فوارغ الرصاص والزجاج "المكسور" يزين الفصول في "رفح"
مع دقات السادسة صباحًا تستمع الأم التي تسكن مدينة العريش إلى طلقات الرصاص، التي تشير لإنهاء مدة الحظر، فتنزل إلى عملها، ورغم الصخب الذي يحيط بالمدينة إلا أنها مكان أكثر أمنًا للعيش فيه عن رفح الحدودية مكان عملها، لها من الأبناء اثنان، أكبرهما في الصف الثالث الابتدائي، قبل الحظر ومذبحة كرم القواديس كانت الحياة أكثر زهوًا بالنسبة إليها، "هـ.أ" التي لا يتعدى عمرها الـ27 عامًا تحوَّلت حياتها لجحيم مع دقات طبول الإرهاب في شمال سيناء.
تعمل "هـ.أ" التي رفضت ذكر اسمها خوفًا من المسلحين في سيناء، مدرسة للدراسات الاجتماعية للمرحلة الابتدائية، تجبرها قلة المدرسين في رفح على الذهاب إليها يوميًا للتدريس للأطفال: "الطريق قبل كرم القواديس، والحظر كان بياخد نص ساعة، دلوقتي ساعتين ونص"، كان ينتهي اليوم الدراسي في الواحدة والنصف ظهرًا، إلا أن هذا الأمر تغيَّر كليًا مع كثرة الكمائن والوقوف فيها دون داعٍ بين مدينتيّ رفح والعريش، "يوم الإثنين اللي فات كانت المأساة الحقيقية".
5 ساعات ونصف قضتها المدرسة في كمين الخروبة، دون طعام أو ماء أو شبكات محمول لتطمئن على أطفالها، هو اليوم الذي أتعب معظم المدرسات اللاتي يذهبن يوميًا إلى رفح، "رفح حدود مختلفة تمامًا عن العريش، الدادة أخدت ابني معاها من الحضانة وروحته على بيتها لما اتأخرت عليه"، تعترف "هـ" بأن المدينة تحت خط النار، وهي معركة بين الجيش المصري والمسلحين لا دخل للمدنيين بها، لذا يجب "وقف الدراسة فورًا".
500 أسرة كاملة واقفة لدى كمين الريسة في انتظار ذويهم، وهو ذات اليوم الذي تأخرت فيه "هـ" عن أطفالها، "خلاص بقى أمر واقع إن أي حد يموت عادي"، كانت الأسر في انتظار استلام جثث أقاربهم، على الرغم من خضوع الأهالي لقرار الحظر إلا أن الأمر قدري، "الجيش هيعرف يفرق بين الأهالي والمسلحين إزاي كلنا لابسين مدني، الله يكون في عونهم"، فكانت عودة الأهالي سالمين بمثابة المعجزة.
جاء قرار وقف الدراسة في رفح والشيخ زويد بعد معاناة ليست بالقليلة لأهالي شمال سيناء، فلا توجد مواصلات داخل كل قرية إلا لأهالي المدينة نفسها، والمدرِّسة يمكن أن تنتظر لساعة كاملة على قارعة الطريق منتظرة سيارة، "مرة واحد بدوي وقفلنا ومرضاش يدخلنا عشان إحنا 3 بنات ومعناش راجل، الدراسة في رفح دلوقتي تهلكة"، تتنوع وسائل المواصلات التي تذهب بها المدرِّسة إلى عملها، فذات يوم ركبت عربة كارو، ومرة أخرى نصف نقل، وكانت مدرَّعة الجيش كذلك وسيلة من وسائل المواصلات.
سارت "هـ" على دماء رجال الجيش التي انتشرت في كل مكان حينما ذهبت لعملها ثاني يوم مذبحة كرم القواديس، فتنتاب المدرسة نوبات هلع، ولا تسير بشكل قويم، وفقًا لها، فقد أصابها الرعب من كل من يقترب منها، وتستيقظ في الليل في فزع خاشية أن يكون أصاب أطفالها مكروه، "مهما حكيت عمرك ما تتخيلي اللي إحنا عايشين فيه"، تؤكد المدرسة على أن الأمر اختلف كليًا عقب كرم القواديس، حتى إنها ذهبت ذات يوم إلى عملها في أوتوبيس المحافظة، وسارت أمامهم مدرعة جيش تكشف عن القنابل، والمتفجرات في الطريق، وهو ما أخرها عن الذهاب للمدرسة.
"إحنا مش هنحط دماغنا في الرمل، اللي حاصل في سينا حرب"، مع السادسة إلا ربع صباحًا والسابعة مساءً، يدوي في الجو طلقات رصاص لتعلم الجميع ببدء مواعيد الحظر وانتهائها، وبين تلك الساعات لا تعمل شبكات المحمول الثلاث نهائيًا، فتنقطع عن شمال سيناء الاتصالات والإنترنت، ولا تعود إلى مع الحظر مساءً، "الشبكات دي رعب بالنسبة لي، كفاية إني مش بعرف أطمن على عيالي الصبح وصلوا ولا لأ وأنا بعيد عنهم في رفح".
للتدريس في رفح مساوئ كثيرة، بالنسبة للمدرسات المنتدبات، فالمدارس تنظف صباحًا من فوارغ الرصاص، والزجاج المكسور على كراسي التلاميذ، كما أن صوت الآليات الحربية، وضرب النار لا يتوقف حتى أثناء الدراسة، "حملة أمنية بتمشي معانا عالطريق، الشغل بقى رعب بالنسبالي كل يوم أنزل احتمال مرجعش، هو في دراسة في الحرب؟"، خاصة أن مدرسة "هـ" في رفح، تقع بالقرب من قرية المهدية، وهي القرية المعروفة بأنها تابعة للإرهابيين.
تقدم "هـ" عدة حلول بسيطة لمشكلتها الكبيرة، فإما أن يتم انتداب مدرسات من رفح، وهي ذات المدينة التي بها المدرسة، وبالتالي ترتاح من هول الطريق، أو توفر المحافظة أوتوبيسات لنقل الطلاب إلى العريش، حتى يتمكنوا من إكمال تعليمهم، أو أن تكمل المدرسات عملهن في مدارس العريش دون الذهاب إلى رفح من الأساس، خاصة أنها حينما تغيبت "هـ" عن عملها بعد مذبحة كرم القواديس، تحولت للتحقيق وخصم من راتبها.
لا يوجد أمام "هـ" مجال آخر للعمل سوى التدريس، خاصة وأنها تخرجت من كلية التربية، فلا مجال بالبنوك أو الشركات، وتدفع من راتبها الذي لا يصل إلى 1500 جنيه، 400 جنيه مواصلات شهرية فقط لتستطيع السفر من العريش لرفح، خاصة وأن أوتوبيسات المحافظة لا تأتي لتوصيلها، "طبعًا المواصلات مش آمنة، لما بلاقي حملة أمنية على الطريق بدخل جوة محل وأنام على بطني، لأنهم ميعرفوش إذا كنت من الإرهابيين أو لا".
ملف خاص
ملف خاص| الدراسة في سيناء.. على خط النار
قبل مذبحة كرم القواديس، كانت الحياة في شمال سيناء تسير، على الرغم من صعوبتها، إلا أن الأمر ازداد سوءًا للمزيد
في الشيخ زويد.. "العيال جتتهم نحست من صوت الضرب والانفجارات"
سيمفونية صباحية، تستيقظ عليها كل يوم، هي ليست معزوفة موسيقية وإنما سيمفونية الطلقات النارية للمزيد
في "الشلاق".. التلاميذ شاهد على معارك الجيش من "الشبابيك"
تنظر في هاتفها لتكتشف أن شبكات المحمول لا تزال مقطوعة عن المدينة، في السادسة صباحًا يجب أن تستيقظ "سارة" للمزيد
فقط في شمال سيناء.. ملثمون يفتشون أتوبيس معلمين بحثا عن رجال الأمن
يرفع آذان المغرب، ليختلط بصوت الطلقات النارية التي تخرج من سلاح القناص الرابض أعلى خزان المياه بحي الريسة للمزيد