على مبروك

نائل السودة

نائل السودة

كاتب صحفي

أصيبت الأوساط الثقافية التنويرية والمواطنون المتابعون والمشاركون فى صياغة وترويج الأفكار العقلانية، بصدمة وفجيعة كبيرة برحيل المفكر على مبروك المفاجئ، الذى لم يمهله المرض الخبيث أكثر من ثلاثة أسابيع ليعصف بالثمانية والخمسين عاماً من عمره. كان جميعهم ينتظر منه المزيد من الأفكار النقدية فى مواجهة الفكر الأصولى واللاعقلانى والخرافى وله جهد فى ذلك، ولكن الموت قطع توقعاتهم تماماً.

ونحن فى السطور المقبلة نعرض فقط دون نقد أو تعليق لبعض من أفكاره الرئيسة، إجلالاً للحظة موته المبكر القاسية والجليلة، ولمودته وصداقته وأستاذيته.

كان «مبروك» مهتماً بسبل إنتاج معرفة تسهم فى النهضة ومواجهة الإشكالية المركزية فى الفكر العربى وهى تخلف الواقع العربى، وهو لذلك عرض أسباباً رآها سبب تخلف هذا الفكر وهذا الواقع، وحدد نقطة البدء منذ أثير سؤال النهضة -العقل أم القوة- فى أواخر القرن الثامن عشر (مع وصول الحملة الفرنسية) على يد المعلم يعقوب أولاً وليس على يد رفاعة رافع الطهطاوى، الذى أخذ عن «يعقوب» السؤال والإجابة التى فصلها تفصيلاً ونقلاً.

وينكر «مبروك» هذا النقل على يد رفاعة وأبنائه من بعده حتى اليوم لأنه لا معرفة جاهزة، وهذه المعرفة الجاهزة المنقولة تفتقد الدقة وتنعدم مطابقتها للواقع، وأننا لكى نفهم وندرك الواقع يقرر أنه كمفهوم يتكون مما أسماه أولاً: البرانى أو الإجرائى أو الظاهر المرئى، وهو يشمل كل ما يتحقق فى عالم الفعل والممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ.

ويتكون ثانياً من: الجوانى أو التأسيسى أو الكامن أو اللامرئى أو الثابت المركزى.

والجوانى هذا هو الذى يربط الجوانب المرئية البرانية المبعثرة فى منظومة تُعلق كلاً ببعضه، الجوانى هذا -الثابت المركزى- هو الفكرة الحاكمة التى تنتظم كل أشكال تلك الممارسة البرانية، وطبقاً لهذا التعريف فإن الواقع لا إدراك واعياً له لأنه يتم عزله عن السياقات المعرفية المنتجة له، وكذلك يتم عزله عن السياقات التاريخية التى ظهر فيها، والاشتغال على التراث هو عمل معرفى بالأساس، والنجاح هو تفكيك هذا الجوانى.

ولذلك شن على مبروك هجوماً شديداً على الأيديولوجيات ورأى أنها لا تقدم حلاً لأن الحل لا يتعلق بنقض أيديولوجية قائمة لحساب أيديولوجية جاهزة، وكتب فى ذم الأيديولوجيا أنه بأدلجة المفاهيم يتم تقييدها والبعد عن حقيقتها وتحويلها إلى طبيعة غير طبيعتها، لكى تتجاوب مع تصرفات الفاعل (أى الأيديولوجيا) وبالتالى فهى قناع مستعار يتم فرضه على الواقع قسراً.

وهى عندما تفعل ذلك فإنها تعتمد على التعالى باعتبار نفسها المطلق فى المعطى والمطلق فى النهائى والنتائج، مما يعطى معرفة زائفة وليست حقيقية ومثلها فى ذلك مثل المعتقد الدينى، كلاهما يملك أحكاماً مسبقة ويعمل على التمييز والعزل وإقصاء الخصم بنظامه المعرفى وبذلك يتم إخفاء سلطة الحقيقة بسلطة القوة مما يؤدى لتثبيت سلطة مطلقة واستبداد.

ثم إنها تختزل الواقع فى البرانى الظاهر فقط، فتفرض الجاهز الذى تحمله على الواقع مما يؤدى إلى التبعية سواء كانت أصولية أم غربية، وهذا يهدر الواقع ويجزئه ويحوله إلى واقعة جزئية بينما هو يتصف بالعمومية والشمولية.

وتنظر الأيديولوجيا -حسب على مبروك- إلى الواقع من زاوية واحدة، بينما هو بناء كلى له علاقة بالتاريخ وبالزمان الثقافى الذى لا يمكن إنكاره وتخطيه، ولهذا نقد تقريباً كل المفكرين العرب ابتداء من المعلم يعقوب والطهطاوى والسلفيين والتاريخانيين والقوميين والأيديولوجيين مثل محمود إسماعيل وسلامة موسى والطيب تيزينى ومهدى عامل وهادى العلوى وحسين مروة وغيرهم.

سلاماً عليك وعلى كل عقل فقدته البلاد.