ما بين تكرار الألم بخبر اختطاف ومقتل نقيب الشرطة أيمن الدسوقى وتفاصيل الحادث، وبين متابعة مجريات ما يحدث داخل الوطن وخارجه واستبدال مخططات التمكين الإخوانية بمخططات المراجعات الإخوانية وادعاء الغرب مكافحة الإرهاب، وبين الرجاء فى أن يكشف الله ما بنا من غمة فينير الضمائر والبصائر ويُلهم العقول، كان موعدنا نحن آباء وأمهات دفعة «المشير محمد على فهمى» مع حفل انتهاء الخمسة والأربعين يوماً الأولى فى حياة أبنائنا بالكلية الحربية صباح الثلاثاء الماضى. تدوى الموسيقى العسكرية ويبدأ طابور العرض ويبدأ تحرك فلذات الأكباد على أرض الكلية بخفة وسرعة بين فارس على حصان، ومؤدٍ لحركات قتالية، وجماعات أخرى مُستعرضة أساليب التعامل مع السلاح وأوضاع استخدامه. تنطلق أصوات البنادق فتختلط بدقات القلوب وتصفيق الكفوف. تغطى على زغاريد الأمهات من هنا وهناك. تغيرت البذرة التى تركناها فى أرض الطابور يوم الثانى من ديسمبر الماضى، صارت نبتة تهتف بعزم باسم بلادها مرددة نشيدها: «رسمنا على القلب وجه الوطن نخيلاً ونيلاً وشعباً أصيلاً». نشف عود العيال، ولونت السُمرة وجوههم، غير عابئين ببرودة جو ولا صرامة حياة عسكرية لا تعرف التهاون. نشف عود العيال وصار أخشن فلا تميزهم من بعضهم حينما ينطلقون لأداء ما تدربوا عليه. تنساب دمعة وراء أخرى وأنا أنظر لعلم بلادى خفاقاً عالياً.. أردد فى نفسى: «منحتك وطنى ما مضى من عمر، وها أنا أمنحك حلمى ومستقبلى».
ينتهى العرض وتتوالى كلمات القادة بدءاً من مدير الكلية الحربية انتهاءً بالقائد العام وزير الدفاع. يرددون علينا كلمات كثيراً ما سمعناها عن الجيش المصرى ورجاله وتضحياتهم وكيف منحتهم طمية النيل اعتراف سيد الخلق، صلوات ربى عليه، بأنهم خير أجناد الأرض. أستشعر اختلاف وقع المعانى فى نفسى، الكلمات هى الكلمات ولكن المكان يفرض نفسه عليك. أسرح فى مقال كتبه باحث سياسى يهودى يدعى «جلعاد وانيج» فى مجلة «فورين بوليسى» فى شهر نوفمبر الماضى كان عنوانه لافتاً «جيش الله المصرى». تحدث فيه يومها عن طبيعة هذا الجيش المقترن بالثقافة المصرية الممزوجة بالدين بالفطرة، مشيراً لمظاهر تدين قادة الجيش واتخاذهم الدين طريقاً لرفع الروح المعنوية بين أفراده والتأكيد على قدرهم فى حماية مصر وشعبها وعروبتهم. أستغرق فى تذكر ذلك الجزء الذى تحدث فيه الكاتب عن حقيقة أن الجيش المصرى ليس قوة علمانية، كما يردد أعداؤه، لتغلغل الإسلام فى صفوفه، مثلما الحال فى المجتمع المصرى ككل، وكيف أن قوات الجيش تؤمن بأنها وريثة قوات صلاح الدين الأيوبى، مع إصرارها على إطلاق مسميات دينية على مناوراتها القتالية، كما حدث فى أكبر مناورة مصرية حملت اسم «بدر»، المعركة التى هزم فيها النبى محمد، صلوات ربى عليه، قريشاً. وهنا مكمن خطورة هذا الجيش عليهم.. وحدته ووطنيته وعقيدته. لا بالإسلام وحسب -كما ذكر الكاتب- ولكن بالدين عموماً مسيحياً وإسلامياً. أعود لأرض الطابور، وأنظر مجدداً لأعواد العيال المنتصبة كسهام فى قلب كل طامع وغادر، أنظر للسماء وأدعوا أن يحميهم ربى من ظلام العقول وغباء القلوب، أزيد فى رجائى من الله أن ينفع ويحمى بهم وطناً لا نملك غيره. تنتهى لحظات الاحتفال بالسلام الجمهورى فأردد كغيرى ناظرة لضنا القلوب: «تحيا جمهورية مصر العربية».. ما دام فيها جيش الله.