عسكرة الدولة.. إلى متى؟!

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

سائق التاكسى المطحون بين سيارة صينية متعددة الأعطال، وأقساط شهرية واجبة السداد، يطالب بأن تكون ورش إصلاح السيارات تحت إشراف الجيش لأن «الميكانيكية بيخربوها». وعاملة النظافة التى نصب عليها مقاول وهرب بتحويشة العمر، تطالب بأن يكون إسكان الغلابة كله تحت إدارة وإشراف الجيش. وصاحب السيارة، التى تفتتت دواخلها بعدما وقع نصفها فى حفرة عميقة فى وسط الطريق، يطالب بأن يكون رصف طرق مصر كلها مهمة الجيش. والرجل الذى كادت زوجته تفقد حياتها فى ولادة قيصرية لولا أنه نقلها لأحد مستشفيات الجيش، يطالب بأن تخضع مستشفيات مصر لمراقبة الجيش. إنه شكل من أشكال المطالبة الشعبية بعسكرة الدولة، وهى عسكرة من النوع الحميد -من وجهة نظر شعبية- لا تهدف إلى السيطرة والهيمنة من قبل الجيش على مؤسسات الدولة وخدماتها من أجل إحكام القبضة الحديدية وإنفاذ الديكتاتورية الحنبلية، بقدر ما تهدف إلى مد يد العون لملايين من المصريين يعانون الأمرين من تدنى الخدمات ويذوقون الويلات من شيوع الفساد ويرضون بالتدنى ويقنعون بما هو أقل من القليل لسبب واحد؛ ألا وهو عدم وجود بديل. البديل الذى يتحدث عنه قطاع عريض من المصريين بشكل متزايد هذه الأيام هو البديل العسكرى، الذى ظهر على السطح وتحدث عن نفسه لا بالطبل والزمر، ولكن بالحجة والبرهان. فمن شبكة طرق لم يعتدها المصريون على مدى عقود شهدوا خلالها نوعية طرق وإصلاحات تليق بالزواحف والقوارض، إلى مستشفيات عامة جديرة بتقديم خدمات نقل الموتى، وأزمة سكن مزمنة لا تنظر بعين الرأفة أو الشفقة (ناهيك عن كونه واجباً من واجبات الحكومات) إلى ملايين لا تجد سكناً آدمياً، إلى آخر قائمة التفاصيل الدقيقة والعريضة لحياة المصريين التى تحولت جحيماً وجد المواطن أن الخدمة الوحيدة اللائقة واليد الوحيدة المنقذة والمشروعات الوحيدة المنضبطة لا تخرج إلا بأيادى القوات المسلحة. وهنا تتعالى أصوات ثورية بعضها ينعت هذا التوجه من قبل القوات المسلحة بـ«جهود دؤوبة لإحكام السيطرة على مفاصل الدولة» و«استمرار لقبضة العسكر على الدولة» إلخ. وفى الوقت نفسه ينعت آخرون الشعب المطالب بضلوع الجيش فى قطاعات مدنية بحتة بـ«التافه» و«السطحى» و«مش فاهم» و«هيضيع الثورة». لكن الشعب «ودن من طين والأخرى من عجين». السيدة البسيطة التى ترى أن ضلوع القوات المسلحة فى الرقابة على الأسواق وطرح السلع الغذائية وبناء الوحدات السكنية وتوفير وسائل مواصلات آدمية وفتح المستشفيات العسكرية لعلاج المدنيين، وإعادة الجانب العسكرى للمدارس الإعدادية الثانوية بنين، حين سئلت عن موقفها من «قوى ثورية» تعارض مثل هذه الـ«عسكرة»، قالت بكل هدوء: «عسكرة إزاى يعنى؟! وهى القوى الثورية دى عملت لنا إيه؟». وبعيداً عن الجدل العقيم الذى تدور رحاه فى كثير من الدوائر النقاشية حيث «أصل الشباب كلهم فى السجون» و«النظام أخرس المعارضة الشريفة» و«الثوار أغلبهم مات بالقمع والقهر» و«أطهر ناس فى مصر اختفت قسرياً».. إلخ، فإن واقع الحال يشير إلى أن جانباً كبيراً من الثوار (باستثناء الإخوان وأبناء عمومتهم) ظاهرة صوتية أشبه بطلقات الصوت. واقع الحال أيضاً يشير إلى أنه -شئنا أو أبينا- فإن الجهة الوحيدة فى مصر التى لم يلحق بها قدر طاغٍ من الفساد والاهتراء والمحسوبية والتواكل والبلادة وانعدام الضمير وتبخر الوطنية والتحلل الأخلاقى (حتى وإن كان المظهر الخارجى مزيناً بهالات دينية حيث الذقن والجلابية والبنطلون القصير أو الحجاب والنقاب وجزاك الله خيراً) هى المؤسسة العسكرية. لذا تبدو مطالبات البعض سواء بحسن نية -حيث حلم بمدنية كاملة للدولة المصرية والإبقاء على الجيش فى ثكناته مدافعاً عن الحدود- أو سوئها -حيث رغبة خبيثة فى النيل من الجيش إن لم يكن فعلياً بأعمال القتل والتفجير فبالنيل من سمعته الوطنية ومكانته القومية- أشبه باللوغاريتمات غير المفهومة والكلمات غير المهضومة لملايين المصريين. سائق التاكسى حين تحدث عن ورش إصلاح سيارات المدنيين برعاية الجيش لم يدر بخلده حكاية عسكرة الدولة أو إخضاع المدنيين للعسكر أو أى شىء من هذا القبيل. لم يفكر إلا فى ميكانيكى يفهم ما يقوم به ولا ينصب عليه فى أسعار قطع الغيار والتركيب. وبتضييق الخناق عليه وسؤاله إن كان يعلم أنه بمطالبته هذه يسهم فى زيادة «عسكرة الدولة»، حسبما يؤكد بعض الثوار والنشطاء، رد بكل سلاسة: «خلاص خلِّى الثوار والنشطاء دول يصلحوا لى العربية، وأنا هنسى تماماً حكاية الورش العسكرية». لكن يظل الجدل العقيم والسفسطة اللانهائية سيدا بعض المواقف. مرة أخرى يجد نشطاء وثوريون سادة دون إسلام سياسى، أنفسهم فى خانة واحدة مع الإخوان وأبناء عمومتهم حيث تجمع بين الفرقاء هاشتاجات مثل «عسكرة الدولة، وعسكرة المشاريع، وعسكرة المواطنين» إلى آخر أنواع العسكرة. الفريق الأول على قناعة بإمكانية وضع نقطة وقلب الصفحة وإقصاء كل العسكريين عن المشهد حتى تكون مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة، لكنهم لا يغوصون فى التفاصيل. فجهود التجريف التى دارت رحاها على مدى عقود لم تترك موهبة إلا وأدتها ولم تدع ملكات استثنائية إلا خنقتها. وكلما سألت أحدهم عن حلول واقعية أو تصورات منطقية أو أطروحات معملية لمن يتولى ماذا وكيف، وجدت نفسك فى دوائر مغلقة وأحاديث مفعمة بالحماسة لكن منزوعة الواقعية. أما الإخوان ومن على شاكلتهم فعداؤهم للجيش مفهوم ومعروف. وعودة إلى السؤال: عسكرة الدولة إلى متى؟ الإجابة: إلى أن تكون هناك حلول وبدائل قابلة للتحقيق وجديرة بالتفعيل.