قبل أيام عجزت عن النوم، كان ذلك بعد أن صادفنى مقطع فيديو، تظهر فيه الطفلة جاينيى، ذات الـ16 شهراً، خلال احتضارها بعدما تركتها أمها وحيدة فى المنزل، وذهبت فى عطلة لـ10 أيام، وكانت كاميرا تصوير تركتها الأم تسجل معاناة الصغيرة، لحظة بلحظة خلال الأيام الـ10، لم أحتمل مشاهدة ثوان من المقطع الذى أظهر الصغيرة تبكى فزعاً، وجوعاً، وتتطلع حولها فى محاولة للحصول على مساعدة، لكنها فى النهاية ماتت من شدة الجفاف.
ميتة بشعة، بررتها الأم التى تم الحكم عليها بالسجن مدى الحياة، أنها كانت تعانى اكتئاباً شديداً، لم أكد أغمض عينى حتى تذكرت كلمات مضيفة الطيران التونسية التى قتلت طفلتها حديثة الولادة فى القاهرة، قبل أسابيع، ثم قامت بطعن نفسها، قبل أن يقيدها زوجها ليمنعها من التخلص من حياتها، وحين سألوها عن السبب قالت «أصبحت أرى أشياء لم يستطع الأشخاص العاديون رؤيتها».
عادة ما تبدو صورة الأم ناصعة البياض، تربت وتحنو وتمد يدها بالطعام والعناية، لكن ليس ثمة ضمانات، فاليد ذاتها يمكن أن تقتل دون مقدمات، منذ اليوم الأول بعد الولادة ويظل احتمال القتل قائماً لسنوات، دون أى ريبة حول الأم، حتى تقع الكارثة، وسط وجوه مذعورة تتساءل مرة بعد أخرى «كيف يمكن للأم أن تصير قاتلة!».
ما زلت أذكر تلك السيدة التى قتلت رضيعها بريموت التليفزيون لأنه لا يكف عن البكاء، وتلك السيدة المصرية بمحافظة الدقهلية التى أقدمت على قتل أطفالها الثلاثة أكبرهم عشر سنوات وأصغرهم أربعة شهور، ذبحاً قبل أن تبادر بقتل نفسها أيضاً دون جدوى، حيث نجت لتبقى فى المستشفى بحالة سيئة، لم يكن ذلك هو الحادث الوحيد من نوعه، الفعل ذاته سبقتها إليه أم بريطانية أقدمت على قتل أبنائها الثلاثة أيضاً، خنقاً، لكن المحكمة برأتها، حيث ثبت معاناتها من اكتئاب ذهانى حاد، واضطراب عاطفى ثنائى القطب من النوع الثانى.
أفعال مرعبة، أليس كذلك؟ لكنها تقع باستمرار للأسف، ويعد صرف النظر عن دوافعها الأساسية ضرباً من المشاركة فى الجريمة، التى تحدث وستظل تحدث باستمرار، حيث تشير دراسة نشرت عام 2006 بعنوان «قتل الأطفال بواسطة الوالدين» إلى أن الأمهات القاتلات يعانين من اكتئاب متكرر وذهان، وربما خضعن لعلاج سابق للصحة العقلية أو عانين من أفكار انتحارية، وقام الباحث فيليب رينسيك بتحديد خمسة دوافع أساسية لدى الأمهات تدفعهن لقتل أطفالهن، أولها الإيثار حيث تقتل الأم طفلها بدافع الحب وتعتقد أن الموت فى مصلحة الطفل، كى لا يواجه عالماً لا يطاق، وغالباً ما تعتقد الأم مريضة الذهان أنها تنقذ طفلها من مصير أسوأ من الموت، وثانيها الذهان الحاد وفى هذه الحالة تقتل الأم أطفالها دون أى دافع، فقد تتبع الأم هلوسة وأوامر وهمية بقتل أطفالها، وثالثها سوء المعاملة القاتل، وفى هذه الحالة لا يكون القتل مقصوداً، أو نتيجة متوقعة، ولكنه يحدث نتيجة سوء معاملة الأطفال التراكمى والإهمال المزمن للطفل، ورابعها الانتقام لأن الطفل غير مرغوب فيه، ففى هذه الحالة تشعر الأم بأن طفلها يمثل عائقاً لها عن ممارسة الحياة بصورة طبيعية، وخامسها الانتقام من الزوج، وهذه واحدة من أندر الحالات، فنادراً ما تقتل أم طفلها لإيذاء الوالد عاطفياً، لكنها أحياناً تفعل.
صحيح أنه لا عذر لأم قاتلة، لكن لا عذر أيضاً لمجتمع يتجاهل متاعب الأمهات، ويعتبر مسئولية الطفل، خاصة حديث الولادة، مسئوليتها بالكامل، أتمنى أن أرى يوماً ما وحدات للعلاج النفسى للأمهات عموماً، وحديثى العهد بالأمومة خصوصاً، للكشف المبكر عن كوارث محتملة وأرواح لأطفال بلا حول ولا قوة، يمكن صيانتها بتشخيص دقيق وحبة دواء منقذة.