لا تزال مقدمة أستاذنا توفيق الحكيم فى كتاب «حمار الحكيم»، التى نسبها إلى أسطورة قديمة، صالحة لتفسير مشاهد كثيرة، نتوقف أمامها غير «مستوعبين» أو «مصدقين»، ونشعر وقتها بمثل ما شعر به هذا «الحمار» الحائر، الذى جاء على لسانه فى متن المقدمة: «قال حمار (الحكيم توما): متى ينصف الزمان.. فأركب؟ فأنا جاهل بسيط، وصاحبى جاهل مركب، فقيل له: وما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركب؟ فقال الحمار: الجاهل البسيط هو من يعلم أنه جاهل، أما الجاهل المركب، فهو من يجهل أنه جاهل».
أما (الحكيم توما) أو توما الحكيم، فهو طبيب تردد اسمه فى العديد من المصادر التاريخية، ويضرب به المثل فى الجهل، وأما المناسبة التى استحضرت الحمار وسيرته، فهى تكريمه، ليس فقط بمناسبة الاحتفال بيومه العالمى فى الثامن من شهر مايو، ولكن لأن الحمار هو أقرب الحيوانات إلى قلبى وعقلى وروحى، وبعيداً عن «أكليشيهات» صفاته التقليدية، الطيبة والصبر والجلد، فإنى ربما أرى فى صحبته ما لا يراه غيرى من سائر البشر، من ونسة وأمان، ولهذا تابعت بشغف سيرته ومسيرته، قبل أن تصبح محبته عالمية منذ عام 2018 ليحتشد عشاقه من سائر دول العالم للاحتفاء به سنوياً، تعبيراً عن الامتنان والشكر لحضرة الحمار المحترم.
والحمار فى مصر ثروة لمالكه وخاصة فى الريف، ورغم تقدير الفلاح للحمار ومبالغته أحياناً فى إكرامه، فإن تقارير متعددة أشارت إلى أن الحمار المصرى مهدد بالانقراض، وألمحت إلى خطرين يسهمان بشكل ملحوظ فى تراجع أعداد الحمير، هما التصدير والذبح، وقد بلغ إجمالى عدد الحمير فى مصر نحو مليون و800 ألف حمار، فيما أكدت النقابة العامة للفلاحين فى بيان لها بالتزامن مع اليوم العالمى للحمير، أن «الحمير لا تنال الاحترام الكافى»، مشيرة إلى تناقص أعدادها بسبب ما أسمته «التجارة غير الشرعية»، مطالبة بالتعامل مع الحمير باعتبارها «ثروة محلية» والعمل على زيادة أعدادها بشكل علمى.
وتجلت محبتى للحمار فى كتابى السابع «زوربا من شبرا» الصادر عام 2017، وكان بالمناسبة من أكثر الكتب مبيعاً فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فى نفس العام، وقد خصصت فى الكتاب مقالاً بعنوان «الحمار فى المطار»، رصدت فيه وحللت حادثة شهيرة وقعت خلال سنوات ما بعد فوضى «الربيع العربى»، تحديداً عام 2015، وكتبت وقتها قائلاً: تعاملتُ بجدية مع قصة زيارة «الحمار» للمطار، التى تصدرت أجندة الإعلام المصرى. ربما يرجع ذلك إلى المكانة التى شغلها «الحمار» فى قلبى بفضل أستاذنا ومفكرنا الكبير توفيق الحكيم، الذى جعل منه نداً ونديماً ومحاوراً فى بعض كتبه، بل إن الحكيم كرم حماره وارتقى به ليجعله بطلاً لأحد هذه الكتب الذى جاء بعنوان: «حمار الحكيم». لهذا حزنت من استخفاف عدد من الزملاء الإعلاميين بقدرة هذا الحمار على الوصول إلى داخل زمام مطار القاهرة الدولى، وبالغ بعضهم فى السخرية منه، ومن إدارة المطار، إلى حد جعلهم يتناسون حكمة الظهور المفاجئ له فى هذا التوقيت تحديداً من تاريخ أمتنا.
لم يتعرض حيوان للظلم مثلما تعرض الحمار، وقد بلغ الظلم مداه بارتباط الحمار المصرى بسطوع نجم الإرهاب عالمياً، وينسب إليه أنه كان سبباً مساعداً فى استيطان التطرف الدينى فى كهوف أفغانستان منذ نهاية سبعينات القرن الماضى وحتى اليوم.
وتروى القصة التى كثرت الإشارة إليها عقب سقوط نظام حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك عام 2011، أن أحد رجال الأعمال الكبار مطلع الثمانينات قام بتصدير الحمير إلى أفغانستان بالمخالفة للقوانين المحلية أو بالتحايل عليها، وذكرت بعض التقديرات أن عشرة آلاف حمار مصرى تم تصديرها إلى عدة ولايات أفغانية، وذلك لقدرة الحمار على تحمل مشقة الحركة وسط الطرق الجبلية الوعرة وتحمله الظروف القاسية للحياة البائسة التى كان يعيشها هؤلاء المخدوعون بوهم الجهاد لوقف الزحف الشيوعى على الأراضى المسلمة، وأشعلت قصة «الحمار المصرى فى أفغانستان» خيال كاتب كبير بحجم الأستاذ وحيد حامد (رحمه الله)، فقدمه ضمن قصة صعود أحد أبطاله الرئيسيين فى مسلسله الرائع «بدون ذكر أسماء» من إخراج تامر محسن عام 2013، ليسجل لنا على شريط الدراما الخالد هذه القصة الخيالية التى تنسب أحياناً للأستاذ هيكل، وفى أحيان أخرى تروى مستندة على وثائق دولية مسربة، نشرها باحث بريطانى (أمريكى) يكشف فيها قصة صعود أحد المؤثرين فى الشرق الأوسط لعقود، وكيف انطلق نجمه مع تجارة «تصدير الحمير» إلى المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفيتى.