الأستاذ.. كاهن معبد «صاحبة الجلالة»

كتب: جهاد عباس

الأستاذ.. كاهن معبد «صاحبة الجلالة»

الأستاذ.. كاهن معبد «صاحبة الجلالة»

«الأستاذ».. هكذا لقّبه تلاميذه من كبار الصحفيين والإعلاميين، الذين تعلموا منه أصول المهنة، واعتبره الجميع حالة شديدة الاستثنائية والخصوصية، حيث سجل الكثير من الأحداث التاريخية، وكشف عن وقائع جرت وراء الكواليس، رأس تحرير جريدة «الأهرام» لأكثر من 17 عاماً، وانتقل من تجربة صحفية إلى أخرى بخفة وتحليق، حتى قرر أن يعمل بحُريّة بعيداً عن المؤسسات، يفرج عن الأسرار التى يريدها فى الوقت الذى يرغب، يقابل جميع الزعماء والرؤساء وأشهر الشخصيات، يتابع الشأن الداخلى والخارجى دون توقف، يتابع ويرصد ويحلل، ويحتكر مكانة عالية، مكانة الصحفى الأول بلا منازع، عبر أكثر من 70 عاماً قضاها فى مهنة الصحافة.

تقول الدكتورة ليلى عبدالمجيد، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة: «كان الأستاذ يحب أن يلقب نفسه بـ(الجورنالجى)، وكان مشروعه الخاص هو التربع على القمة دون منازع، وهذا المشروع كان جزءاً لا يتجزأ من مشروعه الكبير، وهو حبه لوطنه، وعمله هو ما كان يراه نافعاً للصالح العام، والادعاء بأن هيكل تميز من خلال صداقته بالرئيس جمال عبدالناصر، وانفراده بالأخبار وقتها، ادعاء ظالم، لأن هيكل تميز فى عهد الرئيس السادات أيضاً، رغم وجود خلاف واضح وعلنى معه، كل ما حصل عليه هيكل من مجد يستحقه بجدارة منذ بداية عمله فى الأربعينات، وطوال أكثر من 70 عاماً قضاها فى تطوير مهنة الصحافة».

وتضيف: «هيكل بدأ عمله الصحفى مع نجوم الصحافة، كان هناك جيل كامل من الكبار، منهم أنيس منصور ومصطفى أمين وغيرهم كثيرون، فهو لم يلمع وسط ظلام، ورغم الاختلاف مع مواقفه أحياناً، تبقى علاقات هيكل ومصادره وما اختزله من معلومات شديدة السرية، اجتهاد شخصى يرفعه إلى مكانة الصحفى الأول بلا منازع، مجهود دؤوب لم يتوقف عنه يوماً، رجل تجاوز التسعين، وما زال يتابع الشأن الداخلى والخارجى بعناية ودقة، وقادر على التحليل والرصد بتميز، يلعب دوراً كبيراً وراء كل حدث كبير، يجد طريقه ليصل إلى عقل من يخاطبه، شديد الذكاء، يصل إلى أهدافه بسهولة وهدوء».

وتتابع: وضع هيكل مكانة غير مسبوقة للصحفى، الذى يصادق الرؤساء ويكتب الخطابات، ويغطى الحروب والنزاعات، ويطور الفنون الصحفية، أدخل مدرسة جديدة فى فن المقال فى الأهرام، حيث كانت كل مقالات الرأى حماسية، وهو من ساهم فى ضرورة إضفاء معلومات لإثراء الرأى، مقالاته بعنوان «بصراحة»، كانت مدرسة صحفية تدرس، من حيث الاجتهاد فى التحليل والربط، كما تبنى هيكل أجيالاً جديدة، فهو لم يكن ذاتياً كما يدعى البعض، لكنه لم يكن يسمح فى الوقت نفسه لأى شخص بأن يتجاوز نجاحه ومهنيته، كان دائماً وأبداً فى المقدمة، وكان أول من قدم فرصة لكتابات أحمد بهاء الدين وكثيرين غيره من الصحفيين المتميزين.

وتضيف: لم يكن من المفترض أن يتجنب هيكل توضيح آرائه الشخصية، خاصة وهو يكتب مقالات الرأى، وخلال السنوات الماضية، لم يعمل تحت إطار مؤسسى، أى صحيفة مصرية أو خليجية أو غربية تتمنى أن يكتب فيها هيكل مقالاً، أى قناة تليفزيونية تتمنى ظهور هيكل، رجل مخضرم، يعرف كيف يكشف عن المعلومات والأوراق التى أخفاها لسنوات، يعرف طبيعة الشعب المصرى، بدليل الخطاب الذى أعده لجمال عبدالناصر، وقت التنحى، وكان الخطاب مؤثراً لدرجة أنه أبكى مصر كلها، هيكل يستطيع بسهولة أن يقدم الأمل للمصريين كلهم، وأن يبكى الشعب بخطاب مؤثر، أن يجعل الناس تحب أو تكره الرئيس.

وتختم قائلة: «هيكل يعطى مثالاً لكل صحفى، فهو لم يحلم بأن يكون رئيس تحرير أكبر مؤسسة صحفية فى مصر، بل تجاوز مفهوم المؤسسة، بعدما أنشأ هو مؤسسات صحفية، لم يعد يركض وراء الزعماء، أصبحوا هم من يطلبونه من أجل استشارته، وكان من اللافت للنظر أن الرئيس المعزول محمد مرسى طلب مقابلة هيكل، فور توليه الرئاسة، وحاول أن يتقرب منه، بالرغم من الخلاف التاريخى الشهير بين الناصريين والإخوان، لكن هيكل بإمكانه أن يتجاوز كل شىء وأن يجد طريقاً دائماً يقتحم به عقل من يحاوره، لذلك مازح مرسى وأخبره أنه أجرى حواراً صحفياً مع حسن البنا، ذلك ذكاء شديد من الصحفى، أن لا يكشف عداء أو رفضاً أمام المصدر الذى يحاوره، حتى يطمئن، ويتحدث بحرية».

وتقول الدكتورة نرمين عبدالسلام، مدرس مساعد كلية الإعلام جامعة القاهرة: «شخصية محمد حسنين هيكل يجب أن يتوقف عندها كل من قرر أن يعمل فى العمل الصحفى، دائما كان هيكل أكبر من المؤسسة التى يعمل بها، فهو من أسس العديد من المؤسسات الصحفية، ووضع قواعد عملها المهنى، وكان الأب الروحى للكثير من الصحف المستقلة الحديثة، وكل من كان يبدأ تجربة جديدة كان يعود للأستاذ طالباً الاستشارة، حتى تمرد هيكل على نظام المؤسسة، ولأكثر من 40 عاماً، كان هيكل يمارس عمله الصحفى حراً بعيداً عن المؤسسات، وبعيداً عن السياسة التحريرية لأى مكان سواء كان تابعاً للحكومة أو خاصاً يحكمه رجال الأعمال، كان الأستاذ يعمل من دماغه فقط، يكتب ويقرأ العوام، يظهر على الشاشات، يفصح عن معلومات سرية وتاريخية، وينصت له الناس بحرص شديد»..

{long_qoute_1}

وتضيف: «هيكل لم يكن يتبع الرؤساء والزعماء كما يظن البعض، ولم يكن يعمل لصالح أحد، سوى نفسه، وتقدمه المهنى، ولم يتخلّ عن حلمه بأن يظل الصحفى الأول فى مصر والعالم العربى ولو للحظة واحدة، كان يقترب من الزعماء وصناع القرار، ويحصل على أكبر قدر ممكن من المعلومات مع كل نظام سياسى، ويلعب دوره الصحفى بالتماس مع مكانته المتميزة عند الرؤساء، وبعد ذلك يقتات من تلك المعلومات التى حصل عليها، فيعد كتباً وصفحات لا حصر لها، يكشف عن حياة الرؤساء بعد موتهم، وعن المشهد ما وراء الكواليس، ونكتشف أن هيكل لم يكن فقط الشخصية المفوهة، الذى يكتب الخطابات الرئاسية الأكثر شهرة، بل هو رجل الظل، الذى سجل ودون كل كبيرة وصغيرة، ليصل إلى مكانة لن يقترب منها أى صحفى عاصره أو سيجىء بعده».


مواضيع متعلقة