شموع التنوير فى سراديب العصور الوسطى

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

■ فى (30) مايو (1926) تقدم أحد طلبة القسم العالى بالأزهر ببلاغ إلى النائب العام يتهم فيه د.طه حسين بأنه ألف كتاباً سماه «فى الشعر الجاهلى»، ونشره على الجمهور، وفيه طعن صريح فى القرآن الكريم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوى.. وبعد أسبوع واحد تقدم فضيلة شيخ الأزهر إلى النائب العام ببلاغ آخر مرفق به تقرير علماء الأزهر عن الكتاب، وطلب تقديم المؤلف للمحاكمة.. ثم تقدم النائب «عبدالحميد البنان» بطلب إلى مجلس النواب بتكليف الحكومة بمصادرة وإعدام الكتاب وتكليف النيابة العامة برفع الدعوى على مؤلفه وإلغاء وظيفته فى الجامعة.. ناهيك عن أن المعارضين للكتاب حرضوا طلبة الجامع الأزهر على القيام بمظاهرة تتوجه إلى بيت «سعد زغلول» مطالبين الحكومة باتخاذ إجراءات رادعة لـ«طه حسين»، مثل طرده وإعلان كفره وإلحاده رسمياً.. لكن النائب العمومى المستنير برأ «طه حسين».. وإن كان ذلك لم يمنع أن يتلقى «طه حسين» تهديداً بالقتل.. ويضطر البوليس لأن يفرض الحراسة الدائمة على منزله.. يقول فى ذلك الكاتب الكبير «محمود عوض»: إن خطاب التهديد معناه أن صاحبه لم يعد يرفض رأى «طه حسين» فقط.. إنه يرفض وجوده شخصياً.. إن بعض أفراد المجتمع لا يريدون قتل الرأى فقط.. لكن يريدون أيضاً قتل صاحب الرأى.. لأنه لا يطيع.. لا يفكر كواحد من القطيع.. لأنه ليس واحداً من الذين يذهبون إلى أطلال الماضى ويذرفون الدموع.. إنه يرفض أن نأخذ القديم على علاته لمجرد أنه قديم.. يرفض أن نصدق آباءنا فى التاريخ الذى رووه لمجرد أنهم آباؤنا.. إنه يريد لنا عقلاً واعياً.. يبحث ويقارن ويفحص ويراجع ثم فى النهاية يؤمن.. إنه يرى أن القدماء أغلقوا على أنفسهم باب الاجتهاد فى الأدب.. كما أغلقه الفقهاء فى الفقه.. لقد قدم المجتمع استقالته من القرن العشرين.. عاد إلى الكهف.. من داخل الكهف يلتمس المجتمع التعزية.. إن عظمة آبائه وأجداده لم تكن بالنسبة له دافعاً إلى العظمة مثلهم.. ولكنها كانت بديلاً وتعويضاً.. العظمة تريد مجهوداً.. عقولاً تفحص وتناقش وتراجع وتتعلم.. يقول «محمود عوض»: ولكن المجتمع لم يكن يريد ذلك فى تلك الفترة المبكرة بالقرن العشرين، ولو كان رحمه الله حياً حتى الآن لأدرك أن الجملة ناقصة.. إن المجتمع لم يكن يريد عقولاً تفكر لا فى القرن العشرين.. ولا فى القرن الواحد والعشرين.. إن الكهف ملجأ للمجتمع ضد المستقبل.. وضد الزمن.. لهذا يسد بسرعة كل ثقب يدخل منه النور إليه فى داخل كهف..

ما علينا.. فقد انتهى قرار النيابة الذى كتبه الشاب الرائع «محمد نور» رئيس نيابة «مصر» فى (30) مارس 1927 إلى أنه لكل إنسان حرية الاعتقاد بغير قيد ولا شرط وحرية الرأى فى حدود القانون فله أن يعرب عن اعتقاده وفكره بالقول أو الكتابة بشرط ألا يتجاوز حدود القانون.

وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد (الطعن) و(التعدى على الدين)، بل إن العبارات التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها..

وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، فلذلك تحفظ الأوراق إدارياً..

وهناك بعض الدلالات المهمة التى تشير إلى بؤس ما وصلنا إليه الآن.. فقد أوضح أن بلاغ شيخ الجامع الأزهر، الذى أرفق به تقرير علماء الأزهر أنه طلب اتخاذ الوسائل القانونية، ولم يعمد إلى تكفير.. «طه حسين» أو النيل منه أو التشهير به.. فكان طلب شيخ الأزهر.. وعلمائه طلباً متحضراً، وفى حدود القانون دون غوغائية.. كما أن التحقيق تم فى جو من سمو لغة وحديث المحقق إلى «طه حسين» حيث يستخدم لفظ (حضرتكم) عندما يوجه سؤال إلى «طه حسين» وذلك غير محضر التحقيق ومذكرة الحفظ أن المحقق قد رجع إلى معظم المصادر العلمية التى رجع إليها المؤلفون، فالمحقق كان يناقش المؤلف مناقشة علمية فى المضمون، الأمر الذى يقطع برجوع المحقق إلى أهم المصادر المتاحة لديه ولعل هذا يوضح بجلاء ملامح المناخ الذى كان يعيشه المجتمع المصرى إبان هذه الحقبة.. حيث كانت قد استقرت -إلى حد كبير- فى المجتمع المصرى بعض القيم البازغة.. والتى كانت تعبر عن النقيض تماماً لما ساد هذا المجتمع من قبل ألا وهى قيم العلمانية والتنوير والشرعية.. ويأتى ذلك كنتيجة منطقية لمسيرة طويلة خاضها الشعب المصرى، وعلى الأخص جانب كبير من مثقفيه منذ بدايات الدولة الحديثة فى عهد (محمد على) ولا يمكن أن نغفل هنا الأدوار التنويرية الطليعية للرواد من أمثال «الطهطاوى»، و«الأفغانى»، و«محمد عبده»، و«لطفى السيد»، و«قاسم أمين»، و«سعد زغلول»، وغيرهم كثيرون إذ ترجم حصاد جهود متواترة لنحو القرن فى إفراز مثل هذا المناخ، الذى تم فيه تأليف ونشر كتاب «طه حسين»: «فى الشعر الجاهلى».

■ أما كتاب «الله والإنسان»، الذى ألفه د «مصطفى محمود» وصدر عام (1957) وتضمن أفكاراً تراجع عنها فى رحلته الطويلة من الشك إلى الإيمان.. وكان الكتاب قد صودر بعد عاصفة عاتية من الهجوم عليه.. فإن الفتوى الرسمية بالرأى فى الكتاب الصادرة عن دار الافتاء خلت من اتهام بالكفر.. وهذا أيضاً يوضح كيف سمح المناخ الثقافى المتسامح والعقلانى فى الخمسينات والستينات أن تخرج تلك الفتوى دون شطط ودون سعى إلى سجن المؤلف أو قتله.. وقد ساعد عدم وجود الجماعات التى تصدر فتاوى التكفير على إصدار فتوى بعيدة عن التأثر بمخافة الاتهام فى دين إن خرجت تلك الفتوى وبها رفق ورأفة بالكاتب.. حيث أكد المفتى الشيخ «حسن مأمون» فى الفتوى أن الكاتب عُنى بتمجيد العلم والعقل والحرية وإظهار أثرها فى تقدم الفرد والأمة.. وأنهى فتواه بعبارة: «نسأل الله لهذا الكاتب وأمثاله الهداية والرجوع إلى الحق، فإن الرجوع إلى الحق فضيلة والله أعلم»..

■ حينما قامت ثورة (30) يونيو منذ خمس سنوات.. أيقنت تمام اليقين أننا سوف نتحرر من الظلاميين لتعود روح صناع عصر النهضة ترفرف فى سماء المحروسة.. كما أيقنت أن الخفافيش سوف تتوارى فى أوكارها وفى السجون.. فتسترد ثورتنا عافيتها ونحقق حلم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.. وتصنع مدينتها الفاضلة وأحلامها الكبيرة.. لكن وقد مر عام (2015) الكئيب باغتيال حرية الفكر واقتيد «إسلام بحيرى» إلى السجن.. ثم فى عام 2016 صدر الحكم بسجن «فاطمة ناعوت»، و«أحمد ناجى»، حيث عدنا إلى سراديب العصور الوسطى وكهوف الجمود وغلظة تجار الدين الذين استهدفوا فى شخص «إسلام بحيرى» مفكراً اجتهد ليضىء شمعة تنوير وسط ضباب كثيف. والحكم بالحبس يأتى بالمخالفة لنصوص الدستور المصرى التى تمنع الحبس فى قضايا حرية الإبداع والنشر.. إنها عودة لقضايا الحسبة التى ناضل المثقفون المصريون من أجل إلغائها والتصدى لمن ينصبون أنفسهم رقباء على العقل وعلى حرية التفكير والاجتهاد -وعلى حد تعبير بيان نقابة الصحفيين الهام- ووكلاء عن المجتمع لملاحقة أصحاب الرأى دون صفة قانونية تتيح لهم ذلك.. فالحكم بهذا الشكل يأتى ليغلق من جديد باب الاجتهاد فى وجه المبدعين والمطالبات المتعددة بثورة دينية لتخليص الدين من الرؤى المنغلقة.. وبذلك يعد حكم الحبس صفعة لكل جهود التنوير، وهدماً لفكرة تجديد الخطاب الدينى..

لقد رفض الضابط المكلف باقتياد «إسلام بحيرى» إلى محبسه أن يعامله معاملة المجرمين الخارجين عن القانون، ويضع «الكلابشات» فى يده.. مدركاً ببصيرته الهادية.. وعقله الراجح وروحه الحانية أن الفكر لا يسجن.. وفى العشرينات من القرن الماضى لم يسجن الشيخ الجليل «على عبدالرازق» عقاباً له على مؤلفه «الإسلام وأصول الحكم».. ولم يسجن «طه حسين» عقاباً على كتابه «فى الشعر الجاهلى».. وفى الخمسينات لم يسجن د. «مصطفى محمود» عقاباً على كتابه «الله والإنسان».. فالفكرة تناهضها فكرة.. والرأى يجابهه الرأى الآخر.. وحرية الاختلاف سمة الأمم المتحضرة.. والدستور يحمى حرية الرأى والتعبير والاعتقاد والتصور.. ووجهات النظر المختلفة.. والكلمة الحرة والأحلام بالتغيير والحداثة.

فالجمود الفكرى والتحجر العقلى والثبات عند المسلّمات والموروثات العتيقة التى تحتوى عليها الكتب الصفراء وكهنوت الذين يتصورون أنهم يملكون صكوك العقاب الإلهى للمارقين -من وجهة نظرهم- أسوة بسلاطين الكنيسة فى العصور الوسطى الغابرة هم هؤلاء الذين قادونا إلى ممارسات الداعشيين الوحشية..

كان هذا هو حالنا ابتداء من العشرينات وحتى الآن، فأى غبار أسود أصاب المناخ العام بسموم التكفير.. والمصادرة الذى نعيش فى كنفه الآن.. وأى زمن كريه هذا الذى يصبح فيه سجان العقل وفقهاء المصادرة وأعداء الحضارة الإنسانية الذى يحكمون الشارع من فوق المنبر هم الأطهار فى مملكة الشر.. وهم الطلقاء.. والمفكرون والمبدعون هم الشياطين فى دنيا الأطهار.. وهم السجناء..؟!