أظن أنه من المناسب فى هذه المقالة أن أسكت مؤقتاً عن الكلام المباح، ليس من باب الخوف أو التراجع لا سمح الله، ولكن فلنعتبرها استراحة محارب، وفى الاستراحات ذات القاعدة المريحة يحلو لنا أن نسرد حكايات الظرفاء المصريين العظماء، بدلاً من أن نعكر دماءنا بالحديث عن الثقلاء المصريين، أو نحرق أعصابنا من أفعال العصابات التى تنهش اللحم الحى للشعب المصرى، ولك الله أيها الشعب فقد امتلأت حياتك بالثقلاء الذين جاءوا إليك كالجراد، أين أنت من أيام «البشرى»؟! طبعاً يوجد فى حياتنا الحالية «بشرى» ولكنه ليس كالبشرى القديم المصرى الطيب خفيف الظل الذى لم يداهن أو ينافق أو يبحث عن منفعة، وأين أنت من أيام الست أم كلثوم سيدة الغناء العربى، وملكة خفة الظل المصرى الأصيل؟! ومع أم كلثوم كانت لمصر أيام لا يمكن أن تتكرر فى التاريخ، وأين أنت من أيام البابلى أظرف ظرفاء مصر؟! ذهبت إلى حال سبيلها لكى يدخل فى حياتنا ببلاوى بدلاً من بابلى واحد، ونظراً لأننى سبق أن كتبت لكم سابقاً عن بعض ظرفاء مصر، إذن فلنستكمل ما كنا قد بدأنا فيه ولنتكلم عن نوادر الست ثومة أم كلثوم التى لا يمكن أن ينساها المصريون، ومعها بعض نوادر محمد البابلى أحد الظرفاء المجهولين فى تاريخ مصر، حيث كان لهؤلاء أيام أنتجت أعظم أدب شفهى لا يوجد له نظير فى الآداب الشفهية العالمية.
كان لأم كلثوم جارٌ من كبار القوم ثقيل الظل، يحضر إليها دائماً فى فيلتها الشهيرة بالزمالك ويظل جالساً لا يغادر المكان ولا بالطبل البلدى، وفى أحد الأيام جاء إليها هذا الثقيل وكان عندها الشاعر أحمد رامى والملحن رياض السنباطى، فأراد الضيف الثقيل أن يتبسط معها فقال وهو يسلم عليها «إزيك يا ثومة» وكأنه أحد المقربين منها ولا كلفة بينهما، فرحبت به أم كلثوم ثم قامت بتقديم ضيوفها إليه فقالت: هذا ملحن ثومة، وهذا شاعر ثومة، ثم أشارت إلى جارها الثقيل وقالت لهما: وهذا «جارثومة».
وذات مرة كانت نقابة المحامين بدمياط قد قررت دعوة أم كلثوم للغناء على أحد مسارح دمياط، وكان الحفل مخصصاً للمحامين وأسرهم، وبعد أن فُتح الستار قام المحامون بالتصفيق لمدة طويلة إلى أن أشارت لهم أم كلثوم بالشكر طالبة السكوت حتى تغنى، فسكتوا جميعاً إلا نقيب المحامين بدمياط الأستاذ ألفونس نيقولا الذى ظل واقفاً يصفق بحماس شديد، وكان الأستاذ ألفونس أحمر الوجه وأشقر الشعر، فقالت له أم كلثوم: لو سمحت تقعد فى كرسيك يا «أحمر» محامى، فضجّت القاعة بالضحك والتصفيق وأصبح لقب الأستاذ ألفونس عند محامى دمياط من وقتها «ألفونس أحمر محامى».
وفى إحدى البروفات حضر الملحن الكبير الموسيقار محمد القصبجى وهو يرتدى بدلة جديدة، فقالت له أم كلثوم: إش إش، إيه البدلة الجديدة دى؟! فقال لها القصبجى وهو يتصنع التواضع: أنا شايف إنها بدلة واسعة شوية، فردت عليه أم كلثوم على البديهة قائلة: معلش ربنا يضيقها عليك.
وفى أحد الأيام كانت أم كلثوم تغنى فى حفلة بقصر أحد باشوات أسيوط الكبار، وأثناء الحفل انفعل أحد الحاضرين طرباً وقال لها بصوت مرتفع: «يا جاموس المغنى» يقصد قاموس، وبسرعة بديهة توقفت أم كلثوم عن الغناء وأشارت له قائلة: «هى دى العجول اللى بتفهم» تقصد العقول.
أما محمد البابلى الأديب الفقير الظريف فيحكى عنه الكثير، ومن نوادره الكثيرة أن أحد أصدقائه كان موظفاً فقيراً أكل عليه الدهر وشرب كما يقولون فى الأمثال، وزاد الطين بلة أن هذا الموظف تم إحالته على المعاش فازداد فقراً على فقر، فأخذ يتردد على محمد البابلى يجلس أمامه ويتشكى من فقره وضيق عيشه ويطلب منه سلفة مالية فضج منه البابلى واستاء فقال له: «يا أخينا، هى الحكومة حالتك على المعاش والا حالتك علىّ؟».
ويحكى أن أحد الباشوات أهدى محمد البابلى يوم العيد حذاء مهترئاً قديماً كثرت به الثقوب، فلما تسلم الهدية كتب للباشا رسالة يشكره فيه قال فيها: إن كل شخص يُحشر يوم القيامة تحت ظل هديته!!
وذات يوم شكا له أحد الأصدقاء من مرض السكرى، وارتفاع نسبة السكر فى بوله، فقال له البابلى: «افتح لك محل شرابتلى».
وحدث أن تشارك البابلى مع صديق له فى إنشاء جريدة أسبوعية وكانت الجريدة فقيرة لا يوجد فيها إلا عدد محدود من المحررين، وذات مرة نشر أحد المحررين فى الجريدة أخباراً كاذبة عن أحد كبار السياسيين، وحدث أن تقابل هذا السياسى الكبير مع محمد البابلى فى إحدى الحفلات، فتجهّم فى وجه البابلى وقال له: سأقاضيك لأنكم تنشرون فى جريدتكم عنى أخباراً كاذبة تهدد سمعتى، فقال له البابلى: احمد ربنا، ده احنا لو نشرنا الحقائق كانت سمعتك هتضيع خالص.
وفى أحد الأيام قال الشاعر الكبير حافظ إبراهيم لمحمد البابلى: لنا خمس وعشرون سنة أصحاب، لا أنا اغتنيت ولا انت اغتنيت.. ليه؟ هو احنا مالناش عقل؟ فقال البابلى، هو احنا لو كان لنا عقل كنا بقينا أصحاب؟
وذات يوم كان البابلى يسهر مع أصدقائه فى أحد الكازينوهات، فاحتك به أحد السكارى، فقال له البابلى: يا أخى ابعد عنى الله يخرب بيتك، وتدخّل الأصدقاء بينهما وحلوا المشكلة، ولكنهم راحوا يثيرون خوف البابلى فقالوا له: إن هذا السكران ابن أكبر محام فى الإسكندرية وسيرفع ضدك دعوى قذف فى مكان عام والشهود كثر، فاغتمّ قليلاً ثم قال: سأدافع عن نفسى، أنا دعوت عليه «الله يخرب بيته» ومنذ متى يستجيب الله دعائى؟
وعندما ازدادت حالة محمد البابلى فقراً وضاقت به الحال لجأ إلى صديق يرجوه أن يقرضه عشرين قرشاً، إلا أن صديقه لم يجد معه سوى عشرة قروش، فتناولها أمامه وقال له: يبقى لى عندك عشرة قروش، وأنت لك عندى عشرة قروش نبقى خالصين.
ويحكى أن محمد البابلى والشاعر الفقير البائس إمام العبد كانا يسيران فى الطريق، فإذا بهما أمام جنازة يسير أمامها ناع وهو يقول: الآن يذهبون بك أيها الميت إلى بيت لا فراش فيه ولا غطاء ولا خبز ولا ماء.
فقال البابلى لإمام العبد: إلحق يا إمام، دول رايحين بيتك.
وأراد أحدهم إحراج محمد البابلى أمام جمع من الأصدقاء فقال له: هو لو أنا بوست أختك من شفايفها نبقى نسايب؟! فرد البابلى على الفور: لأ، نبقى خالصين.
هل قرأت يا صديقى معى تلك النوادر؟ هذه هى مصر الطيبة الجميلة خفيفة الظل، ليتها تعود.