ربعى المدهون: الرواية الفلسطينية تواجه التزييف الإسرائيلى للتاريخ

كتب: شريف حسين

ربعى المدهون: الرواية الفلسطينية تواجه التزييف الإسرائيلى للتاريخ

ربعى المدهون: الرواية الفلسطينية تواجه التزييف الإسرائيلى للتاريخ

هو أول فلسطينى يحصل على الجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر»، دورة 2016، وتحمل روايته «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة» قالباً بنائياً مختلفاً هو قالب «الكونشرتو» الذى ربما أضفى عليها الفرادة التى دفعت عدداً من النقاد للجزم بأنها إحدى العلامات فى تاريخ الأدب الفلسطينى والعربى، ذلك بالطبع مع غنى النص ومتعة السرد وبراعة «المدهون» فى نسج الواقعى مع المتخيل.

المدهون، المولود فى عسقلان، 1945، أى قبل ثلاثة أعوام فقط من النكبة، تعد «مصائر» روايته الثانية بعد «السيدة من تل أبيب»، وتمثلان مشهداً بانورامياً للواقع الفلسطينى فى قطاع غزة، وفى الأراضى المحتلة، بحيث يقدم «المدهون» القضية هذه المرة فى قالب موسيقى يعبر عن حالة الجدل والتفاعل بين الشخصيات، وهو أساس مفهوم «الكونشرتو» الموسيقى الذى يقوم على حوار بين آلتين أو بين آلة وأوركسترا، ويتكون من ثلاث حركات. «الوطن» التقت ربعى المدهون أثناء زيارته للقاهرة، وكان هذا الحوار:

{long_qoute_1}

أتعامل مع العدو كإنسان يحب ويكره ويتزوج لكننى لا أنسى أنه مستعمر وفظ وقاتل

■ تكتب القصة القصيرة منذ السبعينات، فلماذا انتظرت حتى 2010 لكى تصدر روايتك الأولى «السيدة من تل أبيب»؟

- ما انتظرت أبداً، الأمر يتعلق بتطورات الوضع الشخصى، حيث ظروف انتقالاتى من بلد إلى بلد كانت مؤثراً كبيراً على مجمل إنتاجى فى مسيرتى الصحفية والأدبية، والجغرافيا كانت تؤثر بشكل فاعل على كتاباتى، فعلى سبيل المثال، معظم المجموعة القصصية الأولى «أبله من خان يونس» التى صدرت عام 1977 كتبت قصصها فى بيروت، حيث مناخ المقاومة الفلسطينية وحركة التحرير والمخيمات، فالمعطيات التى كنت أتعايش معها هى مصدر تفاعلى مع الأوضاع الاجتماعية السياسية الفلسطينية، أما بعد انتقالى من بيروت لموسكو فإننى عشت سنة فى مكان قاحل، ثم العودة إلى بيروت مرة ثانية ثم إلى قبرص، فتغير هذه الظروف أثر علىّ ولم أستطع كتابة القصة القصيرة واتجهت للصحافة التى أغرتنى.

■ إلى متى أغرتك الصحافة؟

- إلى عام 1998 تقريباً، فى تلك الفترة توقفت عن العمل الصحفى المباشر واتجهت إلى العمل التليفزيونى وكنت أستغل الفراغات للكتابة، وفى لحظة من اللحظات عندما بلغت الخمسين سنة نظرت خلفى، فوجدت فى حياتى دراما فلسطينية كاملة وقررت أن أكتب هذه الدراما التى ربما لا تشبه حياة فلسطينى آخر، فأصدرت «طعم الفراق.. 3 أجيال فلسطينية فى الذاكرة»، وكانت التجربة الأولى للاقتراب من الرواية، لأنها سيرة كتبت فى قالب روائى. أما رواية «السيدة من تل أبيب»، فقد أعقبت زيارة لقطاع غزة فى 2005، وكانت أول عودة إلى فلسطين منذ عام 1967، أى بعد 38 سنة من الغربة، فكانت تجربة مختلفة.

{long_qoute_2}

■ هل تعتبر تلك الزيارة المحرك الأساسى لكتابة «السيدة من تل أبيب»؟

- كانت محركاً قوياً، لكنى كنت أملك الفكرة والشخصيات والحكاية بشكل كبير قبل الزيارة، لا يوجد من يعود إلى بلده بعد 40 سنة من الغربة، وبما أننى مقدم على زيارة لا تشبهها أى زيارة، وأنها سوف تمتلئ بالكثير من المصادفات والمحبة والحميمية، فراهنت أن هذه الرحلة قد تضيف إلى ما لدىّ، وبالفعل قمت بعمل نسيج متكامل بين هذه الرحلة ومصادفاتها والقصص التى كنت أبلورها فى ذهنى.

■ ما الذى تمثله الكتابة فى حياة ربعى المدهون؟

- الكتابة حياة أخرى، لأنها تحقق ذاتك وتحقق معادلات موضوعية لحياتك، فهى تجعلك ترى العالم بصورة مختلفة، ربما تمنحك القدرة على رؤية العالم أكثر توازناً من حياتك الشخصية، وأن ترى العالم فى صيغ أكثر عدلاً وعقلانية.

■ أنت تعزف الماندولين والجيتار، هل اختيارك لـ«الكونشرتو» جاء حباً فى الموسيقى، أم رغبة فى التجريب، أم أنه الشكل الأكثر مثالية لبناء الرواية؟

- كنت عازف ماندولين، وأنا طالب بجامعة عين شمس بالقاهرة، ثم رسبت عامين وتوجهت للإسكندرية وفى تلك الفترة تعلمت العزف على الماندولين، وشاركت فى فرقة شعبية لمدة شهر، ثم نسيت الموضوع، وبعد سنوات تحولت للعزف على الجيتار ولكنى بقيت عازفاً غير محترف، والجيتار بالنسبة لى وسيلة للتسلية ولإشباع رغباتى الخاصة، لكنى مطلع على عالم الموسيقى وقارئ جيد وأقرأ النوت الموسيقية بشكلها القديم والحديث، فكانت الموسيقى موجودة دائماً فعندما أتعب أو أملّ ألجأ إلى الجيتار، ولكن ليس بسبب الموسيقى لجأت لقالب الكونشرتو، ولكن كما يقال كل نص يفرز شكله الذى يناسبه، وعلى الكاتب مراقبة عملية الفرز، ثم التحكم فيها، كنت أعمل على القصة الرئيسية، وهى قصة «جنين وباسم» حيث كان لدىّ شخصيتان شعرت بطريقة أو بأخرى أن العلاقة بين الشخصيتين وتفاعلهما وخلافاتهما وعشقهما وحبهما وما يواجهانه من مشكلات فى إسرائيل، كل ذلك يشكل نوعاً من الحوار والجدال بين آلتين، ومن هنا نشأت فكرة استخدام قالب «الكونشرتو»، وهو ما دفعنى لعمل تقسيم مختلف لأجزاء الرواية، فبدلاً من أن تكون فصلاً أو جزءاً، أصبحت حركات كحركات «الكونشرتو»، وبدأت أضبط النص وحركة السرد الداخلية باتجاه هذه العلاقة، التى تنشأ بين آلتين أو بين آلة وأوركسترا كما هو الحال فى التأليف الموسيقى.

{left_qoute_1}

■ الرواية تتضمن 3 حكايات أساسية، ولكل حكاية بطلان يتحركان فى بناء روائى مختلف، وهو قالب «الكونشرتو»، ألم تخش من أن يتوه القارئ أو يفشل فى الإمساك بخيوط كل حكاية؟

- لم أكن خائفاً، لأن المخاوف تنتج عن مسائل أخرى، فإذا وفر الكاتب متعة سرد وكان قادراً على التحكم فى لغته وبنية سرده وتطويعه بالاتجاه الذى يريده سيخلق نصاً مغرياً قد لا يستطيع القارئ الفكاك منه رغم الصعوبة، وستجد أحياناً بعد الصعوبات تمر بها خلال قراءة «مصائر»، لكنك لا تستطيع ترك النص، وقد تعود إلى الصفحات السابقة لتفهم شيئاً ما، وهذه الحالة صادفتها بين قراء عديدين، لكنهم باستمرار كان لديهم الرغبة فى استكمال النص، كما أن الأمر لا يتعلق بمتعة السرد وحدها، بل يتعلق أيضاً بأن هناك نصاً غنياً بالمعلومات ويكتسب متعته مما يوفره من غنى بالمعلومات والمشهدية التى تكاد تقترب من عين الكاميرا والسينما، هذا يجعل القارئ فى حالة لصيقة بهذا النص ولا يستطيع الخروج منها.

{left_qoute_2}

■ لديك روايتان فقط: «السيدة من تل أبيب» ترشحت على القائمة القصيرة للبوكر فى 2010، و«مصائر» فازت بالجائزة فى 2016، ألم يدفع ذلك النجاح إلى الاهتمام بفن الرواية أكثر من ذى قبل؟

- أنا مهتم بفن الرواية، لكنى مقل، ويرجع هذا إلى طبيعة حياتى، لأننى ما زلت أعمل 8 ساعات فى اليوم، بالإضافة إلى ساعتين أنفقهما فى المواصلات، وأحياناً أحاول أن أسرق وقتاً فى العمل للكتابة.

لدى مقولة دائماً مقتنع بها، وأرددها «لا تكتب إن لم يكن لديك جديد»، وهذا يجيب عن سؤال آخر عن الكتابة الصحفية، فعندما وصلت السياسات الفلسطينية إلى طريق مسدود، ووصلت أنا إلى نقطة وجدت أنه ليس لدىّ ما أقدمه للقارئ توقفت عن الكتابة الصحفية، وكذلك الأمر فى الأدب، أنا لا أصدر العمل إلا إذا كنت متأكداً أنه سيلقى النجاح بقدر ما، ليس لدىّ ضمانات، ولكن غالباً ما يكون لدى الكاتب حس ما بنصه، ولكن يحتاج إلى عين أخرى ترشده وتؤكد له أو تنفى توقعاته، وعندما أتأكد أن نصى أصبح جاهزاً للنشر أنشره، ولذلك أعطى النص مساحة زمنية واسعة جداً. و«مصائر» تطلبت منى 5 سفرات تمتد بين 5 و15 يوماً بين فلسطين والجانب المحتل الذى يسمى إسرائيل، وفى هذه السفرات كنت آخذ أبطالى وأسكنهم وأجعلهم يسيرون فى الشوارع، وكل هذا كان يحتاج إلى الوقت، كما أن الاعتناء بالنص كان يحتاج إلى وقت أيضاً، فأنا لا أكتب تشبيهاً ولا استعارة ولا مشهداً مكرراً، ودائماً لدىّ مفرداتى واشتقاقاتى ولغتى، دائماً لدىّ صور مختلفة.

■ وليد دهمان كان بطلاً فى «السيدة من تل أبيب» وهو أحد أبطال «مصائر» أيضاً، ما الذى يعنيه امتداد هذه الشخصية فى الروايتين؟

- أنا أحببت شخصية وليد دهمان، كشخص كان يقوم بدورى مرة ويتنكر لى مرات، ولذلك يعتقد كثيرون أن فى «وليد» جانباً من سيرتى، ولكن حتى السيرة عندما تنقل تصبح شيئاً مختلفاً، لأنها تدخل ذاتك وتدخل متغيرات أخرى، كما أنك تضفى عليها قدراً من التخييل. هذه الشخصية أعجبتنى وأوحت لى أن «السيدة من تل أبيب» غطت مرحلة زمنية معنية تتعلق بالوضع فى قطاع غزة، بينما زياراتى لعرب 48 وترددى المتواصل عليهم داخل إسرائيل، كانت وراء إيحاء بالتقدم مسافة أخرى لتغطية هذا الجانب أيضاً والتعرض له وتناول مسألة معاناة هذا القسم من الشعب الفلسطينى الذى يقدر بمليون أو أكثر، والذى عانى معاناة شديدة من العرب والفلسطينيين أكثر مما عانى من إسرائيل، على خلفية وجودهم فى مكان واحد مع اليهود وكأن الهجرة كانت هى الحل، فأنا أعتبر أن هؤلاء هم أساس البقاء، وهم الأساس الذى سيبنى عليه مستقبلنا لاحقاً، وهم الذين حافظوا على الهوية الفلسطينية والعربية داخل إسرائيل، وينبغى رد الاعتبار لهم، ومن هنا نشأت فكرة الربط بين «السيدة من تل أبيب» وبين «مصائر»، من أجل التعرض إلى قضية هذا القطاع من الشعب الفلسطينى، وكانت حلقة الوصل «وليد دهمان»، الذى ذهب إلى غزة، ثم نأخذه هذه المرة فى رحلة أخرى إلى إسرائيل.{long_qoute_3}

■ هل يمكن أن نرى شخصية وليد دهمان فى عمل روائى ثالث؟

- «وليد» فى الصفحة الأخيرة من «مصائر» يناقش مسألة بيع بيته فى لندن والإقامة فى حيفا أو أى بلد فلسطينى آخر، ويترك المسألة معلقة إلى حين عودته إلى لندن، وهذه النهاية المفتوحة تجيب عن سؤالك وتطرح سؤالاً هل يفكر فى العودة فعلاً أم لا، أنا لا أعرف، لم يتبلور لدىّ شىء محدد.

■ منذ الصفحات الأولى، تمتلئ الرواية بتساؤلات الهوية كشخصية «الست معارف» رغم أنها ثانوية، هل يمثل الاشتباك مع قضايا الغربة والشتات عبئاً نفسياً عليك، وتزيح هذا العبء بالكتابة؟

- لا يشكل الأمر عبئاً نفسياً، بل إن هذا العبء يكون أثناء الكتابة فقط، بمعنى تأثرك بالشخصيات والأحداث، فهناك لحظات تبكى وأنت تكتب ولحظات تغضب، هذا جزء من التفاعل مع النص، لكن تلك الشخصيات لا تعذبنى بشكل شخصى، وإنما تعذبنى كشخصية روائية. الرواية تختلف عن الوضع العادى، لأن فى الوضع العادى أنا مغترب طوال عمرى، فقد ولدت فى المجدل عسقلان، ثم عشت 16 عاماً فى مخيم خان يونس، ثم عامين فى القاهرة، و4 فى الإسكندرية وبضعة أشهر فى الأردن، وعامين فى سوريا ومثلهما فى العراق، كما عشت 5 أعوام فى بيروت، وعاماً واحداً فى موسكو، و12 فى قبرص، وأخيراً 24 عاماً فى لندن، فأنا حياتى كلها سلسلة انتقالات من منفى إلى منفى، وحتى تعيش حياتك بصورة طبيعية لا بد أن تروض هذا المنفى وإلا ستعيش مرارات دائمة، أما الكلام النظرى حول أن المغترب شخص مشرد وبائس فهو غير حقيقى، لأن المغترب لديه بيته وأهله، لأن هذه هى الحياة المتاحة أمامه، وهو ليس خياراً لأنك لم تختر هذا المكان، لكن عندما تجد نفسك فيه، فإنك تعيشه كما هو إلى أن تدفعك الظروف إلى مكان آخر رغماً عنك.

■ أبطال روايتيك منفيون ومهاجرون يسعون إلى العودة لوطنهم، بوصفك فلسطينياً مهاجراً تعيش فى لندن، هل تشغلك العودة وامتلاك الأرض من جديد؟، أم أن الأمر الواقع يؤجل الفكرة؟

- التفكير فى العودة وامتلاك الأرض صعب فى الفترة الحالية ولكن التخلى عنه خطأ، كل فلسطينى يحلم بالعودة، لكن لا بد من توضيح أن العودة خيار فردى، لا أحد يقول إن كل المصريين الذى يعملون بالخليج يجب أن يعودوا، لأن هناك من يفضل البقاء والعمل هناك، وهناك من يرغب فى الحصول على الجنسية، لكن المهم هو امتلاك الحق نفسه، عندما تمتلك الحق تصبح حراً، وتقرر أن تعود أو لا تعود فهو حقك الطبيعى والشرعى ضمن القوانين الدولية. لكن هل تتخيل أننى كشخص فى سن السبعين يمكن أن أعود وأبنى حياة جديدة؟ فى حين أن هذا الطرح يمكن أن يكون مقنعاً بالنسبة لشاب يستطيع البدء من جديد، يمكن أن يكون مناسباً لأبنائى على سبيل المثال.{left_qoute_3}

■ زرت فلسطين 5 مرات خلال كتابة «مصائر»، صف لى كيف وجدت مدنها التى تعانى فى ظل الاحتلال؟

- عند العودة تكون الصدمة الإيجابية أكبر من الصدمة السلبية، فالعائد يتجاوز إيقاع صدمة أن هذه إسرائيل ويشعر بأنه عائد إلى بلده، تتولد لديك حالة شعورية تجعلك تنفى كل ما هو واقع أمامك وتقنع نفسك أو تقنعك مشاعرك، لأن كل تركيزك يكون منصباً على أنك تريد رؤية بلدك، كذلك طوال الزيارة تتحرك فى وسط عربى لا إسرائيلى، فلا تشعر بأنك فى إسرائيل، لكنك فى نفس الوقت تعرف من ناحية سياسية وواقعية أنك محتل، وأن هناك تمييزاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فباستثناء الحقوق الأساسية مثل حق العمل والتقاعد يكون هناك تمييز واضح ضد العرب فى نسب دخول الجامعات وكذلك يختلف حجم الأموال التى تقدمها الحكومة كدعم للبلديات العربية عن تلك التى تقدم للبلديات التى يتولاها اليهود، فأنت تعرف هذا التمييز وتشعر بالظلم التاريخى وحين تهبط فى مطار مفترض أنه فى بلدة اللد العربية، تواجهك يافطة مكتوب عليها: «مطار بن جوريون يرحب بكم»، هى أمامك وتقول لك إنك فى إسرائيل، فتشعر بأن الأرض أرضك والدولة ليست دولتك، فأنت أشبه بشجرة تمتد جذورها فى أرض فلسطين وتمتص مياهاً فلسطينية وتتغذى من أرض فلسطينية وعندما تثمر وتصدر، تصبح إسرائيلية، ولكن شعورياً تتجاهل ذلك كله لأنك تريد أن ترى بلدك الذى تحدث أهلك عنه سنوات طويلة وأنشأوك على حبه.

■ ماذا عن الزيارة الأولى؟

كان هناك شىء من التوقع والتوجس، هى مشاعر متناقضة بين الخطاب الشعرى الرومانسى بأنك سوف تنحنى وتقبل تراب البلد لكن عند وصولك تشعر بأنك فى مطار مدريد أو مطار القاهرة، حيث الحجارة والبلاط، ثم تبدأ فى الترقب والتفكير فيما سوف تواجهه، هل سيعترضونك؟ هل ستخضع للتحقيق؟ هل ستتعرض للترحيل؟ أم ستدخل بسهولة، ولكن ما إن تخرج حتى تتنفس هواء البلاد وترمى كل هذا خلف ظهرك، وتبدأ فى الاستمتاع بالزيارة.

■ تعرض اليهود لإبادة جماعية من النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، هل ترى أن «الهولوكوست» نقطة انطلاق إسرائيل نحو الممارسات الوحشية فى حق الفلسطينيين؟

- هى ليست نقطة انطلاق، هم يستثمرونها لتبرير ما يقومون به، فمنذ 1954 بدأ الإسرائيليون ينتبهون إلى فكرة استخدام «الهولوكوست» فى الدعاية فى العالم كله، وللأسف نجحوا فى استغلالها استغلالاً قوياً فى مواجهة كل من يخالفهم، فأى كاتب أو أديب أو حائز على جائزة نوبل يعطى تصريحاً ضد السياسات الإسرائيلية والاستيطان، يتم اتهامه مباشرة بمعاداة السامية وتبدأ مطاردته إعلامياً إلى أن يعتذر أو يتراجع أمام الضغط، وأنت تعرف سيطرتهم على هوليوود، فالهولوكوست استخدمت لتبرير السياسات الإسرائيلية وإرهاب العالم بمنطق أننا ضحايا، وبالتالى مبرر لنا أن نفعل ما نشاء، هذه هى العقلية الإسرائيلية.

■ وهل يبرر تعرض مجموعة ما لأعمال وحشية لممارسة الوحشية ضد آخرين؟

- هى تُستغل من أجل المتاجرة بها وإرهاب العالم، وحين تتعرض إسرائيل لأى ضغوطات ترفع «الهولوكوست» كواجهة فى وجه العالم.

■ هل يخشى الروائيون الفلسطينيون من ضياع تاريخهم، فيجتهدون فى توثيقه فى صورة روائية؟

- دعنا نطرح الأمر بطريقة أخرى، دعنا نقل إن الروائيين الفلسطينيين يواجهون الرواية الصهيونية القائمة على أن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وأنهم عادوا إلى بلدهم بعد 2000 سنة، وأنها أرض الميعاد وأنه لم يكن فيها أى إنسان بل كانت صحراء قاموا هم بتعميرها، فوظيفة الروائيين الفلسطينيين هنا مواجهة هذه الرواية من خلال محاولة إقناع العالم -إذا تمكنت أن تصل إلى العالم- بروايتك أنت الحقيقية، أن تقنع العالم بما حدث عام 1948، وبأن هناك مذابح محت أكثر من 450 قرية، وأنه تم تهجير ثلاثة أرباع مليون فلسطينى، نحن نحاول مواجهة الرواية الإسرائيلية التى تقفز عن كل هذا.

■ إلى أى مدى يمكن اعتماد الناس على الأعمال الأدبية كمصدر للتاريخ لمواجهة التاريخ الرسمى؟

- أرى أن التاريخ الحقيقى هو الذى يؤخذ من أفواه الناس العاديين الذين عاصروا أكثر مما تكتبه كتب التاريخ التى تروى رواية المنتصر، فمن بعد خلق إسرائيل محيت خريطة فلسطين فى جميع أطالس العالم باستثناء الخرائط العربية. المنتصر يكتب التاريخ حسب مصلحته، لكن الطريق الشفوى هو الأكثر صدقاً، لأنه يروى الحكايات الحقيقية، وكذلك الأدب يلتقط أيضاً محتواه من هذا التاريخ الشفوى، فأنت تستمع وتسجل حكايات الناس العاديين، أما التاريخ الرسمى فلا يسجل سوى الوقائع التى تناسب ما يريده المنتصر.

■ هل تخبو شعلة القضية الفلسطينية قليلاً فى ظل الصراعات الدامية التى تلتهم بعض الدول العربية، والتحديات الأمنية والاقتصادية التى تشغل دولاً أخرى؟

- بالتأكيد، هناك فرق بين زمنين: زمن كان العالم فيه منقسماً إلى قطبين، وبه صراعات على المستويين الإقليمى والدولى وكانت فلسطين تحظى بتأييد كتل عالمية واسعة وضخمة، وبين زمن فيه الوضع العربى مزرٍ ومدمر ومتهالك ومشغول بمشاكله الداخلية، وهى من أعقد وأصعب ما واجه العرب فى تاريخهم بشكل دموى وعنيف. هناك مجتمعات ودول تنهار، والمسألة الفلسطينية لم تعد أولوية، لذلك فى الظروف الراهنة لا أعتقد أن هناك إمكانية لحل فلسطينى.

■ قلت فى حوار سابق إنك تؤمن بالعيش المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ما مفهوم «العيش المشترك» فى نظرك؟

- هو أن يعيش الطرفان حياتهما الطبيعية بحقوق متساوية، لأن المسألة فى نهاية الأمر ليست مسألة أنا مع أو ضد، وإنما مسألة أن هناك 6 ملايين يهودى و6 ملايين فلسطينى فى نفس البقعة الجغرافية بالإضافة إلى نحو 6 ملايين فلسطينى فى الشتات، ما الحل؟ بعيداً عن الأيديولوجيا والضغوطات السياسية والشعارات والعواطف. هل يذبح الـ6 ملايين يهودى الـ6 مليون فلسطينى أو العكس؟ وهل يستطيع أى طرف التخلص من الآخر؟، كلا الطرفين يدعى أنه يمتلك الأرض، صحيح أن الإسرائيليين كذابون وهو مشروع صهيونى استعمارى لكنهم موجودون، فما الذى ستفعله، أنا أطرح حلاً إنسانياً وهو الذى تقوم عليه الرواية كلها، أن نصل إلى تعايش، لكن هذا لا يمكن أن يحدث دون حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه الوطنية، إما الحق فى الاستقلال فى دولة وطنية مع عودة اللاجئين، وإما أن يعيش الطرفان فى بلد واحد بدولتين أو قوميتين، فالمهم هو إنهاء هذا الصراع. المشكلة ليست لدى الفلسطينيين بل تتركز المشكلة فى أن الإسرائيليين يريدون التخلص من الفلسطينيين نهائياً، هم لا يوافقون على أن يقدموا للفلسطينيين أى شىء، لذلك فالمساواة إنجاز نحلم به.

■ دائماً ما تهتم برسم صورة واقعية للعدو بعيداً عن الصور النمطية فى الأذهان، فكيف يكتب «ربعى المدهون» الإسرائيلى فى أعماله؟

- كما هو فى الواقع، هو إنسان، ولكنه أيضاً مستعمر وجندى فظ على الحواجز وجندى قاتل فى بعض الأحيان ومستلب للأرض، وهو إنسان يحب ويكره ويتزوج ويطلق ويأكل ويحب أطفاله، أى بمعنى آخر أكتب بهذه النظرة الشمولية له كإنسان ولا أستطيع تجاهل أنه محتل، فعندما تزور الضفة الغربية تشهد الحواجز والقمع والسجون هذا هو شكل الإسرائيلى فى حياته اليومية.


مواضيع متعلقة