعركة، أننا لم نكتفِ بتوريط أنفسنا فى الأمر، بل أخذنا فرنسا، ومن ورائها أوروبا معنا.