النيل على صفحات التاريخ (3)

عندما ينش النيل، فإن المصرى «ينش». وليس لمن يريد أن يعرف معنى المثل المصرى «قاعد ينش»، سوى أن يعود إلى كتاب موفق الدين عبداللطيف البغدادى «رحلة عبداللطيف البغدادى فى مصر»، ويحكى فيه ما شاهده فى «المحروسة» أواخر القرن السادس الهجرى، زمن الدولة الأيوبية. وقد تعاصرت الرحلة مع تراجع فيضان النيل، حيث «نش» -أى جف- النهر على حد تعبير «البغدادى»، وساد الغلاء وتفشى الوباء بين المصريين، وسادت المجاعة البلاد والعباد، وقد بلغت حداً من الرعب يفوق أى خيال سينمائى، حكى «البغدادى» بعضاً من مشاهدها البشعة، وقال فى ذلك: «كان الرجل يذبح ولده الصغير وتساعده أمه على طبخه وشيه، وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرجل يدعو صديقه وأحب الناس إليه إلى منزله ليضيّفه فيذبحه ويأكله، وفعلوا بالأطباء كذلك، فكانوا يدعونهم ليبصروا المرضى فيقتلونهم ويأكلونهم، وكفن السلطان فى مدة يسيرة مائتى ألف وعشرين ألفاً، وصلى إمام مسجد الإسكندرية فى يوم على ما يزيد على 700 جنازة، فقد امتد البلاء، واشتد الغلاء، وتحققت المجاعة، وتفرقت الجماعة، وهلك القوى فكيف الضعيف، ونحف السمين فكيف العجيف، وخرج الناس حذر الموت من الديار، وتفرق فريق مصر فى الأمصار، ولقد رأيت الأرامل على الرمال، والجمال باركة تحت الأحمال، ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللقم، تسترق الجياع باللقم».

الوصف الموجع الذى قدمه «البغدادى» وهو يعرض مشاهداته للمجاعة التى ضربت مصر عام 595 من الهجرة، يمنحك مؤشراً إلى أن شح النيل يعد المصدر الأول للأزمات الاقتصادية فى مصر، خصوصاً أن الدولة حينذاك كانت تعتمد اقتصادياً بشكل كامل على الزراعة، لكن من المؤكد أن تخيل ما حدث، وأن يأكل جزء من المصريين لحوم جزء آخر منهم من أجل الحياة، أمر من الصعوبة بمكان. ربما يكون «البغدادى» قد بالغ بعض الشىء فيما كتب، خصوصاً أنه ذكر فى كتابه أن قرى بأكملها قد اندثرت وأصبحت أثراً بعد عين بفعل أكل المصريين لبعضهم، وما انتشر فيها من أوبئة، وقد يكون المتورط فى هذا الفعل أجناس أخرى من الأفارقة أو السودان الذين وفدوا إلى مصر. لكن فى كل الأحوال لا تعنى الإشارة إلى وجود قدر من المبالغة فى الوصف الذى قدمه «البغدادى» نفى الأحداث التى شهدتها مصر بفعل المجاعة التى تخلفت عن شح النيل، فليس من المستبعد أن يكون جانباً من الحوادث التى تصف أكل المصريين للحم بعضهم البعض قد وقعت. فـ«الفقر مر» و«الفقر يورث الكفر»، وقد كان النبى، صلى الله عليه وسلم، يستعيذ بالله من الكفر والفقر.

الفقر يدمر نفسية الإنسان، خصوصاً الإنسان الضعيف. وسلوك الإنسان وقت الأزمات يكون غير طبيعى، ولا يمكن القياس عليه بحال من الأحوال، لكن علينا أن نتفهم مسألة أن أكل البشر للحم بعضهم البعض، التى نستغربها حين نقرأ عنها اليوم، ليست ببعيدة عن أداء المصريين فى الأزمات. فأكل الإنسان للإنسان لا يعنى فى كل الأحوال أن يطعم لحمه، لكنه يجمع بين طياته العديد من السلوكيات الأخرى التى يأكل فيها البشر حقوق غيرهم، وينعمون بالعيش الرغيد على حرمان غيرهم، بصورة قد تؤدى بهم إلى الموت بالحياة. وللأسف الشديد فالمصريون يؤدون على هذا النحو فى أى أزمة، فتجد كل من يعانى من آثار الأزمة يمد يده فى جيب غيره، أو يحاول حل مشكلته على حساب غيره، لتتسمم حياة الجميع فى النهاية.. ألا يعنى ذلك أن الناس يأكلون بعضهم البعض؟!.