«السحيمى».. قنبلة على هيئة استقالة

لو أننا نملك إعادة تعريف مفهوم الزلازل، لاخترنا أن نسمى أى هزة أرضية تربك الوضع وتثير الدهشة والفزع «السحيمى»، نسبة إلى المستشار والقاضى الجليل محمد السحيمى، الذى نحت بيده معزوفة أدبية وقانونية تحت مسمى الاستقالة، هز بها أركان وزارة العدل، وزلزل بسطورها كيان المواطنين، ووضع بها المستشار الزند فى ركن شديد القسوة حتى وإن لم يهدم صدى الاستقالة أركان وزارته، ستبقى الاستقالة فى التاريخ علامة لا يمكن تجاهلها، وربما تصبح قطعة أساسية تدرّس لطلاب القانون والحقوق فى مصر.

القاضى السحيمى سبّب استقالته بالظلم والتدخل فى شئون عمل القاضى، وهو سبب يفتح باباً لسؤال مكرر وصعب: هل القضاء مستقل فعلاً، وهل نملك مفهوماً واضحاً وواحداً لفكرة مفهوم القضاء؟!

الذى ننشده ونبغيه أن يكون القضاء مستقلاً، فلا دولة دون قضاة مستقلين، ولا عدالة ناجزة مطمئنة بدون منصات إطلاق أحكام لا يتدخل فى شئونها أحد، نعرف ذلك ونُجمع عليه، ورغم ذلك تبقى فى مصر 3 وجهات نظر تحكم رؤيتنا لاستقلال القضاء، أولاها أنه لا استقلال حقيقى للقضاء وهناك من يتدخل فى شئونه، وثانيتها أن التعريف الذى نملكه عن مصطلح الاستقلال القضائى، فى حاجة إلى إعادة تعريف وتنظيم لانتشاله من بحر الارتباك الغارق فيه، أما وجهة النظر الثالثة، فتقول بأن ما نملكه من تعريف لاستقلال القضاء جيد ولكننا ننفذه خطأ.

وجهة النظر الأولى تنفيها مجموعة الأحكام القضائية الصادرة فى الفترة الأخيرة، لأن كثيراً منها جاء فى عكس تمنيات السلطة أو صالحها الخاص، سواء من حيث الزمن أو طابع التقرير، لذا يبدو منطقياً القول بأن وجهتى النظر الثانية والثالثة هما الأكثر تعبيراً عن فكرة استقلال القضاء فى مصر.

لكى نقول إن القاضى مستقل، لا بد أن يكون قراره وليد تفاعل ضميره مع ما بين يديه من أوراق وتحريات ودلائل دون أى تأثر بضغوط إعلامية شعبية أو تعليمات من السلطة، ورغم وضوح المفهوم فإن البعض سقط فى فخ الانتقال من الاستقلال إلى الانفصال، لأن من روّج لفكرة استقلال القضاء فعل ذلك وكأن مؤسسة القضاء فى برج عالٍ، منفصلة، مجتمع صغير داخل مجتمع أكبر، وبالتالى حينما يصدر حكمه فهو لا ينظر إلى ما يحيط بالمجتمع الأكبر من ظروف سياسية واجتماعية وبيئية.

وفى اللغة العربية الفرق كبير بين «استقل بالأمر» والتى تعنى انفرد بتدبيره، وبين «استقل برأيه» أى استبد به ولم يشرك فيه غيره، ولا يهتم بمن حوله، الاستقلال لا يعنى أبداً الانفصال، فلا يجوز أبداً أن نسمع كل يوم صرخات من نخبة مصر وهم يطالبون رجال الدين بتجديد الخطاب الدينى وإعادة تطويره بشكل ملائم مع تطورات العصر، ويؤكدون على ضرورة مراعاة الشيوخ وقت إصدار فتاويهم وأحكامهم الفقهية للظرف السياسى والاجتماعى الراهن، بينما النخبة نفسها ترفض أى دعوة لمراجعة الشأن القضائى، وتتحفظ على نص استقالة القاضى السحيمى وتغضب من أى صرخة تطالب القضاة بأن يضعوا فى حسبانهم الظرف السياسى والاجتماعى وهم يصدرون أحكامهم، وتلك ليست قولة جديدة ولا نظرية اخترعها أجنبى، أو تعبيراً عن اتجاه حداثى، هى فى الأصل عمود أساسى من أعمدة الحكم القضائى، لأن كتب القانون تتضمن معانى كثيرة تقول بأن تفهم القاضى للواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى لزمن صدور الحكم ووضع ذلك فى اعتباره قبل إصدار أى حكم قضائى يؤدى لنجاح القاضى فى القضاء على كثير من العوارض والآثار الجانبية والأزمات فى مهدها.