التناقضات التركية فى الأزمة السورية.. بين الأطماع وتبدل المواقف

كتب: إعداد: العميد طارق الحريرى

التناقضات التركية فى الأزمة السورية.. بين الأطماع وتبدل المواقف

التناقضات التركية فى الأزمة السورية.. بين الأطماع وتبدل المواقف

بعد التدخل العسكرى الروسى فى سوريا بدأ الدور التركى الأقوى فى ملف الأزمة يتراجع بقوة تصل إلى حد الانهيار، وبالرغم من أن الطرف الروسى تعامل بدهاء كبير مع أزمة الطائرة الروسية التى أسقطها الأتراك فى كمين متعمد لتفويت مسعى أنقرة لجر الروس فى صراع مباشر يشعل الأزمة ويدوّلها أو يجعل من سوريا مرتعاً لفوضى عارمة وهو الوضع الذى كان سيتيح للحكومة الحالية فى تركيا أن تواصل نهجها القديم وهيمنتها فى إدارة الصراع على الأراضى السورية قبل دخول موسكو فى مسار الأزمة، وفى الأيام القليلة الماضية بدأت تركيا عمليات قصف مدفعى كثيف من داخل أراضيها على مناطق الحدود أملاً فى تعطيل تقدم الأكراد والجيش السورى، وما يتبعه من تراجع للعناصر الإرهابية التى تتعاون معها حكومة أنقرة تعاوناً وثيقاً منذ تمكين هذه العناصر لبدء نشاطها العسكرى على الأرض واستمرار مساندتها من كافة الأوجه، ومع تواصل تفاهمات القوى الكبرى على الحل السياسى، بدأت ردود الفعل التركية تصل إلى حد الهستيريا والصراخ فى المواقف والتصريحات وردود الأفعال المندفعة غير المسئولة وغير المبررة.

{long_qoute_1}

خلفية تاريخية

مع بداية الأحداث انقلبت السياسة التركية تجاه سوريا رأساً على عقب وتحولت إلى النقيض من علاقات تعاون استراتيجى كامل متعدد الأوجه إلى عداء تام بلا رجعة بين النظامين حليفى الأمس، منذ أن جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2000 الذى تزامن مع وراثة الرئيس بشار الأسد السلطة فى سوريا، وبدأ التصاعد السريع لازدهار العلاقات التى تنامت إلى مستوى علاقات استراتيجية فى المجالات الأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها من علاقات شراكة تمثلت فى تفعيل اتفاقية (أضنة) الأمنية السرية الموقعة عام 1998، التى تسربت تفاصيلها فيما بعد وكانت تسمح للجيش التركى بملاحقة العناصر المناوئة من الأكراد داخل سوريا حتى عمق 5 كم وقضت باعتبار الحدود القائمة بين البلدين نهائية، وبالتالى لم يعد لسوريا الحق فى المطالبة باستعادة لواء الإسكندرونة أو الأراضى الأخرى الواقعة داخل الحدود التركية والاعتراف بأن مياه الأنهار التركية محلية وليست دولية، فضلاً عن توقيع اتفاقيات كثيرة معلنة بين البلدين غطت جوانب عديدة من بينها إلغاء تأشيرات الدخول وتطهير مناطق الحدود من الألغام واتفاقية للتجارة الحرة، وبلغ من قوة العلاقات إعلان سوريا أنها لن تقبل رعاية لمفاوضاتها غير المباشرة مع الحكومة الإسرائيلية سوى من خلال تركيا، وعاش البلدان شهر عسل طويلاً بعد تنازلات سورية فادحة حتى انفجار الأوضاع داخل سوريا، ومع تنامى الاحتجاجات أيدتها أنقرة وبدأت التحريض بقوة ضد الحليف السورى الذى تم الانقلاب عليه فى الداخل والخارج وبدأ مسلسل طويل من التدخل لغير صالح الحل ولغير صالح الشعب السورى، والمفارقة هنا كاشفة لأن تاريخ العلاقات قبل بشار الأسد وأردوغان كان محتدماً طوال القرن العشرين نتيجة ميراث الحقبة العثمانية المريرة وكادت الخلافات تشعل الحرب بين البلدين مرتين: أولاهما عام 1957 بسبب حلف بغداد فى فترة الوحدة مع مصر وثانيتهما عام 1998 بسبب تعاون سوريا مع حزب العمال الكردستانى العدو اللدود لتركيا وتقديم المساعدة وقواعد التدريب له وقبول لجوء عبدالله أوجلان رئيس هذا الحزب إلى سوريا، وقد تراجعت دمشق وطردت «أوجلان» وأغلقت كل ما يتعلق من قريب أو بعيد بحزب العمال الكردستانى وتنازلت بكامل إرادتها عن كل حقوقها ونقاط الخلاف بلا قيد أو شرط.

خفايا التناقضات التركية

دائماً ما تقترن السياسة بالبراجماتية، فالعلاقات بين الدول غالباً ما تحكمها المصالح لكنها نادراً ما تشهد تحولات انقلابية وجذرية بل إن مثل هذا التغير فعل سياسى مريب وملغز، وهو يعكس نوايا مبيتة تحركها أطماع عدوانية غير مقبولة بعد أن تبدأ الحقائق فى الظهور لاحقاً، ولقد كان للموقف التركى تجاه الجار القريب الحليف أسباب وأطماع مجنونة تمثلت فى المواقف والغايات الآتية:

1- مع بدء اشتعال الأزمة السورية قام رئيس المخابرات التركية بزيارة غير معلنة لدمشق وعرض تدخل أنقرة لصالح النظام شريطة عودة الإخوان المسلمين وإتاحة الفرصة لهم فى أداء دور سياسى مناسب فى تلك المرحلة، لكن النظام السورى رفض هذا العرض.

2- كان حزب «العدالة والتنمية» يتحين الفرصة من واقع انتمائه العقائدى للمساعدة فى تمكين الإخوان المسلمين فى النطاق القريب المباشر لدولة ملاصقة، ونتيجة تنبه النظام السورى للمخطط التركى جاء انقلاب أنقرة عنيفاً فى تناقض تام للعلاقات الاستراتيجية السائدة.

3- راهن النظام التركى على سرعة سقوط النظام السورى، فاندفع للتدخل بكل قوة فى ملف الأزمة وساند قوى الإسلام السياسى وخص فى البداية الإخوان المسلمين بدعم كامل.

4- استطاع النظام السورى أن يحافظ على بقائه فى السلطة مما تسبب فى ازدياد تورط الأتراك وتعقد موقفهم فى الداخل السورى.

5- نتيجة تعقد الأوضاع على الأرض بدأ الأكراد السوريون فى تثبيت أوضاع ميدانية على الأرض بعد معركة كوبانى وبدء تفاهمات مع النظام فى دمشق حول إقامة حكم ذاتى للأكراد فى مناطقهم الشمالية من سوريا، وقد أدت هذه الأوضاع إلى تفاقم قلق النظام التركى وهذا بدوره ضاعف من تورطه إلى درجة مساندة الجماعات الإرهابية مثل داعش والنصرة.

كان «أردوغان» يحلم بأن يعيد تجربة الإخوان الأتراك فى سوريا ويهيئ المناخ لصعودهم والمشاركة التدريجية فى السلطة لذلك حاول أكثر من مرة خلال زياراته التى تمت لسوريا أن يقنع الرئيس بشار الأسد بالموافقة على اتفاق علنى أو سرى يتيح عودة الإخوان المسلمين للعمل فى سوريا وعودة المنفيين منهم مقابل تعهدهم بممارسة قواعد وآليات الديمقراطية ونبذهم أى نوع من أنواع العنف، ورفض «الأسد» ذلك المشروع وأصر على قبول عودتهم أفراداً فقط وعدم ممارسة نشاطات علنية وتعهدهم بعدم ممارسة العنف، وخاب أمل «أردوغان» وأحلامه عن قيام نظام ديمقراطى هش فى سوريا يدفع الإخوان المسلمين نحو السلطة سعياً لأن تكون سوريا توأم نظام العدالة والتنمية فى تركيا، التى أغلق النادى الأوروبى المسيحى الباب فى وجهها، مما جعلها تنهى قطيعة اختيارية وتعاود فتح بابها الخلفى فى الشرق الأوسط بعقلية استعمارية واستعلائية مع عرب هذا الإقليم باستدعاء ذاكرة الإمبراطورية العثمانية الزائلة، ومحاولة استعادة الهيمنة، والدليل على ذلك التمدد العسكرى التركى المباشر فى الموصل بالعراق التى تعتبرها أصوات عديدة فى أنقرة جزءاً مقتطعاً من السيادة التركية وكذا دورها فى نقل الداعشيين إلى ليبيا من خلال جسر جوى وبحرى.

التحول الدرامى

بعد التدخل العسكرى الروسى فى سوريا أصبحت تركيا تواجه موقفاً صعباً شديد الضرر لسياستها لأنها وجدت نفسها فى مواجهة مباشرة مع روسيا فى بلد كانت هى اللاعب الأساسى فيه، وباتت الطائرات الروسية تصول وتجول فى الشمال السورى على الحدود الجنوبية التركية، بينما أنقرة عاجزة عن التصرف مكتفية بالحملات الإعلامية الزاعقة وغير قادرة على القيام برد عملى مؤثر بعد فشل حيلة إسقاط طائرة روسية قاذفة تجرعت بسببها من الخسائر أكثر مما تتصور، بعد أن أعطت بهذا التصرف الأرعن ذريعة لموسكو لتعزيز قواتها بأسلحة لم تكن تستطيع إلحاقها على ترسانتها فى اللاذقية من أجل محاربة الإرهاب، وهى أسلحة تحجم كلياً أى قدرة للطيران التركى على العمل فى الشمال السورى، ولعل ما يزيد من إحساس تركيا بالخطر هو إدراكها أن حلفاءها فى الغرب لاسيما الولايات المتحدة ودول حلف الأطلسى بدلوا توجهاتهم إزاء الأزمة السورية نتيجة عوامل موضوعية مثل مشكلة المهاجرين السوريين لأوروبا ووصول إرهاب داعش إليها، أو توازنات استراتيجية وتطور فى المصالح مثل السعى وراء الاستثمارات الإيرانية بعد فك تجميد أرصدة قيمتها 100 مليار دولار، كما أن الغرب تجاهل رغبة تركيا الملحة فى إقامة منطقة أمنية عازلة فى الشمال الروسى، وقد فاقمت من تعقيدات الموقف التركى التفاهمات الأمريكية الروسية بشأن الحل السياسى وتراجع الغرب عن مطلب إقصاء الرئيس السورى من العملية السياسية، وكلها عوامل حجَّمت وألجمت الدور التركى بعد تغير المعادلات على الأرض نتيجة مكاسب الجيش السورى بمساندة الطيران الروسى، وهذا يقلب التوازنات فى أى عملية تفاوضية تخص الأزمة، ويعيد ترتيب عوامل القوة والحسم، وهكذا تفقد أنقرة كل رهاناتها فى فرض إرادتها على الملف السورى.

 

 


مواضيع متعلقة