أم عمرو "النقاشة"..المرأة التي تخفت في "ثوب راجل"

أم عمرو "النقاشة"..المرأة التي تخفت في "ثوب راجل"
بقع الطلاء الأبيض تغرق قميصه، أو قميصها، وبنطاله الرجالي، حتى أصابع قدميه ملوثة به كأنه اعتاد أن يرى لونه على جسده وكل ما يخصه، يلف رأسه بشال فلسطيني، "هما قالوا لي غطى رأسك عشان حرام شعرك يبان".
بصوته الأجش سيخبرك مرة أنه يحب عمله، وفي أخرى أنها تحبه بكل "فخارة" كلمتها المعتادة التي تكررها بين ثنايا حديثها. حرفية العمل، مدى الشقى الذي تشعر به تحت آشعة الشمس في الصباح الباكر، وهي تقف على ثقالتها أمام واجهة المبنى، تمسك بعدتها وبجوارها زميل آخر لا يعرف سوى "منصور".
هى صباح إبراهيم الشيمي، "منصور" التي قررت أن تصبح رجلاً منذ أكثر من خمسين عامًا، والدها الموظف البسيط، ملاحظ جراج غمرة الذى أنجب 13 ابنًا، يأتي النهار عليه وهو لا يعرف إن كان سيجد قوت يومه أم لا، ومجتمعها الذي اعتبر أن البنت تتزوج وتنجب فقط جعلها تمشي في الشارع تراقب كل رجل يعبر من أمامها لتفهم كيف يمشي، يتكلم، يتعامل مع الناس ثم خطت خطوتها الأولى لطريق الرجولة في عمر الثامنة، لتعمل في صناعة الجير التي لم تستمر فيها طويلاً لأن الصنايعية كانوا يرفضون عملها معهم لأنها بنت، ثم بدأت فى العمل في محيط جيرانها تدهن حوائط منازلهم، تصلح كرسيًا، حتى جاء الوقت الذي قررت فيه أن تتحول بشكل كلي إلى عالم الرجولة، ونفذت ذلك بالذهاب إلى الحلاق، وخرجت بشعر مقصوص لا يطول عن سنتمترين، وأصبح اسمها "منصور" الذي يعمل في حدادة المسلح.
كان أقصى ما تحصل عليه "منصور" في ذلك الوقت 75 قرشًا تعطيها لأمها لتساعد بها والدها في مصاريف المنزل، الذي لم يعترض على عملها بشكل حقيقي، ولكن عندما زادت المشاكل في المنزل بين والدها وأمها ورغبتهما في أن تتزوج تركت البيت وعاشت "لوحدها" كرجل، وما إن تتكشف حقيقتها كفتاة تترك المنطقة التي تعيش فيها لمنطقة أخرى.
عملت صباح أو "منصور"، في أعمال كثيرة كلها كانت شاقة تحمل الكثير من القسوة التي أفقدت ملامح وجهها أى بريق طفيف لوجود امرأة بداخلها في يوم ما، عملت نجارة مسلح، وعجانة مونة، ومبيض محارة، منجد، ونحاتة حجر صوان الذي يستخدم لطحن القمح لصناعة الدقيق.
تخرج مع أصدقائها الرجال في شبابها بعد العمل يجلسون على القهوة، يشربون الشاي الثقيل ويدخنون السجائر، ثم يسيرون على الكورنيش يعاكسون البنات، تقمصت الشخصية لدرجة أنها خطبت بنت صاحب المنزل الذي تعيش فيه حتى لا ينكشف أمرها، والمرة التي كشف فيها أمرها في عملها كانت سببًا في زواجها من أبو أولادها الخمسة، تقول عن هذه واقعة اكتشاف أمرها:"كنت بشتغل في ورشة وقتها لصناعة حجر الصوان، وبناء الطواحين، واتخانقت مع ابن المعلم بتاعي، فضربني، فمستحملتش القلم اللي نزل على وشي، سبت الشغل وكنت ناسية حاجتي، وكان فيها البطاقة وساعتها عرفوا، إن اسمي صباح مش منصور، راح وجيه زميلي اللي كنا بنعاكس البنات مع بعض خطبني من أبويا واتجوزته".[Quote_1]
عادت أم عمرو بعدها لتصبح امرأة من جديد وأم لأربعة بنات وولد، صحيح حافظت على شعرها القصير ومشيتها الصبيانية لكنها تواصلت مع جانب المرأة داخلها، وعملت في خياطة ملابس الأطفال، ولم تستمر فيها طويلاً، حيث اشتدت الخلافات مع عائلة زوجها، وانتهت بحرقهم لوجهها بمياه كاوية تركت آثارها عليها حتى الآن فتركت زوجها ومعها "كبشة عيال" ربتهم وحدها.[Quote_2]
تعتبر أم عمرو نفسها أم العمال المصريين، يعرفها الكثيرون الآن خاصة بعد تخصصها في النقاشة، نفذت الكثير من الأعمال لمصالح حكومية كمشاركتها في تجديد مجلس الشورى، وعملها في نقاشة ودهان الكثير من أقسام الشرطة، ومديريات الأمن آخرها مديرية أمن مدينة السادس من أكتوبر التي تعيش فيها حاليا.
تسرد أم عمرو شريط حياتها، وهى الآن على أعتاب الستين أمامها فلا تجد فيه إلا ما يبكيها لكنها تقول دائما:"ربنا مش بيجيب حاجة وحشة الوحش من أنفسنا، موجوعة لكن مش ندمانة على حياتي"، لا تقبل أن يقول رجل يعمل بجوارها أنها "واحدة ست" لأنه سيقل بكرامتها.
اسمها الذي كتبته "أم عمرو" بدمها بكل "فخارة" كما تكرر دائما لايشعرها بأى بهجة فى عيد العمال، تقول:"عمرى ما حسيت بيه لأن إحنا العمال عشنا حياتنا منبوذين، يوم ما نقع من على ثقالة مش بنلاقي مستشفى تعالجنا"، تنهمر دموعها بحرارة شعورها بمرارة الطريق الصعب الذي مشت فيه "لو مكنش العمال موجودين، مكنتوش أنتوا بقى لكم بيوت ومصانع تشتغلوا فيها .. إحنا اللي بنعمل لكم كل حاجة من أول الأرضية لغاية الكرسي والقلم اللي بتكتبوا به".
ترفض أم عمرو أن يشتري أحد العمال، فالكثير منهم عاطل يحتاج إلى عمل لا إلى عطف شيخ من مسجد أو جمعية "أنتوا عايزين تشترونا عشان فقرنا .. تجيبوا لنا بطانية عشان ننتخب الإخوان .. وعلى الله عرفوا ربنا عشان الحق مش عشان الكرسي".
تختم أم عمرو كلامها في عيد العمال بدعاء واحد تقوله وتكرره أغلب الوقت:"يا رب نجي مصر، واحمي أرضها، وارزقنا براجل أمشي في بلدى وظهري مسنود بيه .. راجل زي جمال عبد الناصر وطني". [Quote_3]