طرحتْ منصة Netflix مؤخراً مسلسلاً وثائقياً باسم «الوصية.. قصة موسى»، من خلال ثلاثة أجزاء عناوينها: «النبى - العقاب - الأرض الموعودة». اعتمد مخرج المسلسل «بنجامين روس» على أسلوب فنى مزج فيه بين المشاهد التمثيلية ومداخلات المتخصصين. هذا العمل يقول منتجوه فى مقدمته، إنه لا ينبغى اعتبار السردية الواردة فى العمل روايةً متفقاً عليها، وإنهم يقدمون فقط رؤية استكشافية لقصة نبى الله موسى، بناءً على دمج آراء متنوعة لعلماء دين ومؤرخين من مختلف الديانات. لكن رغم هذا الزعم، فإن المشاهد يدرك فى النهاية -بشىء من التدبر- أن لا هدف لهذا العمل الملهم -حسب توصيف المنصة- إلا أن يستل منك طواعية فى المشهد الأخير إقراراً بأحقية اليهود فى أرض كنعان، أو.. فلسطين.
اليهود والحضارة.. بالطبع لم يستيقظ كتّاب الفيلم الثلاثة «بنجامين روس، وكيرون كويرك، وليندسى شابيرو» ذات صباح وقد تملكهم جميعاً فجأة شغف توثيق قصة حياة سيدنا موسى على نحو درامى! فالعمل الذى بلغت مدته 255 دقيقة، ربما لم يكتب من أجل التأريخ، بقدر ما كتب من أجل نثر أفكار بعينها، والتشويش على أفكار أخرى. على سبيل المثال، قدم الفيلم العبرانيين (قوم موسى) على هيئة عبيد يعملون فى البناء، وأن لا سبب لرفض فرعون فكرة خروج موسى ومَن معه من مصر، إلا خوفه من الإخلال بنظام البناء والعمران فى البلاد! وهذا فى أثره العميق على المشاهد، يتسق تماماً مع المزاعم البائسة التى تروج أن اليهود هم بناة الأهرام، والرسالة: «العبرانيون المستعبَدون هم البناة الحقيقيون لمعمار الحضارة المصرية القديمة»!
اليهود والاضطهاد.. منذ اللحظة الأولى للمسلسل والتصميمات البصرية لمظاهر اضطهاد العبرانيين طوال المسلسل، والانطباع النفسى المرافق لها، تستدعى داخلك -على نحو آلى- طاقة التعاطف الإنسانى الطبيعى نفسها مع مشاهد اليهود المضطهدين فى فيلمَى «Schindler’s List»، و«The Pianist»، وغيرهما، لتجد المقاربة بين اضطهاد اليهود فى ألمانيا حقبة هتلر، واضطهاد اليهود فى مصر حقبة فرعون، تكبر فى مخيلتك شيئاً فشيئاً مثل كرة ثلج! ثم يداهمك التصريح -دون مواربة- فى نهاية الجزء الثانى، على لسان الحاخام «شلومو إينهورن»، حين يقارن بين انهيار فرعون وانهيار هتلر! والرسالة: «من فرعون إلى هتلر، اليهود دوماً كانوا مضطهدين؛ لذا فإن اليهود فى حاجة ماسّة إلى وطن آمن يجمعهم»!
اليهود والعرب.. فى المسلسل تمت الإشارة إلى العرب والقبائل فى المنطقة العربية مرتين، أولاهما صراحة على لسان النبى موسى، حين قال: «بنو إسماعيل قادمون لإثارة المتاعب»، وذلك فى أثناء وجوده فى مدين. والمرة الثانية عقب أن شقَّ الله له البحر لينجيه وقومه، فيجد العبرانيون أنفسهم فى مواجهة أخطار أخرى هى قبائل الصحراء، ليتضرع موسى إلى ربه قائلاً: «إلهى.. قُد أبناءك إلى النصر»، هكذا كان يدعو، فى حين كان العبرانيون يقاتلون خصومهم فى المناطق العربية؛ هؤلاء الذين يريدون استعبادهم من جديد، لتأتى مداخلة الكاتب الأمريكى «جوناثان كيرش» مؤكدة وكاشفة المعنى المقصود، إذ قال: «كثير من سكان الشرق الأدنى القدماء لم يكونوا إسرائيليين، وكانوا أعداءً للإسرائيليين». هكذا كانت الرسالة: «العرب خصوم إسرائيل، ولن يتوانوا عن إبادتها متى سنحت الفرصة»!
اليهود وفلسطين.. ومن بعد كل هذا الاضطهاد، وتلك المعاناة، والتيه أربعين سنة فى الصحراء، تأتى اللحظة التى ينتظرها الجميع؛ النبى موسى وأسرته، والعبرانيون، ومشاهدو المسلسل، إنها لحظة الوصول إلى عتبات أرض كنعان، لنكتشف كيف تبدتْ آثار الزمن على شعر النبى موسى ولحيته، ثم تأتى المفاجأة؛ الله -لحكمة ما- لم يسمح له بالعبور، فيقول النبى موسى على نحو مؤثر وقد ترقرقت عيناه: «الأرض الموعودة، ولن أصل إلى هناك أبداً»، فترد عليه شقيقته: «صحيح.. لكن سيصل إليها أبناؤك». والرسالة واضحة: «أرض كنعان هى الأرض التى وعد بها الرب قوم موسى، وهى وطنهم»!
فى النهاية.. كانت هذه هى الرسائل المفخخة التى تضمنها مسلسل، يحتل -حتى كتابة هذه الكلمات- المركز الثانى فى أفضل 10 عروض تليفزيونية لمنصة Netflix فى مصر. هذا العمل ينتابك شك فى أثناء مشاهدته بأنه فيلم من إنتاج إسرائيلى خالص، وهو ما يدفعك إلى البحث عن صناعه، لتكتشف أن إنتاجه من خلال شركة أمريكية، وأن ممثليه تنوعت جنسياتهم بين الأمريكية، والبريطانية، والتركية، والإسرائيلية، فينتابك مزيدٌ من الشك! ليبقى الثابت أن مسلسل «قصة موسى» فيه سُمّ قاتل.