برلمان التحليل الاستراتيجى

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

أغلب الظن أن كل ما يمكن أن يُقال أو لا يقال قد قيل. وأغلب الظن أن كل ما هو خاضع للتفسير أو غير خاضع، قد تم تفسيره. وأغلب الظن أن كل ما هو قابل لقراءة ما بين سطوره أو غير قابل، قد فُنّدت سطوره وأُشبِعت مَنطَقة وهرتلة وزغللة. وتشبّع القاصى والدانى بما أغدقته علينا بحور العلم الفياض ودهاليز الفهم الجبار لجحافل الخبراء والمحللين الاستراتيجيين والتكتيكيين والتكنيكيين فى شأن البرلمان المقبل.

وأدلى الكل -باستثناء الشعب- بدلوه حول ما يمكن أن نتوقّعه من هذا الكيان الموشك على ولادة متعثرة متعسرة متعصرة، لا لعيب فى الجنين، بل لعيوب فى الأطباء القائمين على أمر التوليد. فريق يصر على ضرورة أن تكون الولادة قيصرية، وفريق يجزم بحتمية أن تكون طبيعية، وثالث يلوّح باحتمال أن يكون الجنين ناقص النمو مختل العقل مسلوب الإرادة، مما يحتم إبقاءه لفترة إضافية، ورابع يعتبر المولود القادم شراً مطلقاً يجب قطع رقبته وفصل أطرافه قبل أن يرى النور، وخامس مختل يدعو إلى مليونيات ثورية وفعاليات شرعية تحت راية «قاوموا برلمان الدم».

موجات من الهبد والرزع لتحذير الناخبين من العودة إلى نقطة صفر، حيث انتخاب اللحية واختيار الجلباب وانتقاء النقاب، أملاً فى أن تدخل مصر الجنة وتنجو من النار.

وهبات وضربات من التحليل المنطقى مرة ومنزوع المنطق مرات، للتحذير من قوائم أو أحزاب أو مرشحين مدعومين من رجال الأعمال، لكنها تبقى هبّات «حنينة» وضربات غير موجعة، إذ ربما يتنبّه رجل الأعمال الفلانى لهذا المحلل العلانى، فيراعيه ببرنامج فضائى أو يُغدق عليه بصفة «مستشار استراتيجى» أو «محلل تكتيكى» أو «معلل تكنيكى».

وبين شارح مستفيض للوغاريتمات القوائم وشفرات الفردى وأكواد التحالفات، ومفسر للمراحل، حيث تقسيمة المحافظات والمصريين فى الداخل، وأولئك الذين فى الخارج، ومفنّد لنظم الانتخابات فى مشارق الأرض ومغاربها ومواطن الاختلاف وأوجه الشبه بيننا وبينهم، وعازف على أوتار برلمانات سابقة، محذراً من عودة وجوه سابقة، ومعضداً هبة وجوه أسبق، لأنها كانت الأفضل والأجدر بكرسى البرلمان الغالى، لا يسع المرء إلا أن يتعاطف كثيراً ويتضامن عميقاً ويحترم جداً هذا الشعب المسكين المضطر إلى التعايش مع هذه الأجواء العجيبة الغريبة.

قدر بسيط من الصراحة مع مقدار ضئيل من الكياسة، تجعلنا نواجه الحقيقة الواضحة، ألا وهى أن الغالبية العظمى من المصريين لا يعنيها كل هذا اللت، أو كل ذلك العجن. بالطبع هناك شعور عارم بضرورة إنجاز المرحلة الأخيرة من خارطة الطريق، كما يقولون فى بلاد الفرنجة: «By hook or by crook»، أو بمعنى آخر «خلينا نخلص».

هناك شعور واضح بالخوف والحذر من عودة «الناس بتوع ربنا» سواء كانوا من «النور» أو من «الإخوان» أو من «النور» وعاملين نفسهم «إخوان»، أو «إخوان» وعاملين نفسهم «نور»، أو أياً من هذه الخلطة الجهنمية التى ستحاول اجتياز عتبة البرلمان، إن لم يكن من بوابته، فمن الشباك أو تحت عَقب الباب. لكن الكل يعلم أن المواطن المصرى لا يعنيه كثيراً أن يكون النائب متحفلطاً أو متحفظاً، يمينى النزعات أو يسارى الطموحات، إسلامى الخلفية أو ليبرالى الهوية.

قلة قليلة فقط تعنيها المسائل الأيديولوجية والقضايا الحزبية. وتظل الأغلبية يعنيها تحسين نوعية حياتها اليومية، وهو المطلب الثانى بعد أولوية إبقائها على قيد الحياة.

هذه الأولوية تحققت على أيدى القوات المسلحة (ومعها الشرطة) ورجالها وقائدها حينئذ الرئيس السيسى. والآن ضمنت الناس -أو أوشكت- مسائل الأمن والتأمين ولم يبقَ سوى التعليم والصحة والسكن والمرور والتربية والأخلاق والتموين، والقادر على المطالبة بها والتأكد من تحقيقها ينبغى أن يكون فى البرلمان.