لقد عانى المجتمع المصرى معاناة شديدة فى فترة ما بعد ثورة يناير 2011 من أصحاب الفتاوى الدينية والتى سببت العديد من المشاكل العائلية والاجتماعية. وكان معظم أصحاب الفتاوى غير مؤهلين وليس حتى حاصلين على شهادة جامعية متخصصة. وانتقلت عدوى الفتوى إلى العلوم الدنيوية مثل الطب ووصفات الأعشاب والعسل والحلبة وحبة البركة وقشر الرمان، قلنا ماشى زى بعضه. ولكن أن تمتد الفتاوى إلى القضايا القومية والأمن القومى، لازم نقول حرام وكفاية بقى. أصبحت الفتاوى فى مجالات المياه كثيرة والكل أصبح خبير موارد مائية وسدود مما أضل الرأى العام حول قضايا رئيسية مثل سد النهضة واتفاقية عنتيبى. والآن يتحدث البعض حتى من أعضاء الحكومة عن مشاريع واستراتيجيات قديمة سمعتها من قبل منذ أكثر من عشر سنوات لتطوير الرى السطحى وترشيد استخدامات المياه فى الزراعة، زاعمين توفير 10 مليارات متر مكعب من المياه سنويا واستصلاح 4 ملايين فدان، طيب شوية شوية على شعب مصر الغلبان. يا أهل الخير ده 95% من مياه مصر تأتى من حصتها من نهر النيل وهى ثابتة منذ 1959، بالرغم من زيادة عدد السكان من 26 مليون نسمة إلى حوالى 90 مليون نسمة حالياً، وزيادة الرقعة الزراعية من أقل من 6 ملايين فدان إلى حوالى 8.4 مليون فدان، والتوسعات الصناعية والعمرانية الضخمة. ومصر ما زالت صامدة وتحاول التعايش مع مواردها المائية المحدودة. لقد نقص نصيب الفرد المصرى من المياه فى مصر إلى أقل من 625 متراً مكعباً سنوياً، وهو أقل كثيراً من حد الفقر المائى الذى يقدر بألف متر مكعب سنوياً. ونتيجة مباشرة للفقر المائى أن نقص نصيب الفرد من الأراضى الزراعية إلى 0.1 فدان، فى حين أن نصيب الفرد من الأراضى الزراعية حتى فى الدول الصناعية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية يصل إلى فدان، وفى فرنسا إلى 1.4 فدان. وتزايدت الفجوة الغذائية اتساعاً فى مصر حتى بلغت 7 مليارات دولار، وتفاقمت مشاكل التلوث فى العديد من المجارى المائية نتيجة للتخلص من معظم مخلفات الصرف الصحى والصناعى على الترع والمصارف.
ولقد تزايدت الاستخدامات المائية فى مصر حتى فاقت الموارد المائية المتاحة وذلك منذ عدة عقود مضت، ويتم تدبير هذا العجز المائى من خلال تدوير عوادم الاستخدامات من مياه صرف زراعى وصحى وإعادة ضخ فواقد المياه (المياه الجوفية الضحلة) فى الوادى والدلتا. والكفاءة الكلية للشبكة المائية التى تساوى النسبة المئوية للاستهلاك الفعلى من الإيراد الكلى للشبكة، تصل حالياً إلى نحو 74% وهى كفاءة بالفعل عالية بالرغم من طريقة الرى بالغمر السائدة فى مصر. ورفع كفاءة الشبكة المائية طريق له سكتان الأولى هى التى تتبعها مصر منذ السبعينات من القرن الماضى وهى إعادة استخدام مياه الصرف الزراعى والصحى والمياه الجوفية الضحلة وهى سكة سهلة التطبيق سريعة النتائج ورخيصة التكاليف نسبياً ولكنها غالباً ما تسبب تلوثاً فى المياه كما حدث وما زال يحدث فى مصر. والسكة الثانية هى الترشيد وهى مكلفة مالياً وتأخذ وقتاً طويلاً فى التطبيق ولكن توفر مياهاً نظيفة وبالتالى تقلل من احتمالات التلوث.
إن تطبيق وسائل الترشيد فى الزراعة سيوفر جزءاً من مياه الرى العذبة يذهب إلى المصارف الزراعية وإلى المخزون الجوفى الضحل. وبالتالى المياه التى سيوفرها الترشيد هى نفسها التى نستخدمها حالياً من خلال إعادة الاستخدام واستقطاب الفواقد، ولكن بنوعية أدنى. يعنى حكاية الـ10 مليارات متر مكعب من المياه العذبة التى يتحدثون عن توفيرها بالترشيد والتى سوف تتكلف حوالى 100 مليار جنيه، تعادل حوالى الـ21 مليار متر مكعب التى يعاد استخدامها حالياً من مياه صرف زراعى ومياه جوفية ولكن بنوعية أقل نسبياً. والفرق بين الكميتين هى الفواقد التى لن يعاد استخدامها نتيجة للتدنى الشديد فى نوعيتها، لأن الترشيد سوف يؤدى إلى ارتفاع نسبة الملوثات فيما يتبقى من مياه الصرف. ولو الحكومة عايزة حقيقى ترشيد قللوا مساحات الأرز التى زادت من 1.25 مليون فدان عام 2010 إلى ما يزيد على 2.6 مليون فدان حالياً، وهذا لن يكلف الدولة إلا الجهد والعرق والشغل فى الغيط وليس فى المكاتب والمؤتمرات.
ويجب ألا نغفل أن هناك أكثر من مليون ونصف مليون فدان ما زالت تنتظر المياه فى مشاريع تم إنفاق مليارات الجنيهات على بنياتها الأساسية، مثل مشروع ترعة الحمام وامتداد الحمام ومشروع ترعة السلام فى سيناء ومشروع توشكى. ويجب أيضاً ألا ننسى أن معظم نهايات الترع المصرية تعانى من مشاكل نقص مياه الرى وذلك نتيجة لتعديات المواطنين على مياه الترع بالإضافة إلى تقصير حكومى فى الصيانة والتشغيل.
إن قطاعات الترع نتيجة لأعمال التطهير الميكانيكى الجائر قد تبحرت (اتسعت) وتضاعفت أبعادها وأصبحت المصدر الرئيسى لإهدار المياه وفى حاجة كبيرة لإعادة التأهيل، وكان قد تم طرح ثلاث محافظات للمكاتب الاستشارية لإعادة تأهيل منظومة الرى فيها منذ عام 2010 ولم تستكمل حتى تاريخه.
إن إعادة تأهيل المنظومة المائية يجب أن تكون لها الأولوية الأولى فى دعم الدولة حتى نستطيع المحافظة على هذه الشبكة لأولادنا وأحفادنا كما ورثناها من الآباء والأجداد. أما المياه الجوفية فى الصحراء الغربية فإنها لا تكفى لاستصلاح أكثر من مليون فدان وذلك فى أكثر التوقعات والدراسات تفاؤلاً.
إن التصريحات المغلوطة الخاصة بالوفرة المائية والتوسعات الزراعية الخيالية لا تخدم إلا بعض دول حوض النيل الذين يزعمون حرمان مصر لهم من المياه بينما يهدرها المصريون فى بلادهم.