الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [11]

كتب: جمال الغيطانى

الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [11]

الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [11]

منذ عامين، مر الأديب جمال الغيطانى بأخطر لحظات واجهته فى حياته، رغم أنه عرف الأخطار كثيراً زمن الحرب، وفى ظروف أخرى، غير أن الفرق كبير بين خطر يأتى من الخارج، ومداهمة من الداخل، بدأت الأزمة على الهواء مباشرة فى برنامج تليفزيونى، وانتهت فى مستشفى كليفلاند. ذلك الوقوف قرب نقطة العبور إلى الأبدية، وعندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطانى محظوظاً، عبر إلى هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤى لتضيف صفحات جديدة إلى كتاب الألم الإنسانى. منه وإليه ثمة إمكانية لفتح الطريق المؤدى إلى السيدة إلا أنه لم يقدم، كتب أرقام هاتفها إلا أنه لم يبادر، غير أنه بدأ ينتبه إلى ما يسرى تحت السطح، رغم ما أنبأه النظر، رغم الانسجام البادى والهدوء المؤطر إلا أن التموجات والتبدلات تسرى، يدرك هنا، فى هذا الموضع أن ذلك لم يعد يدهشه، لم يعد يتوقف عند المتغيرات والمفاجآت لكثرة ما عرفه، وما مر به، منها ما صحبته الشدائد والقواسم، يود لو يمسك ببدء تكون المعنى ورسوخ الإدراك، فرق بين أن يقرأ ويعاين، يمر بما يحاول الاندماج به، تتدفق عليه الهواجم حيث لا يحتسب ولم يعد العدة. يمر من الرصيف المقابل للمكتبة التى اعتاد التوقف عندها أثناء مشيه اليومى، وتبادل التحية مع الأخوين وأمهما، إنه يضع نقاطاً فاصلة عبر المسافة ليقصى الضجر، ليجدد ما يصاحب الخطى الرتيبة، المشى عبر الطريق يختلف عن الماكينة، يحتفظ بواحدة فى القاهرة، يحاول التغلب على الرتابة بالقراءة، منذ أن تعلم من الشيخ مصطفى إمساك الكتاب بإصبعين ورفعه ليحاذى النظر، فى العمارة هنا خصص الطابق الأول للرياضة والتأمل والتلاقى، قسم فسيح تنتظم فيه آلات التريض من المشى إلى رفع الأثقال، اعتاد النزول مبكراً ليمشى فوق الماكينة المزودة بجهاز تليفزيون صغير متصل بمحطات معينة، واحدة يعرفها، الخاصة بالمدينة، يعرف أخباراً لا حصر لها، درجات الحرارة، الأمطار أو الثلوج المتوقعة، عروض التسوق، المطاعم، المقاهى، الصحف، غير أنه يعتبر التريض هنا وهمياً، يمشى ولا يمشى، فى القاهرة يعوقه زحام الطرق، هنا الأرصفة عريضة، المارة أقل، أحياناً يبدأ فلا يرى على امتداد البصر عابراً واحداً، حتى ناصية بدفورد وظهور محل الجبن مرحلة يليها المكتبة، ثم محطة القطار، عندها ينثنى عائداً، مخزن الأغذية والبار الفرنسى ثم الإيطالى حيث المدبرة باستدارتها، آخر ما يتوقف أمامه محل النبيذ الذى افتتح عند قدومه رغم أنه لم يعد يقبل، حتى لو لقى رفقة فلا يجد البهجة المصاحبة، لانتظامه اليومى تعرف على الحركة وأطيافها، النشاط الصباحى الملازم للذهاب والمسائى عند العودة، القياس بالطبع إلى البيوت، ما بين العاشرة صباحاً والخامسة بعد الظهر خواء، فراغ، هدوء، يخرج بعض البولنديين القدامى ليجلسوا أمام البيوت محدقين إلى ما فات منهم وما بقى لهم، أعتنى بأصوات المكان، مروق العربات، أجراس الدراجات النادرة، موسيقى بعيدة دائماً، تتشابه الأيام عدا الآحاد والعطلات، تزدحم المقاهى بعد الحادية عشرة، يتناول معظمهم وجبة تجمع بين الإفطار والغداء، يتزاحم الجمال الأنثوى، يغص الفراغ بتنوعه، لن ينسى قط تلك الآسيوية المضيئة بجسدها كله، طاقة خفية تنبعث من جلدها، نفس الدرجة، تسعى كأنها القادمة من كوكب آخر، أما الأفريقية المشوب سوادها الغميق بالأحمر القانى فبعثت عنده رعدة، تماما كما جرى له تطلع وشبوب عندما رأى نافورة الأنوثة المندلعة قرب بائع الكتب المتحدث بالعربية، متوالية من شتى اتجاهات الجمال توقد رغبته وشبوبه، لكن لا يصدر عنه نزوع، فقط نظر، تطلع.. صباح أحد غص المقهى الواقع عند الناصية بالزبائن، ألحت عليه السيدتان عندما رأى شاباً وشاباً يتواجهان عبر منضدة صغيرة، يتعانقان بالبصر، الأنحف هش ليس بتكوينه الجسدى، إنما بخنوعه البادى، وجلسته الراغبة فى الاحتواء، انحناءة ظهره المبالغ فيها، تطلعه إلى رفيقه عريض الصدر، خشن الواجهة، يمد يده ليلمس الوجنة أو أعلى الذراع، بينما يتطلع الآخر ممتناً، مستسلماً، تابعاً برضى سيال، باثاً نعومته إلى ما حوله، متأهباً دائماً للاختراق، مهيأ.. الآحاد مزدحمة، البعض يجىء من مسافات قصية، خاصة ليلاً، يقصدون صالات الموسيقى، الرقص، أثناء مروره أمام إحداها لمح جمعاً واقفاً، كلهم يصغون يتطلعون إلى فرقة من أربعة يعتلون مسرحاً صغيراً غير أنه لم يسمع الأنغام، زجاج عازل لما يجرى فى الداخل أو الخارج، فى الشارع الموازى بجوار مكتب البريد لمح صفوفاً منتظمة من فتيات وفتيان، يرتدون ملابس تشبه المايوهات، يتخذون أوضاع اليوجا، رغم أنه لم ير إلا مقدار رفع الستارة المسدلة إلا أن ملامح إحداهن انطبعت فى ذهنه، كلما استعادها تسفر جلية، بينما ينسى ممرضات وطبيبات أخريات تعامل معهن ومعهم مباشرة، تحيره قوانين الذاكرة الخفية، أما البنية السردينية فتواتيه من شتى الجهات، مرة مقبلة، أخرى مدبرة، عائلة إيطالية تدير المطعم والبار، شقيقان، شاب وفتاة ناضجة وأم تقف خلف البار، هناك فى الداخل البنية من مقام الراست، هذا ما تسلمه صادراً عنها، إنه مقام رحب، يتسع لمعان شتى يبث راحة ويمكن المستمع من الرفرفة، صدرها مواز لردفيها الذى ينبع منهما وادٍ رحب مؤدٍ إلى عنقها الفاره، السرح، نفرتيتى التكوين، موسيقى الدفعة. تحاور معها، جرى ذلك عصراً عندما جاء ليشرب كأساً من نبيذ أحمر لا يوجد إلا هناك فى الجزيرة، مع الرشفة الأولى احتفظ بالسائل دافعاً به إلى زوايا فمه متذوقاً على مهل، كأس واحد لا غير منه فائدة للشرايين، خلال أسفاره ما قبل الجراحتين كان يحتسى زجاجة كاملة، يرقب حاله، مجرد نشوة رهيفة تدفعه إلى معانقة الوجود، الآن يقبل على عينة، فى معظم الأحوال لا يتقنها، يقعد آخر الممر حتى يرى الطريق والعابرين، مجاوراً للنافذة التى تكشف مساحة الغرفة الخاصة بالبار، مناضد عتيقة، زجاجات راقدة، ثمة إيحاء بالبحر ربما لوجود شباك صيد معلقة إلى السقف، مشابه لبارات الموانئ، لم يتعرف على العديد منها فلم يركب البحر إلا نادراً، ثمة أماكن لم يبلغها لم يعاينها، غير أنه يحتفظ بها وكأنه أمضى فيها وقتاً، محصلة قراءات ورؤى وتوق ورغبات لم تتحقق فى الواقع، بقيت فى الخيال، أدركها بالبصيرة وليس بالبصر، يقعد فى البار ولا يمكث، لا يمد الحوار مع أحد، معظم المناضد يُجلس إليها اثنين، اثنين، يتابع الجميع بالنظر، خاصة الصبية، عند إقدامها وإدبارها، مرة وحيدة جرى بينهما حوار، ظلت واقفة، فوجئ بمعرفتها بمصر، زيارتها أماكن متفرقة، خاصة أبيدوس، التقى معها فى الانبهار بالمعبد، كانت تعرف تفاصيله، قالت إنها ربما جاءت فى الخريف المقبل، ينظر إليها أثناء إيقادها الشموع، تبدو فى حركتها منغمة، مرتبة، فيما بعد سيحاول النظر إلى ملامحها عبر الذاكرة، غير أنه لا يدركها إلا فى مجملها. يدفع بنفسه نشطاً، قادراً، الصمامات جديدة، غير أنها حلت على قلب عليل، فجأة يدركه دوار، خلال المكوث والمشى عرف أنواعاً من الدوار، منه المباغت المنبعث من داخله، سرعان ما يختفى، آخر يستمر فترة كأنه لن ينتهى، يضطر إلى التوقف حتى يتلاشى، ثالث يدفعه، مرة إلى اليمين ومرة ذات الشمال، يواتيه دائماً صوت الشابة التى اقتربت منه ولمسته عند خروجه من الشرافة واضطراره الاتكاء على الجدار المؤقت المحيط ببناية لم تكتمل بعد، قالت ملهوفة: هل كل شىء على ما يرام؟ ثم قالت: هل يمكننى مساعدتك؟ مرة فى باريس لم يركب التاكسى كعادته، وصل بعد رحلة ليلية مع مطلع الشمس، ركب القطار الذى يصل مباشرة إلى محطة سان ميشيل قلب الحى اللاتينى حيث يقيم دائماً فى فندق صاحبه التونسى، معه حقيبة متوسطة إلا أنها ثقيلة لامتلائها بكتب، مع سفر الليل والطيران، وانتفاء قدرته على النوم داهمه إرهاق وتلاحق نبض، اضطر إلى التوقف أثناء صعوده الدرج، اقتربت منه تلميذة، ربما فى الثانوى، هذا ما توحى به ملابسها والكتب التى تحتضنها، ربما فى الجامعة، قالت برقة ناعمة: هل يمكننى مساعدتك؟ أشارت إلى الحقيبة، أصرت على حملها حتى الخروج إلى الشارع، لحق بها ممتناً، وعند هذه الساحة من الأرض أدرك لأول مرة أنه كهل، وأنه متعب، وأنه لا بد من الحيطة والحذر، إن البنيان يتضعضع. فى الحديقة الممتدة عند الطرف الأيمن لويليامز برج قعد فوق دكة، بالقرب يقام السوق الأسبوعى، يجىء الفلاحون والصيادون يعرضون ما لديهم، كل شىء موجود، حتى الوجبات الساخنة المعدة للتو، لتردده المنتظم عرف بعضهم، يتبادل التحية فقط، يجد صعوبة فى فهم اللغة، يوجز أو يعبر بالإشارة، بعد حصوله على ما يرغب ينتحى ركناً، لا يمكنه شراء ما يريد لمحدودية الوزن الذى يجب أن يحمله لمدة ستة شهور يجب ألا يزيد على سبعة كيلو جرامات، إنه الشق الثانى لقفصه الصدرى، يطيل النظر إلى الحشائش الخضراء، سليلة أخرى داسها أبناء قبيلة الشيروكى قبل مجىء المهاجرين الأوروبيين الأوائل. تتوالى الأقدام، هبات الرياح، المرض يعيد الحقائق إلى أصولها، يوشك على ملامسة جوهر الحياة، يرتد الإنسان إلى طفولته، ينثنى إلى المطالع، إلى الحقائق الأولى، ربما يفسر ذلك بعض الحدة فى رؤاه بعد الجراحة الأولى، ما أكثر صخبه عبر الأربعة عشر عاماً الماضية، غير أنه الآن يفيض بالسكينة، الرغبة فى الصمت، الابتعاد، الكف عن الحوار، النظر من بعيد، فقط النظر، يستدعى ذلك ذات العينين التى رآها فى الكويت، عند خروجه من حفل موسيقى فوجئ بها، بدوية فارهة، ترتدى الثوب المسدل، وغطاء الوجه والرأس، لا يظهر منها إلا العينان، ياه.. يستعيدهما فيسرى عنده سمو ودفء، كل فيضها تلخص فى النظر عبر الحدقتين الجميلتين البارعتين، طاقتان على الحواف، الآفاق، ما كان بينهما وبعدهما، فقط نظر، نظر، عند ذكرهما يرفع رأسه، يتطلع إلى الفراغ، ياه.. أين جوردون؟ صاحب مقدونى يعيش فى باريس، يسكن شارع موفتار، إلى جوار البيت الذى أقام به همنجواى، يفيض بالحضور خاصة فوق خشبة المسرح، عرف به وجاء بفرقته إلى القاهرة، عرض على مسرح الجمهورية، موسيقى من الألوان، عندما عاد إلى باريس قابله صدفة فى نفس الشارع، أصبح سفيراً لبلاده، عندما لمحه قطع المسافة جرياً، ركع على ركبته راسماً علامة الصليب على صدره ثم انحنى على يده ليقبلها، كيف تعرف إليه؟ لا يدرى، لماذا انقطع عنه؟ لا يدرى. أغرب ترحيب قوبل به، اللقاءات دائماً تؤثر، تدع وتأخذ، فى ذلك الفجر من أبريل العام الماضى رأى زوجته فى أرشق حالاتها، بعد أن ارتدت سترة الدخول إلى غرفة العمليات، لم تكن المسألة إلا قطع الوقت المتبقى، استدعيت، كانوا يشرحون لها فى غرفة مغلقة ما سيجرى، عندما تأخرت دخل إلى الممر حذراً، فوجئ بها تدفع باباً، عندما انتبهت إلى تطلعه، إلى حضوره، إلى فضوله، إلى تركيزه الذى نفذ إليه التفتت باسمة، رهيفة، تمشى على أطراف أصابعها، كأنها موشكة على رقصة كونية. تلوح بيدها، تقول إنها ذاهبة، ملبية، يلوح، لا يمكنه الاجتياز، عاد، متمهلاً إلى غرفة الانتظار، ابنه، ابنته، زوج ابنته، صديقة مع أمها، متخصصة فى الحاسب الآلى، تقترب من الأربعين، جميلة بهدوء، فارعة، غير أنها مرعوبة من اكتمال طور العنوسة، يذكر صاحبة له، تجسيد لحنان الأنثى، وعنايتها بمن ترغب، امتد بينهما الصفو فى صالة الفندق القاهرى القديم، قالت له: لا نعرف ولن نعرف معنى اقتراب المرأة من الخمسين، أنا الآن فى السادسة والأربعين، تريد طفلاً، بعد شهرين أرسلت إليه خطاباً قصيراً تطلب منه ألا يتصل بها، ألا يكتب لها، أدرك أنها تريد القطيعة التامة لتبدأ حياة لعل وعسى، احترم ذلك، كف تماماً، جاء زميل لابنه مع عروسه الشابة، متزوج منذ شهر، لم يكف عن تقبيلها والتمليس على كتفها العارية، ثوبها قصير يكشف عن فخذيها، لا تكف عن الحركة ومحاولة شد التنورة، راح يتطلع من النافذة، تطل على فناء مدرسة خال تماماً، مبنى مرتفع، قال زوج ابنته إنه يضم جامعة روكفلر للأبحاث العلمية، يلتحق بها المتخصصون، يتقاضون راتباً ويستقرون فى مسكن مناسب، يتفرغون تماماً للبحث والدرس، تأمل اللافتة الصغيرة النحاسية، الصالون مهدى من أب وأم لذكرى ابنتهما، ما زال يذكر اسمها «جيد» نسى الأب والأم، تروح الابنة وتجىء رغم أنه لم يرها، لا يعرفها، فقط مجرد اسم، فى مثل هذه المواقيت يفضل الانفراد، يرهقه الوجود وسط جمع خاصة إذا كان يرى معظمهم أول مرة، يتجه بصره إلى الفناء الخالى، إلى الملعب، لون الأرضية الرملية الحمراء، غير أن الأم بدأت تتجه إليه، تسأل عن أمور لا صلة لها بما يمر به الآن، تقوم بواجب إخراجه من عزلته، يتطلع إلى ابنته، يتفاهمان بالصمت، يقدر ممتناً دافع الأم لكنه يتمنى صمتها، فى الطابق الثانى عشر استقرت يومين، كان يقضى اليوم كله فى الطابق، ابنته إلى جوار أمها، تقوم بكل شىء، تعرف كافة التفاصيل، ما يلزم وما لا يلزم، فى نهاية الممر غرفة زجاجية الجدار، يرى من خلالها مبانى نيويوركية مرتفعة، نوافذ متجاورة، متساوية، مدينة من خطوط أفقية ورأسية، لا يظهر أحد، لا يبدو بشر، كل النوافذ مغلقة، تماماً مثل هذا الجدار الذى يمكن النظر منه، ولا يمكن الرؤية من خارجه، للضوء فى هذه الغرفة بالتحديد انسيال، بعد لحظات يبدأ فى الاتجاه نحو النعاس، يدركه غفو، لا يستيقظ إلا على دخول بعض العاملين، يتناولون الطعام السريع، لا يومئون إليه، تحدث إلى ابنه عن خاصية الغرفة، ذلك السريان نحو النوم، أهى الألوان، مشتقة كلها من البنى بدرجاته، أو ثمة شىء آخر، أكد ابنه ما ذكره، قال إنه يغفو بمجرد دخوله وجلوسه فتعجب من ذلك، جرى هذا فى أبريل ولم يكن يدرى أنها بعد أربعة شهور، بالضبط بدءاً من الثامن عشر من أغسطس ستمكث منتظرة فى استراحة الأقارب، اثنتى عشرة ساعة كاملة حتى انتهاء الجراحة الكبرى فى قلبه، جراحتها هى استغرقت ثلاث ساعات، اكتمال إفاقتها احتاج إلى ساعتين، إقامتها ثلاث، دخلت الخميس وخرجت الأحد ظهراً، يوم أحد بامتياز، بعد أن صعد الابن بالحقيبتين، شرعا فى المشى عبر الشارع الممتد، لم تعد ترتدى الشعر المستعار، تواجه الدنيا بحالتها، بما داهمها، لا تخفى ولا تموه، حول معصمها سواء أحمر واجهت صعوبة فى نزعه، حاذى الجانب الأيسر، ما زال جرح الاستئصال طرياً، خشى من اصطدام أحدهم بها، عند مرورنا أمام كنيسة صغيرة متوارية، لا أعرف أى مذهب، ما أكثرها هنا، رجال، سيدات، أطفال، يبرز رجل متوسط العمر والقامة، يرتدى بنطلون قطيفة، وسترة من صوف، يميل تجاهها قائلاً: «الرب يرعاك.. ». أومأت شاكرة وتطلع إليها متأثراً، لن تغرب عن ملامحه، ولسوف يستعيد طلته وتطلعه إليهم مراراً، ستواتيه فى لحظات وأماكن لا يتوقع فيها مثل هذه الهواجم، ومن ذلك أيضاً عند الحلاقة، بعد انقضاء شهر على مكثه وتجواله اليومى أراد تقصير شعره وتسويته، قصد دكان حلاقة فى نهاية شارع بدفورد، سيدة آسيوية العينين، أسلم لها شعره، كانت تحيط خصلة بأصابعها، تمدها قبل أن تقصها، بعد شهر عاد إليها، لن ينسى تهللها وترحيبها الصمت، قالت مشيرة إلى المقعد: «أصبحت زبونى.. ». اختلف أداؤها، تتمهل أكثر، تتوقف لتتأمل، تتراجع إلى الوراء، تبتسم فى المرآة، عندما تأهب قالت: «أنتظرك مرة أخرى». لم يلفظ الإجابة، إنه راجع إلى وطنه بعد أسبوع، ولا يعرف إن كان سيعود أم لا؟ أما نظرة الطفل فتطالعه أينما ولى، لها عنده صدى وترجيع. يعرف الجيران بعضهم بعضاً حتى وإن لم يتواصلوا مباشرة، لا يذكر ولا يدرى كيف علم أن الجار الذى يسكن الشقة المواجهة عنده أصول مصرية، جدته جاءت مهاجرة، أمه ولدت هنا لكنها تتردد على مصر باستمرار، كل سنة تقريباً، صحبته معها مرات، يعرف من العربية كلمات، عندما صافحه فى الممر وأخبره بما تيسر، فكر: سيقول الحفيد يوماً إن أصله مصرى، أمه جاءت بعد أن تزوجت وإن جده لأمه كان كاتباً معروفاً، وإنه جاء إلى البلاد مرات أجرى خلالها جراحتين خطيرتين فى القلب، بدا الجار لطيفاً. زوجته آسيوية الملامح، طفلهما لم يمض عليه إلا شهر على أقصى تقدير، رآه عند وصوله قبل سفره إلى كليفلاند، يرقد فى عربة صغيرة، لا يبدو إلا وجهه، دائماً نائم، العينان مغمضتان، لا يزال أثر الرحم وزنقة الحيز بادياً، سافر وغاب أكثر من شهر، بعد أسابيع قابل الأب يدفع العربة، ميعاد يومى للخروج حتى فى ذروة البرد ونزول الثلج، رآه قاعداً فى العربة، متطلعاً، رائياً، متلفتاً أحياناً، بعد يومين شاهده مع أمه، مرة مع الأب، مرة مع الأم، فى الممر، فى المصعد، عند مدخل العمارة، على الشرافة، فى كل مرة يلاحظ اشتداد تطلعه وظهور دهشة أو فضول، قبل عودته بأسبوع، كان قد أتم الشهر الرابع أو ما يقاربه، جلوسه فى العربة أكثر استقامة، لأول مرة تتشابك نظراتهما، يتطلع مباشرة إليه، يقصده لكنه يتجاوزه إلى ما وراءه، محاولاً إدراك ما يراه، ما لم يعرفه بعد، نظرات فيها إقبال وحذر معاً، فيها سؤال يلى السؤال وما من إجابة. عند استعادته فى الذاكرة، يتذكر اللحيظات التى سبقت دخوله الهو، ميل السيدة التى لا يدرى الآن هل وقفت إلى جواره حقيقة أم أنه توهمها، لم تكن طبيبة، ولم تكن مريضة، وسط، لم تفعل شيئاً إلا الحنو عليه، وترديد مما علق عنده، قولها إن ما هو مقدم عليه مخيف، هذا حقيقى، لكن الاضطرار قائم لأنه لا يوجد غيره، كان يصغى إليها متجاوزاً كافة الموجودات من أجهزة تنفس صناعى وتنقية دم، وآلات جراحة، إلى ما وراء هذا كله، يثق الآن من تشابه نظرته وقتئذ بما رآه فى عينى وملامح ابن الشهور الأربعة والأيام المعدودات. أقمارى.. صاحب المكمل أفرد لى محمد مكانه، تماماً كما أقدم من قبل فى مقره القديم، هيأ ودبر ورتب وأتى بما اعتدت عليه فى إفطارى، الزبادى وإلى جواره عسل النحل، تأكد من صحة المدار، وعلامات المسار، وكل ما يتصل بأمر. مسكنه الجديد أفسح، متلق للضوء من كافة الجهات، متصل بالسماء الدانية، حتى أننى فيما بعد اعتدت الاستلقاء على الأريكة ما بين العصر والمغرب، أتجه بالبصر إلى أعلى، حيث لا جدار ولا سقف ولا أى مكون، منى إلىّ، لماذا تبدو السماء زرقاء؟ لماذا يبدو البحر أزرق؟ أبتهج لأن الاستفسارات الأولى لا تزال تتردد لكنها بلا أجوبة، أطوف وأمعن حتى أصبح جزءاً من نثار الغمام الذى سرعان ما ينقضى، هكذا حالى عند الدنو من شفا، من حد سيبلغه كل سعى، لكن عندما تقع المقاربة يبدو منفرداً كأنه لا يخص إلا ذلك المفرد، حقاً.. لا يولد واحد مع آخر ولا يخرج من بوابة الأبدية إلا شاخص ممعن لا غير.. مفرد. جدران من زجاج، نوافذ تفتح بمقدار، ستائر لم تسدل بعد، البيت المقابل بعيد، الشارع عريض، البناية التى تقع بها الإقامة فى الطابق الثامن، حد ليس مرتفعاً بالنسبة لعمارة تتكون من ثلاثين طابقاً، مرة واحدة وقفت عند المطل المعد للسكان كافة، منه يمكن احتواء السماء والنهر المتجه إلى المحيط، القادم منه أيضاً، النهر الشرقى يمضى منه وإليه، منبعه مصبه، وما بين ضفتيه تنقلت وأمضيت! الحلقات السابقة: الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [10] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [9] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [8] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [7] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [6] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [5] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [4] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [3] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [2] الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [1]