جنيف (3).. بدايات وانقسامات تنذر بالفشل!

قبل أن يفتح مؤتمر جنيف (3) أبوابه قبل عدة أيام لإنهاء الحرب الأهلية السورية ومحاولة إنجاز تسوية سلمية للأزمة التى استغرقت خمسة أعوام، راح ضحيتها ما يزيد على 300 ألف سورى، وتم تدمير معظم المدن السورية، وتسببت فى هجرة نصف الشعب فراراً من حرب مدمرة لم يتمكن أى من أطرافها من حسم المعركة لصالحه، ووضح بما لا يدع المجال لأى شك أن مساحة الخلاف لا تزال شاسعة تحول دون توافق الأطراف المختلفة على حد أدنى من التوافق، يضمن استمرار التفاوض وصولاً إلى تسوية سلمية تتحقق فى غضون 18 شهراً، أساسها قرار مجلس الأمن 2254 الذى يدعو إلى وقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الحكم والمعارضة، وتكتب دستوراً جديداً للبلاد، وتجرى انتخابات رئاسية وبرلمانية تحت إشراف الأمم المتحدة، تضمن حكماً ديمقراطياً علمانياً لا تسيطر فيه أى من جماعات الإرهاب على الدولة السورية.

وعلى حين وصل إلى جنيف فى الموعد المحدد وفد الحكومة السورية، يرأسه بشار الجعفرى، سفير سوريا فى الأمم المتحدة، امتنع وفد المعارضة المجتمع فى مدينة الرياض عاصمة السعودية عن الحضور إلى جنيف، بدعوى أن الأمم المتحدة لم تنهض بمسئولياتها تجاه تنفيذ الشق الإنسانى من قرار مجلس الأمن، الذى ينص على وقف كافة عمليات القصف الجوى على المدنيين، والإفراج عن المعتقلين السوريين الذين يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف معتقل، وفك الحصار عن 17موقعاً سكنياً يحاصرها الجيش السورى، تضم مئات الآلاف من الشعب السورى، تعانى الجوع ونقص الدواء، ويموت فيها كل يوم عشرات الأطفال بسبب نقص الغذاء، والسماح بوصول قوافل الإغاثة الإنسانية إلى هذه القرى المحاصرة.

امتنعت المعارضة السورية عن الذهاب إلى جنيف، وأعلنت فى بيان لها أنها لن تدخل مبنى هيئة الأمم فى العاصمة السويسرية، حيث ينعقد اللقاء مع الوفد الحكومى، ما لم تنهض الأمم المتحدة بمسئولياتها وتبدأ تنفيذ بنود قرار مجلس الأمن المتعلقة بحماية المدنيين السوريين، لكن المعارضة السورية ما لبثت أن تراجعت عن قرارها تحت ضغوط الأمريكيين الذين أصروا على أن يبدأ مؤتمر جنيف (3) أعماله فى الموعد المحدد بمن حضر، مع رفض أى شروط مسبقة للتفاوض، وإقرارهم بعدالة هذه المطالب التى يتحتم بحثها داخل المؤتمر، وإن كان واضحاً (الآن) أن المملكة السعودية تميل إلى أن يبدأ مؤتمر جنيف (3) أعماله، بعد أن هدد الأمريكيون بقطع المعونات عن جماعات المعارضة، وأكدت إدارة الرئيس أوباما فى تصريحات علنية أنها ضاقت ذرعاً بتصرفات المعارضة السورية التى تتسم بالتردد، كما أعلن الممثل الأممى استيفان دى ميستورا أن الأمم المتحدة ترفض بشكل قاطع أى شروط مسبقة من الجانبين، مع التزامها بأن تطرح على مائدة التفاوض كافة أوجه الأزمة السورية، فضلاً عن أن السير قدماً فى عملية التفاوض هو السبيل الأمثل لاختبار نيات كل الأطراف بما فى ذلك الحكم السورى.

ويزيد من تعقيد الوضع عدم توافق أطراف الأزمة السورية على معايير واضحة ومحددة لطبيعة تشكيل وفد المعارضة وشروطه، باستثناء هذا التعريف المطاط الذى يتحدث عن (معارضة معتدلة) لا يلقى أعضاؤها قبولاً كاملاً من الروس والإيرانيين.

والأكثر أهمية وخطورة أن كافة فرقاء الأزمة بما فى ذلك أطرافها الأساسية، روسيا والولايات المتحدة وطهران والسعودية، لم تتمكن بعد من الوصول إلى صيغة عملية واضحة قابلة للتطبيق تحدد مصير الرئيس بشار الأسد، فالروس والإيرانيون يرون بقاء الأسد فى الحكم خلال المرحلة الانتقالية، ويؤكدون حقه فى الاشتراك فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، بحيث يصبح مصيره معلقاً بقرار شعبه، على حين لا يمانع الأمريكيون (الآن) فى بقاء الأسد إلى نهاية المرحلة الانتقالية، مع رفضهم الواضح أن يكون جزءاً من مستقبل سوريا، بينما تؤكد الرياض ضرورة العمل على إزاحته فوراً حتى إن تتطلب الأمر استخدام القوة!

ولأن الدخول إلى جنيف (3) يكاد يكون بمثابة الدخول إلى غابة متشابكة من التعقيدات والتناقضات وخلافات الرؤى والمصالح، يصبح السؤال الطبيعى لماذا يتحمس الأمريكيون والروس لانعقاد المؤتمر فى ظل غياب حد أدنى من التوافق يضمن استمراره ونجاحه؟! وفى ظل صعوبة التوفيق بين أولويات المعارضة السورية! وممثلو الحكم السورى.

صحيح أنها المرة الأولى منذ أن بدأت الحرب الأهلية السورية قبل 5 أعوام التى يتوافق فيها الأمريكيون والروس والإيرانيون والسعوديون على خارطة طريق للتفاوض تدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل الحكم والمعارضة وفترة انتقالية مدتها 18 شهراً تنتهى بانتخابات رئاسية وبرلمانية تجرى تحت إشراف الأمم المتحدة، وصحيح أيضاً أن الشعب السورى الذى هاجر نصف سكانه ولا يزال يعيش عذابات مرة يأمل فى أن تستمر عملية التفاوض وصولاً إلى تسوية سلمية تنهى الحرب، لأن كل الأطراف تعجز عن حسم القضية عسكرياً لصالحها، وصحيح ثالثاً أن الأوروبيين يرون من صالحهم (الآن) وقف الحرب الأهلية السورية، خوفاً من موجات هجرة جديدة تدق أبواب أوروبا، وجميع ذلك يمثل علامات إيجابية تدعو إلى الأمل، لكن الصحيح أيضاً أن الخلافات بين طرفى الحوار، المعارضة والحكم، لا تزال شاسعة يزيد من خطورتها تناقض المصالح والأهداف بين الأطراف الأساسية خاصة السعودية وإيران، لكن الواضح من تصميم الروس والأمريكيين على أن يبدأ مؤتمر جنيف فى موعده وبمن حضر أن هناك توافقاً كبيراً بين القطبين الكبيرين على ضرورة إنهاء الحرب الأهلية التى بات يصعب على الضمير الإنسانى تحمل آثارها ونتائجها.

لكن المشكلة تكمن أيضاً فى ضرورة صدور قرار لوقف إطلاق النار وتحديد سبل مراقبة تنفيذ القرار فى وجود أكثر من 74 جماعة مسلحة تعمل فى سوريا وتتناقض مصالحها وأهدافها، وبعضها يهدف أولاً وأخيراً إلى تدمير الدولة السورية وإشعال الفوضى فى منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ثم ما هى طبيعة الرادع الذى يلزم كل هذه الجماعات الالتزام بوقف إطلاق النار؟! ومن المسئول عن عقابه؟! الأمر الذى يتطلب بالضرورة وجود هيئة رقابة دولية تملك قوة ردع كافية تعمل تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بل لعل وقف إطلاق النار فى حد ذاته يمثل مشكلة كبرى فى ظل الاعتقاد الذى يسيطر على تحالف الروس والإيرانيين ونظام بشار الأسد بأن تحسين الموقف العسكرى فى الميدان حتى إن لم يكن يشكل عنصراً حاسماً ينهى الصراع لصالح أى من الطرفين، يبقى عاملاً مهماً فى تحسين الموقف التفاوضى لكل منهما، وتؤكد تقارير الميدان أن الجيش السورى تصحبه الحماية الجوية الروسية قد حقق على امتداد الشهور الثلاثة الأخيرة عدداً من الإنجازات المهمة، فكت قبضة داعش وجبهة النصرة وجيش الفتح عن مناطق استراتيجية مهمة فى محافظتى إدلب وحلب، ويتوقع المراقبون أن يتمكن الجيش السورى من دخول حلب فى غضون فترة زمنية قليلة، بعد أن نجح فى الاستيلاء على عدد من القرى فى محيطها الجنوبى والشمالى، بما يزيد من قوة المركز التفاوضى لجماعة الحكم.

وخلاصة القول إن مؤتمر جنيف يبدأ أعماله وقد تحولت الأزمة السورية إلى غابة متشابكة من التعقيدات والمشكلات يصعب معها التنبؤ بفرص الفشل أو فرص النجاح، لكن كل الطرق تبدو الآن غير سالكة تماماً، بحيث لم يعد أمام أى مراقب سوى الانتظار، مع التأكيد على حرص الأوروبيين على إنهاء الحرب السورية الأهلية التى تفرز ضرراً بالغاً لأمن أوروبا، وتوافق الروس والأمريكيين على حل وسط يضمن للروس حماية وجودهم شرق المتوسط ويضمن للأمريكيين تصفية بؤرة مهمة للإرهاب يمكن أن تهدد مصالحهم.