تحرير الرمادى.. والعد التنازلى لداعش

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

لن نمل التذكير بأن نشر الفوضى وإثارة الصراعات الطائفية تمثل مرتكزات للاستراتيجية الأمريكية بالشرق الأوسط، التنظيمات الإرهابية أهم أدواتها، تخريب ودمار المدن العربية بعض نتائجها، تراجع عائدات النفط نتيجة تبنى سياسات عقابية يعوق إعادة البناء، يشغل المنطقة عن مصالحها، ويعيدها لعصور التخلف، أمريكا اضطرت لمراجعة سياستها نتيجة لتصميم أوروبا على ضرب الإرهاب فى المنطقة، قبل أن يدق أبواب المزيد من عواصمها، بعد باريس وبروكسل، وجدية الاستهداف الروسى للإرهابيين بسوريا، انعكست على ميزان المواجهة العسكرية لصالح الدولة، مما أدى لتصاعد المطالبة فى العراق بدعوة روسيا للمشاركة فى الحرب على داعش، وتفعيل دور مركز القيادة المشتركة لروسيا والعراق وسوريا وإيران فى بغداد، تلك مقدمة ضرورية لتفهم دوافع الدعم الأمريكى للعراق إبان معركة «تحرير الرمادى».

«داعش» استهدفت محافظة الأنبار، لاتصالها الجغرافى مع المناطق التابعة لها بسوريا، وباعتبارها قاعدة لتهديد الدول المجاورة عبر حدودها المشتركة مع المحافظة «السعودية 814 كم»، و«الأردن 181 كم»، بدأت بالفالوجة المطلة على كربلاء، مرقد الإمام الحسين مطلع 2014، ثم سيطرت على المنافذ الحدودية «القائم، الرطبة، حصيبة»، لتتمدد منها لباقى المحافظة، حتى احتلت الرمادى مايو 2015، ودمرت الجسور المقامة على نهر الفرات، شمال وغرب المدينة، لتحصينها ضد الهجمات المضادة، لم تنجح محاولتها لاحتلال حديثة، حيث يقع واحد من أكبر سدود العراق، فظلت فى حوزة الحكومة مع موقعين آخرين لم يسقطا بالمحافظة، البغدادى حيث قاعدة عين الأسد، والحبانية بقاعدتها الجوية الضخمة.

أمريكا دربت الألوية الثلاثة الرئيسية التى شاركت فى اقتحام الرمادى، وقرابة 12.000 مقاتل من عشائر الأنبار، وجهزتهم بالأسلحة المتطورة.. زودت العراق بـ5000 صاروخ مضاد للدروع لاستهداف مركبات داعش المفخخة، وسعت قاعدة الحبانية، أخرجت قوات الحشد الشعبى منها، وحولتها لمقر لقيادتها، وفرت للقوات المهاجمة جسوراً عائمة نقلت المركبات والمعدات الثقيلة لمركز المدينة، وفاجأت مقاتلى «داعش» بالمجمع الحكومى وبمقر قيادة عمليات الأنبار، قصفها الجوى نجح فى تدمير دفاعات «داعش»، بما فيها العبوات المزروعة بالطرق والمنازل والسيارات المفخخة، وفتح الطريق للقوات دون خسائر كبيرة، كل الشواهد تؤكد فاعلية الدور الأمريكى فى مجال المعلومات والتخطيط والإسناد والدعم اللوجستى.

«داعش» بدأت تسحب الآلاف من عناصرها من الرمادى بمجرد تأكدها من جدية الهجوم على المدينة، عندما سقطت كان عدد مقاتليها لا يتجاوز 350، معظمهم من الانتحاريين، تجنب المواجهة المباشرة أحد أساسيات تكتيكاتها، والانسحاب ثم معاودة الهجوم أسلوب لجأت إليه من قبل فى بيجى، وفى الرمادى نفسها، قبل سقوط المدينة اعتقلت معظم رجالها، واختطفت 70 من أبناء عشيرة البونمر، وأعدمتهم لتعاونهم مع القوات العراقية، كما أعدمت 25 من طلبة جامعة الموصل لرفضهم المشاركة فى المعركة، و50 من مقاتليها لرفضهم ارتداء الأحزمة الناسفة، صعوبة الموقف تدفع التنظيم للرعونة، حتى فى معاملة عناصره.

إدارة معركة الرمادى اتسمت بالكفاءة، انضباط القوات العراقية، وارتفاع مستوى تدريبها، وروحها القتالية، مختلف تماماً عن حالة الترهل والاستسلام التى سمحت لـ«داعش» باجتياح المدينة دون قتال منذ سبعة شهور، الحرص على إنقاذ آلاف الأسر التى احتجزتها «داعش» كدروع بشرية يعكس تقديراً لمسئولية الدولة عن رعاياها المنتمين لمحافظة عانت لسنوات تمييزاً طائفياً وفر لـ«داعش» البيئة الحاضنة لدخولها، وإن أدى إعمال الأخيرة للسيف، وإعادة العمل بقوانين القرون الوسطى، إلى خسارة تعاطفهم، وانقلابهم عليها، تحرير الرمادى خطوة مهمة على طريق تحرير الأنبار، ما ينهى تهديد داعش لسدود «الرمادى، الفالوجا، الكرامة»، ويمنعها من التحكم فى قطاعى الماء والكهرباء، والقطاع الزراعى بمحيط بغداد، كما يحرمها من إمكانية تهديد العاصمة، والقفز على كربلاء والنجف، ويقطع اتصالها بالحدود السورية، حيث مصادر الدعم، والملجأ فى حالة الانسحاب، وبالتالى تصبح هناك فرصة لحصار مقاتليها بنينوى والموصل.

تحرير الرمادى خطوة مهمة فى طريق قلب معادلة القوى ضد «داعش»، وهدم استراتيجية «الترهيب قبل الاجتياح»، بخلق صورة ذهنية تولد الرعب فى صفوف أعدائها، على غرار ما فعلت جيوش المغول، مما ساعدها على التمدد، هذه الاستراتيجية تعرضت للانتكاس خلال «2015»، طُرِدت من كوبانى وتل أبيض «يناير»، ومن تكريت «مارس»، ردت باجتياح الرمادى «مايو»، لكنها خسرت بيجى والثرثار «أكتوبر»، وسنجار «نوفمبر»، فانقطع الطريق بين الموصل وسوريا، حيث خطوط إمدادهم بالأسلحة والذخائر، والمخدرات، وسيلة الإعاشة للسيطرة على الانتحاريين، وأخيراً سقطت الرمادى «ديسمبر»، تراجع الصورة النمطية لـ«داعش» انعكس على خطابها السياسى، تسجيل البغدادى الأخير «فتربصوا إنا معكم متربصون» أقر بخسائره ووصفها بالـ«مصائب وابتلاءات»، دعا مقاتليه للصبر، ووعدهم بالنصر، رغم ضخامة الضحايا، وتعهد للمرة الأولى بمهاجمة إسرائيل، لكسب تعاطف الرأى العام.

تحديد الأهداف التالية للرمادى مهمة بالغة الحساسية، إذا ما بدأ التحرك صوب الأهداف التى تحظى باهتمام سياسى وإعلامى، فسوف تكون الموصل المحطة التالية، بمايعنيه ذلك من خسائر وضحايا ومخاطرة غير مأمونة العواقب، أما إذا تم التغاضى عن تلك الاعتبارات، فإن تحرير مدن القائم والرطبة وكبيسة يقطع كافة المعابر الحدودية مع سوريا، ويُكمِل فرض الحصار على داعش، هذه المدن منبسطة، يسهل تعامل الطيران مع أهدافها، محدودة السكان، والأهالى غير موالين لـ«داعش»، بعدها يمكن التوجه إلى هيت، حيث واحد من أهم مراكز ثقل «داعش»، ما يُحكم الحصار حول الفالوجة ويسهِّل تحريرها، قبل التوجه للموصل.

من المؤسف أن تعصف الخلافات الطائفية بفرحة العراقيين بانتصار الرمادى، الحشد الشعبى لم يقنع باقتصار دوره على إحكام الحصار حول المدينة بداية الاستعداد للمعركة، وغاضب لإخلاء قواته بمجرد بدئها، استجابة للرؤية الأمريكية، مسلحو العشائر السنية المشاركين فى الاقتحام، يرون أن تكليفهم مع الشرطة المحلية بالإمساك بالأرض بعد تطهيرها، يمثل نواة لمنظومة «الحرس الوطنى»، التى تمنع وقوع تجاوزات طائفية كتلك التى ارتكبتها عناصر الحشد الشيعية ضد السكان السنة فى تكريت وبيجى وجرف الصخر، كما تحول دون تحويل الميليشيات الشيعية إلى بنية عسكرية مستقلة على غرار حزب الله اللبنانى، والأكراد يتساءلون عن مصير حلم دولتهم بعد أن يفيق العراق من كابوس «داعش»، والحقيقة أن أمريكا تقدم دعمها للقوة الفاعلة على الأرض، فى كل إقليم من أقاليم العراق، فى اتجاه واضح نحو تقنين عملية التقسيم، السلطة فى مأزق، وهى ترى الولاء الطائفى والعرقى أعمق من الولاء للوطن، خاصة مع إدراكها أن معركة الموصل المقبلة هى معركة مصير بالنسبة لـ«داعش»، وأن العراق لن يتمكن من كسبها إلا بمشاركة كل القوى الوطنية؛ الجيش الوطنى، الشرطة، الحشد، البيشمرجة، أبناء العشائر، فمتى يدرك أبناء العراق تلك الحقيقة؟!