جامعة القاهرة.. حلم «الوطنيين» فى مواجهة «الاحتلال»

كتب: أحمد العميد

جامعة القاهرة.. حلم «الوطنيين» فى مواجهة «الاحتلال»

جامعة القاهرة.. حلم «الوطنيين» فى مواجهة «الاحتلال»

لم تكن هناك سوى مجموعة من الكتاتيب الصغيرة، تمحو الأمية وتعلم أبناءهم القراءة والكتابة، لكنها لم تكن كافية لتخريج طلاب قادرين على قيادة المستقبل والتخلص من الاحتلال، فلجأت الأُسر المصرية قبل قرن من الزمان، إلى إرسال أبنائها إلى أوروبا، يقطعون آلاف الكيلومترات ويعبرون البحار، طلباً للعلم، بعد أن عرفوا أنه الطريق الوحيد للخلاص.

ومع تنامى الروح الوطنية لدى عدد من الرموز، انبثق حلم إنشاء أول جامعة مصرية ليتحقق بخطاب أول رئيس لها أحمد لطفى السيد، معلناً عن منارة للعلم سيقصدها الناس من كل حدب وصوب، وتحمل اسماً لم يكن معروفاً من قبل هو «الجامعة».

قال الخبير التربوى، كمال مغيث، إن جامعة القاهرة تم إنشاؤها بتبرعات الوطنيين الذين شعروا بأهمية العلم فى مواجهة الاحتلال، فكانت رأس حربة لمشروع وطنى من طراز رفيع، لأن الإنجليز احتلوا مصر قبل الدعوة للجامعة بنحو 20 عاماً، (فى 1882)، وهيمنوا على المدارس المصرية والعليا، فكان من المنطقى أن تفكر الحركة الوطنية المصرية فى وسيلة ترد بها على المحتل الإنجليزى بتأسيس جامعة تتولى بلورة ثقافة وطنية مقاومة للهيمنة والاحتلال.

{long_qoute_1}

أضاف «مُغيث»: «بدأت الدعوة للجامعة الأهلية لكى تكون بعيدة عن هيمنة الإنجليز، وكان أول المتبرعين وأكبرهم الأميرة فاطمة بنت الخديو إسماعيل، وبعدها مصطفى كامل الغمراوى ومحمد خطاب باشا، وقدموا تبرعات كبيرة جداً، وكانت أرض الجامعة كلها بحديقة الأورمان تم التبرع بها من جانب الأميرة فاطمة، وتمتد من نهر النيل حتى المنطقة آخر حدود حرم جامعة القاهرة وعدد من كلياتها، وتم فتح الجامعة الأهلية لتلعب دوراً كبيراً كواحدة من المؤسسات العلمية والوطنية فى مصر، وكانت حكومية بشكل كامل، مع الاحتفاظ بالاستقلال لتكون جامعة عصرية حقيقية». وأوضح «مغيث»، أن إنشاء الجامعة كان من التبرعات، ثم تولت بعد ذلك الحكومة الإنفاق والإدارة بعد عام 1925، حيث استمرت تحت إدارة أهلية يختار فيها المساهمون مجلس أمناء ومن مجلس الأمناء يجرى اختيار أمين، هو الذى ينظم الإدارة فى التعليم وقبول الطلاب وصرف مرتبات الأساتذة وقبول التبرعات وتنظيم البعثات إلى الخارج، وكان مقرها الأول قصر جان كنيز، وهو مقر الجامعة الأمريكية الحالية فى ميدان التحرير، فكان ذلك أول مبنى للجامعة الأهلية، ومن حسن الحظ أن الإدارة الإنجليزية كانت فى حاجة إلى تهدئة الأمور مع المصريين، بعد حادث دنشواى فلم تتمكن من مهاجمة المشروع خوفاً من إثارة غضب المصريين، وتكلل المشروع بنجاح، حتى جاء عام 1925 لتصبح جامعة حكومية بشكل كامل مع الاحتفاظ بالاستقلال لتكون جامعة عصرية حقيقة تواكب التطور فى كل مناحى الحياة العلمية.

وأشار «مغيث» إلى أن جامعة القاهرة كانت مشروعاً قومياً قائماً على التبرعات مثل عدد من المشروعات الأخرى التى أنشئت بدافع وطنى أو دينى أو إنسانى، ومن هذه المشروعات كان مشروع المجهود الحربى الذى دشنته أم كلثوم لمساعدة الجيش المصرى، فكان الدافع له الوازع الوطنى، للدفاع عن البلد، ومشروعات أخرى كالمستشفيات، بوازع إنسانى.

{long_qoute_2}

وتابع: «التفكير فى إنشاء مشروع قومى الآن على هذا النحو يطرح أسئلة حول إمكانية تبرع الرأسماليين فى عصرنا له، زمان ثروات الناس دى كانت مشروعة لأنها عبارة عن ميراث وأراض زراعية، لذلك تبرع البعض منهم بآلاف الأفدنة، والسؤال هنا هل الرأسماليون فى عهدنا زى دول، علشان ياخدوا الخطوة دى؟ وهل الدولة فعلت ما عليها حتى يتقبل الناس بالتالى التضحية والتبرع من أجل الدولة والوطن؟» مشيراً إلى أن قيام مثل هذه المشروعات يحتاج إلى ظروف مناسبة، تبدأ من الشعور بالاطمئنان للقائمين على الحكم، وتوافر رأسماليين وطنيين جمعوا ثرواتهم من طرق مشروعة ويمكنهم الإفصاح عن أملاكهم والتبرع بها دون مشكلة، فالمشروعات القومية يكون لها تأثير كبير على البلد، وجامعة القاهرة استفاد منها الخريجون ليس فى مصر وحدها وإنما فى الوطن العربى كله، ولولا إنشاؤها لما رأت مصر نور العلم.

من جانبه، قال الدكتور وجيه صادق، أستاذ التاريخ الحديث، إن فكرة إنشاء جامعة القاهرة بدأت فى أواخر القرن الـ18، وتحديداً عام 1895 حينما فكر بعض النشطاء السياسيين والمفكرين من أمثال الإمام محمد عبده، وسعد زغلول، ومصطفى كامل، فى إنشاء مؤسسة تعليمية وطنية تدرس العلوم والفنون المختلفة بدلاً من إرسال الطلاب إلى الخارج، ففى الوقت الذى كانت الُأسر المصرية الغنية ترسل أبناءها للتعليم فى فرنسا، وهو ما يحتاج لأموال طائلة، لم يكن بمقدور الأسر الفقيرة تحمل تكاليف سفر أبنائهم، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى إنشاء جامعة تكون مشروعاً قومياً ينهض بالتعليم، ولم تتبن الدولة الفكرة فى مهدها، حيث كان للإنجليز مشروع تعليمى فى مصر يعملون على تنفيذه مخالف لمشروع جامعة القاهرة، وكان مبنياً على تعليم العامة من الناس ونشر الكتاتيب لمحو الأمية عبر التعليم الإلزامى، فكل جهودهم كانت تركز على تعليم العامة القراءة والكتابة بدلاً من تدريس العلوم للمتعلمين.{left_qoute_1}

وأوضح «صادق» أن مُسمى الجامعة لم يكن موجوداً حتى ذلك العهد، وكان المؤسسون من الرموز الوطنية فى حالة من الحيرة حول اختيار اسم المؤسسة التعليمية الوطنية، فكانت هناك اقتراحات بأسماء عدة، منها «المدرسة الجامعة» و«الجمعية الأهلية» و«جامعة العلوم» وأسماء أخرى إلى أن استقر أحمد لطفى السيد على اسم «الجامعة» وبعدها تناولت الصحف الكتابة عن الجامعة ودورها فى العلوم والنهضة بمصر، مشيراً إلى أنه فى هذه المرحلة ظهرت قيمة الأغنياء من خلال تبرعاتهم، حيث تلقت الجامعة الكثير من التبرعات أكبرها ما قدمته الأميرة فاطمة، التى تبرعت بمساحات واسعة من الأراضى ثم بصناديق من مصوغاتها وجواهرها والتحف الثمينة الخاصة، كما تلقت الجامعة تبرعات فى صورة أراض زراعية هى أراضى مبنى وزارة الزراعة الحالية وكلية الزراعة والمتحف المصرى ومنشآت جامعة القاهرة القديمة.

وأضاف: «أول فصل دراسى بدأته كان فى 1908 بقصر (جانكليس) اليونانى بعد تأجيره بـ450 جنيهاً فى العام، وبدأت الدراسة ثم بدأت تظهر مشكلة دفع الإيجار ما جعلهم ينقلونها إلى مبنى بشارع البستان فى وسط البلد، وحينما فكرت الحكومة فى مرحلة إنشاء جامعة حكومية، حاولت أن تأخذ مسميات جامعة القاهرة بفروعها ودخلت فى مفاوضات مع إدارة الجامعة وتمت الموافقة على تدخل الحكومة فى 1917، لتصبح نصف حكومية، حيث كانت الحكومة تشارك ببعض الأموال نظير حصول الطلاب على شهادة يجرى بها تعيين الخريجين فى الوظائف الحكومية، ووقتها انتقلت إدارة الجامعة إلى قصر الزعفران الموجود حالياً بجامعة عين شمس، وهو منزل والدة الخديو إسماعيل». وتابع أستاذ التاريخ الحديث: «قالت الحكومة المصرية وقتها إن أرض الدقى التى تبرعت بها الأميرة فاطمة لا تكفى والمبانى لم تكتمل، فقالت إنها ستتبرع بأرض جامعة القاهرة الحالية كقطعة واحدة تقام عليها الكليات، وقالت بالفعل إنها ستعوضهم عن أراضى الدقى والمبانى المقامة عليها، وهو ما حدث، ليبدأ إنشاء الكليات واحدة تلو الأخرى، وتضافرت كل الجهود من أجل إنجاح المشروع التعليمى وكان حضور المحاضرات بتذاكر مثل تذاكر السينما».

{long_qoute_3}

وأشار «صادق» إلى أن الجامعة تعرضت لأزمات مالية واحدة منها فى 1928 ما دفع إدارة الجامعة إلى طرح المجوهرات والتحف الخاصة بالأميرة فاطمة التى تبرعت بها، فى مزاد علنى، إلا أنه فى اللحظات الأخيرة قبل عقد المزاد، تدخلت الحكومة لإنقاذ التحف والمجوهرات وتكفلت بدفع الأموال اللازمة للجامعة، وكانت الأزمة فى رواتب العاملين بالجامعة من الموظفين، ومن ذلك التاريخ أصبحت الجامعة حكومية 100%.

واستطرد «صادق»: «أصبحت الجامعة منارة للعلم، تخرج فيها من تولوا أرفع المناصب، ورموز وأعلام الثقافة والأدب والعلم، ومنهم طه حسين، والعالم البارز مصطفى مشرفة، وبطرس غالى، ورموز عربية أخرى كالرئيس العراقى الراحل صدام حسين، والرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وحاكم الشارقة سلطان بن محمد بن صقر القاسمى، وغيرهم كثير، وكان لها الفضل فى تعليم كوكبة من ألمع نجوم الأدب والفكر والعلماء، ويرجع الفضل فى تأسيسها إلى الجهود الوطنية التى كانت فى الأساس قائمة على مكافحة الاحتلال الإنجليزى، إضافة إلى جهود الوطنيين من الرأسماليين»، لافتاً إلى أن الشعور بالوطنية يدفع الكل إلى التكاتف لإنجاح أى مشروع، ومن ذلك جُمع 60 مليار جنيه فى 8 أيام ببداية عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى، لأن الناس وقتها كانوا يرون فيه المنقذ وجامع شتات المصريين من الفرقة، فأى مشروع يمكن تحقيقه بوازع وطنى، ما دام الناس يثقون فيمن يمسكون بدفة الحكم، وفى عدلهم.

 


مواضيع متعلقة