القيادة قبل أن تكون علماً وفناً ودراية، هى موهبة فطرية يمنحها الله لمن شاء من عباده. قد يكون الإنسان عالماً فقيهاً، مفكراً فيلسوفاً، لكنه ليس مؤهلاً للقيادة ولا يصلح لها، «وكل ميسر لما خُلق له»، كما جاء فى الحديث.. وفى الموقف المتفرد لابنة شعيب (عليه السلام) وهى تتحدث عن كليم الله موسى (عليه السلام) ما يدل على أن هناك أسساً يتم بموجبها اختيار الرجال أو النساء للقيام بهذا العمل أو ذاك، عندما قالت لأبيها: «يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِىُّ الْأَمِينُ» (القصص: ٢٦). فالقوة هى تعبير عن الطاقة والقدرة والكفاءة فى أعلى صورها، والأمانة دلالة على الوفاء بالمسئولية بشروطها المتفق عليها، والقيام بالتبعة على خير وجه، من حيث الإجادة والإتمام والإتقان، والأمين هو الحافظ الحارس، وأيضاً من يتولى رقابة شىء أو المحافظة عليه.
وقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يتخير الرجال فى المهام المختلفة، فهذا يصلح للمفاوضات، وذاك للتخطيط، وهذا يصلح لقيادة الجيش، وذاك لتعليم الناس الفقه، وهذا يصلح لنقل الرسائل للملوك، وذاك لإدارة شأن من الشئون، وهكذا. ولا يقدح فى قدرة وكفاءة الرجل أنه لا يصلح لعمل ما، فهو يصلح لعمل آخر ربما يكون أكثر مناسبة وملاءمة له. ومن يصلح لعمل فى مرحلة قد لا يصلح لنفس العمل فى مرحلة أخرى. ثم إن الأمر «إذا وُسّد لغير أهله فانتظر الساعة»، كما قال الحبيب (صلى الله عليه وسلم)، لأنه متضمن لضياع الأمانة، وعدم وصولها لمستحقها.
علينا أن نضع الرجل المناسب فى المكان والتوقيت المناسبين. ويتطلب الأمر معرفة دقيقة بطبيعة الوظيفة المطلوب شغلها، وما يرتبط بها من مهام واضحة ومحددة فى هذه المرحلة، كما يتطلب أيضاً معرفة دقيقة بالخصائص التى يتمتع بها المتقدم لشغل هذه الوظيفة، فإن كان مناسباً لها فبها ونعمت، وإلا فسوف تكون خسارة وخراباً. ثمة أمر آخر على قدر كبير من الأهمية، وهو أن القيادة لم تعد حصراً على الأفراد، بل صارت مؤسسية، وفى هذا إثراء للأفكار والآراء وتحسين للأداء، وعصمة لأى قرار من الزلل، فضلاً عن القضاء على الاستبداد.
أعلم أن هناك من شرعوا أسلحة الهجوم من قذائف مدفعية وصواريخ أرض - أرض قاصدين هدم الأزهر، رغم أنه تاريخ وقيمة وقامة، ومن ثم فالحفاظ عليه حفاظ على الماضى والحاضر والمستقبل. يذكّرنا هؤلاء بإخوة يوسف حينما تآمروا عليه للتخلص منه وتصفيته لأنه -فى نظرهم- سبب مشكلتهم وتعكير صفو علاقتهم بأبيهم، وبعد ذلك تعود العلاقة على أفضل وأحسن ما يكون، بل يمكنهم أن يتطهروا من ذنوبهم ويصبحوا أنقياء أتقياء (وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)، هكذا يفكر البعض. صحيح أنه يوم أن قصّر الأزهر فى القيام بمسئولياته الكبيرة نبتت فى الوطن جماعات وتشكيلات كثيرة، نشأت جمعية «الشبان المسلمين»، وجماعة «أنصار السنة»، و«الجمعية الشرعية»، وجماعة «الإخوان المسلمون»، و«الجماعة الإسلامية»، و«الجماعات السلفية»، وجماعة «الجهاد»، وغير ذلك من الجماعات.. فكيف نعيد لهذه المؤسسة العريقة رونقها وبهاءها، حتى يتسنى لنا القضاء على هذه الفوضى، فضلاً عن سيادة الإسلام الوسطى، من حيث الفكر، والمنهج، والوسائل والأهداف؟ أعلم أن هذا يحتاج إلى وقت طويل، وجهود جبارة، وهمم وعزائم رجال لا يعرف اليأس طريقاً إليها، لكنه لا مفر من ذلك، و«رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة». إن المادة (٧) من الدستور تنص على أن «الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، وهو المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم. وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء».
الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، رجل له كل الاحترام والتقدير، وهو صاحب علم وفقه، لكنه لا يصلح بمفرده لقيادة الأزهر، خاصة فى المرحلة الحالية.. فهذه المؤسسة فى أمسّ الحاجة إلى «قيادة مؤسسية» بالمعنى الحقيقى، ولديها قدرة على الابتكار والإبداع، والسباحة ضد التيار، كما يقال.. ليبق الدكتور الطيب شيخاً للأزهر، لكن لا بد من رفده بمجموعة من العلماء من ذوى القدرات والكفاءات المتخصصة فى التخطيط والإدارة والرؤية الاستراتيجية لتحقيق ما هو مطلوب من الأزهر، محلياً وإقليمياً ودولياً، وما يستلزمه ذلك من تجديد للمناهج، واستحداث لخطط وبرامج، وإنشاء لهياكل إدارية وتنظيمية، ولجان فنية ونوعية، علاوة على استيعاب آمال وتطلعات الشباب الباحث عن دور فى الدعوة الإسلامية. باختصار شديد، مؤسسة الأزهر فى أمسّ الحاجة إلى فكها وإعادة تركيبها من جديد، بشكل يتفق مع الرسالة الضخمة التى نتمنى أن تضطلع بها. إن التراث يحتاج إلى إعادة النظر فى بعض مواده، وتنقيته مما علق به من مفاهيم تخالف الثابت والمحكم، أو اجتهاد لم يعد مناسباً أو ملائماً لظروف العصر ومتطلباته. التراث يحتاج إلى رؤية جديدة، فكرية وثقافية ممنهجة، تضع الأصول والقواعد الفقهية الصحيحة للتعامل مع النصوص، قرآناً وسنة صحيحة، وأعتقد أن لدينا من العلماء مجموعة غير قليلة ممن لهم دراية بعلوم القرآن، من حيث معرفة المقيد والمطلق، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه، وأسباب النزول، وأساليب اللغة العربية، وهكذا.. بالمثل، لدينا من علماء السنة، من أصحاب الفهم السليم والفقه الصحيح، عدد لا بأس به.. وهؤلاء وأولئك يستطيعون النهوض بعملية التجديد المطلوب.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.