اضطرابات تونس.. والمؤامرة على مصر

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

«حركة النهضة» -التى تمثل إخوان تونس- تتمتع بمرونة عالية، مقارنةً بتصلب وقِصَر نظر إخوان مصر، ما أبقاها على قمة القوى السياسية القادرة على تحريك الأحداث فى تونس حتى الآن.. فى انتخابات أكتوبر 2011 حصدت أكبر عدد من مقاعد المجلس الوطنى التأسيسى، شكلت ترويكا حاكمة مع حزبى المؤتمر والتكتل، احتفظت لنفسها برئاسة الحكومة بعد تضخيم صلاحيات المنصب، وتركت للمؤتمر رئاسة الجمهورية -بعد تحجيم اختصاصاتها- ودفعت المنصف المرزوقى لشغلها، كما اختارت مصطفى بن جعفر ممثل التكتل رئيساً للمجلس الذى تتحكم فيه بأغلبيتها.. سوء إدارة حكومات الإخوان لأجهزة الدولة، وتوظيفها لتحقيق أهدافها فى التمكين أدى لغضب شعبى، بلغ ذروته باغتيال شكرى بلعيد ومحمد براهمى عام 2013، وتوجيه أصابع الاتهام للحكومة لتساهلها مع الجماعات المتشددة.. الانتخابات التشريعية أكتوبر 2014 دفعت بحزب «نداء تونس» ذى التوجه العلمانى للمقدمة بـ86 مقعداً مقابل 69 للنهضة.. ورغم هزيمة الأخيرة فإنها حرصت على الانضمام كأقلية للائتلاف الحاكم، حتى تظل قادرة على دفع عناصرها لمفاصل الدولة التنفيذية.

الأوضاع فى تونس فى ظل حكومات الائتلاف الإخوانية، اتجهت نحو التدهور المستمر، معدلات النمو الاقتصادى تراجعت من 2.5% عام 2014، إلى 0.5% فى 2015، مما لا يكفى لتوفير فرص عمل للعاطلين الذين بلغت نسبتهم 15.3%، ترتفع بين خريجى الجامعات إلى 31%.. التفاوت الجهوى فى التنمية وتوزيع الثروات، ولّد الضغائن بين المناطق الغربية المجاورة للحدود الجزائرية، وهى مهمشة وفقيرة وتعانى من ضيق ذات اليد، والمدن الساحلية البحرية التى تحولت لمنتجعات سياحية، ومراكز جذب للاستثمار فى الصناعة والخدمات والعقارات.. فساد الإدارة المحلية، وانتشار الرشوة والوساطة، تسبب فى إثارة السخط، سواء فى التعيين بالمنشآت الحكومية، أو حتى فى توزيع الدراجات، التى خصصتها الدولة لتلاميذ المناطق النائية لتمكينهم من الوصول لمدارسهم البعيدة، للحد من التسرب.. تهميش الشباب وعزوفه عن الحياة العامة، أدى لحالة احتقان دفعت البعض للخروج إلى الشارع والثورة، والبعض الآخر لليأس والتهديد بالانتحار، والثالث للانضمام للجماعات الإرهابية، حتى أصبحت تونس أكبر شريك فى صفوف داعش والتنظيمات التكفيرية فى ليبيا والعراق وسوريا، بقرابة 5500 متطرف، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، بخلاف متطوعات «جهاد النكاح»، والسلطات منعت 10.000 شاب من السفر للالتحاق بداعش، ناهيك عن الانفلات الأمنى الناتج عن تدفق الأسلحة المهربة إلى تونس عبر 500 كم من الحدود المشتركة مع ليبيا، وتلقى المتطرفين التونسيين تدريبات على حمل السلاح بالمعسكرات الليبية.

الاحتجاجات الأخيرة بدأها شباب «القصرين» للمطالبة بتوفير فرص عمل والقضاء على الفساد والفقر، انتحار رضا يحياوى بعد استبعاده من قوائم المعينين، ومحاولة اثنين آخرين، وسّع نطاقها لتشمل العديد من المدن، بما فيها تونس العاصمة، وتزامنها مع حلول ذكرى انتحار «بوعزيزى»، وثورة 2011، أضفى على الأحداث أبعاداً مقلقة.. القصرين تقع على الحدود الغربية لتونس، تنتشر فيه المغارات والخنادق، يتصل بسلسة الجبال الشرقية فى الجزائر، حيث مأوى إرهابيى «القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى»، المحافظة ثارت على نظام بن على بسبب البطالة والفقر والتهميش، وأهملتها حكومات ما بعد الثورة، فتحولت إلى مصدر للاضطرابات، وتفريخ الإرهابيين، تطور الاحتجاجات لعمليات اقتحام للمنشآت الحكومية ومقرات الشرطة، واعتصام البعض بمقر المحافظة، دفع السكان لتشكيل لجان لحماية المنشآت من النهب والسرقة، والحكومة نشرت وحدات إضافية من الجيش، لحماية المؤسسات العامة والخاصة.

الحكومة اتخذت قرارات لمواجهة الموقف.. تشغيل 6400 عاطل بالقصرين، تمويل 560 مشروعاً صغيراً، بناء مساكن شعبية، دعم الخدمات الصحية بالمدينة.. لكن المحتجين رفضوها، باعتبارها مسكنات للتهدئة، وليست حلولاً للمعالجة، تغيير حكومة الحبيب الصيد قد يصبح ضرورة لامتصاص الغضب الشعبى، خاصة أنها عجزت عن توقع الأحداث، بتوقيتها وحجمها، إلى حد أن رئيس الحكومة وخمسة من الوزراء كانوا بالخارج وقت انفجار الأحداث، رغم أن حسين العباسى أمين عام الاتحاد العام التونسى للشغل، حذّرها فى 14 يناير الحالى من أن احتقان الأوضاع ينذر بثورة اجتماعية جديدة.. «السبسى» استقبل رئيس الوزراء السابق المهدى جمعة، ضمن استطلاعه للقيادات السياسية التى قد تمتلك رؤية للتعامل مع الأزمة.

أزمة الحزب الحاكم مسئولة بدورها عما حدث.. «السبسى» تجاوز التسعين عاماً، مما يطرح قضية الخلافة بقوة، رجال الأعمال والأعضاء السابقون فى حزب «التجمع الدستورى الديمقراطى» المنحل، نجحوا خلال مؤتمر الحزب الأخير منتصف يناير الحالى فى تعيين حافظ السبسى، نجل الرئيس، أميناً عاماً للحزب، لتدفعه كأبرز المرشحين لخلافة والده فى السلطة!!، مما ولد احتقاناً داخل الحزب، تضاعف بدعوة السبسى للغنوشى زعيم النهضة لحضور فعاليات المؤتمر كضيف شرف، متجاهلاً أن تصويت الناخبين له فى انتخابات 2014 كان عقابياً ضد الإخوان، وأن شعبيته استندت لمدنية الحزب ورفضه للفاشية الدينية.. والمثير أن «الغنوشى» فى كلمته بالمؤتمر نفى «ما يشاع عن اختراق حزبه لحزب نداء تونس، ومحاولة تفتيته»، فى نفس الوقت الذى أعلن فيه محسن مرزوق، الأمين العام السابق للحزب انشقاقه، مع 32 نائباً من كتلته البرلمانية، لتتراجع إلى 54 مقعداً، مما أدى لخسارته للأغلبية لصالح النهضة، الذى بات متصدراً!!. التنظيم الدولى للإخوان -بتمويل قطرى ودعم تركى- نجح فى توظيف بعض الرموز السياسية العربية لتشكيل «المجلس العربى للدفاع عن الثورات والديمقراطية» يوليو 2015، وجعل مقره تونس، ليمثل واجهة جديدة لتغذية الحراك الثورى، واستعادة رصيد الإخوان بالدول العربية، ترأسه المنصف المرزوقى، وضم فى قيادته أيمن نور «مصر»، وتوكل كرمان «اليمن».. عقد آخر اجتماعاته منتصف يناير الحالى فى اسطنبول بتركيا، بمشاركة طارق الهاشمى نائب رئيس الجمهورية العراقى السابق، قائد الحزب الإسلامى، الواجهة السياسية لإخوان العراق، والشيخ أسامة الرفاعى رئيس المجلس الإسلامى السورى.. اختيار التنظيم الدولى للمرزوقى يعكس حرصه على استثمار طبيعته كمهيج ثورى، يمتلك قدرة التأثير على الفئات الفقيرة والمهمشة والراديكالية، «المرزوقى» أسس مؤخراً حزب «حراك تونس الإرادة»، بعد أشهر من تأسيس كيان جماهيرى آخر أسماه «حراك شعب المواطنين»، وكان من العناصر المحرضة على الاضطرابات، والتنظيم الدولى للإخوان يتحين الفرصة لتأسيس كيانات وطنية مماثلة، فى مصر بالتنسيق مع أيمن نور، لتجاوز الخلافات بين الحرس القديم والشباب، ومحاولة استعادة شعبيته التى افتقدها، وفى اليمن مع توكل كيرمان، لإعادة الحيوية والنشاط للتنظيم.

ورغم ذلك يتفق المسئولون المصريون على تكرار التأكيد أن «مصر ليست تونس».. كل عمليات الرصد والتحليل الموضوعى تُجزم بأن البداية تكون «تونس»، لكن الهدف دائماً «مصر».. فمتى نُسَلِّم بالبديهيات؟!.