الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [1]

كتب: جمال الغيطاني

الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [1]

الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [1]

منذ عامين، مر الأديب جمال الغيطانى بأخطر لحظات واجهته فى حياته، رغم أنه عرف الأخطار كثيراً زمن الحرب، وفى ظروف أخرى، غير أن الفرق كبير بين خطر يأتى من الخارج، ومداهمة من الداخل، بدأت الأزمة على الهواء مباشرة فى برنامج تليفزيونى، وانتهت فى مستشفى كليفلاند. ذلك الوقوف قرب نقطة العبور إلى الأبدية، وعندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطانى محظوظاً، عبر إلى هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤى لتصنيف صفحات جديدة إلى كتاب الألم الإنسانى. توقيع الثالثة والنصف بعد الظهر الساعات الجدارية أينما ولى البصر، كذلك شاشات التليفزيون المسطحة المعلقة فى قاعات الانتظار، بإمكان كل جالس الرؤية والمتابعة أياً كان موضعه، الأبيض غالباً، كل الجدران، المقاعد بنى غامق، داكن، المكاتب أمام المداخل المؤدية إلى مكاتب الأطباء، حجرات الفحص، الأجهزة الكاشفة، إلى غرف العمليات حيث المقصد الأخير والرسو النهائى، كلما جرى الاقتراب منها، هناك فى الداخل يتصاعد حضور الأزرق بكافة درجاته، الأبيض والأزرق أساسيان، كل ما عدا ذلك استثناء أو إضافة، الواجهة زجاجية بالكامل، تتيح رؤية المبانى كلها، القديمة والحديثة، بعضها تمت إزالته، منها ذلك الذى أجرى فيه الجراحة الأولى، من هنا يمكن رؤية النافورة المائية المثيرة للدهشة، دائرة ضخمة، بناء مائى، يمتزج الحاجز الزجاجى بالماء، لا يمكن التفرقة بينهما، حركة دائمة تتغير فى أوقات معلومة لتجسد بالرمز والمحاكاة تدفق الماء فى الأنهار وعلى الصخور وفى المجارى الضيقة وفى المحيطات الكبرى الفسيحة موضع انشغاله وتأمله خاصة عند عبورها جواً، على مدى النظر تمتد حديقة مستطيلة يمكن اعتبارها تجريد التويلرى فى باريس، تفاصيل البناية اطلعت عليها من خلال فيلم بثته المحطة الداخلية والتى توجد فى الفندق والمستشفى، السؤال الكامن خلال مشاهدتى: أين سيكون فى هذا كله؟[Image_2] تتخذ الأماكن التى تقترن بها اللحظات الحاسمة، الفاصلة، أوضاعاً خاصة، استثنائية فى الذاكرة، يحاول استيعاب أقصى ما يمكن من التفاصيل، حضور اللون الأبيض يدثر اللحظات المتتالية، تبدو البزوغات من خلاله استثنائية، المقاعد، المكاتب، أجهزة الحواسب المنتشرة فى الزوايا والأركان، كذلك زجاجات تنظيف الأيدى، معلقة إلى حوامل أنيقة وعبارات تحض على التطهر قبل الدخول وبعد المغادرة، الانتظار، يوم طويل من قاعة إلى أخرى حتى الرسو فى هذه الصالة الفسيحة التى تتبع فى مسارها انحناءة الواجهة أو تسهم فى تشكيلها، بعد حوارات متبادلة، لزمت زوجته الصمت، كذلك المرافق الذى كان يلبى نداء الجهاز الصغير المعلق إلى حزام بنطلونه «البيجر»، كل يحدق إلى نقطة ما، عندها تتركز الصور وتتفرق الخواطر والأفكار المستدعاة أو الطارئة أو تلك التى تفسر أمراً. فى الرابعة والنصف، قامت السيدة الزنجية مرتدية البياض، اتجهت إليهم مباشرة، أشارت، قال المرافق إن ذلك يعنى انتقالهم إلى الداخل، من الصالة إلى الممر، إلى المكتب، خال من شاغله الدكتور جوزيف سيبيك، فيما بعد استدعى الاسم مرات، قال ابنه إذ لاحظ انشغاله بالحزام إنه ربما كان أصله شرقياً، ربما سيبيك مشتقة من سابق، رغم أهمية الطبيب المعالج -كارديولجى- فإن انشغاله تركز على من سيجرى العملية، تماماً كما جرى أول مرة، الدكتور ريموند الذى يتولى الإشراف الطبى اتفق مع الدكتور شوارتز فى نيويورك على إرجاء تبديل الصمامين لما بعد ثلاثة أعوام أو أربعة، انسداد الشرايين يستدعى التدخل الفورى، الطبيب المعالج فى مصر يرى ضرورة الجراحتين معاً، صحيح أنها عملية كبرى، لكن هذا أفضل من الانتظار لمدة ثلاثة أو أربعة أعوام، ليس لأن أحوال الصمامين آخذة فى التدهور فقط ولكن ربما تطرأ ظروف تؤثر على الحالة العامة بما يحول دون الإجراء، وإذا كان سيتم شق الصدر هذه المرة فلتكن مرة واحدة، ثمة سبب أفضى به إلى طبيبه فى مصر، إن السفر مكلف، وهذه المرة تيسر تدبير التكاليف، جرى الأمر بسهولة، فى الحين المتوقع ربما تعسر الظروف، إنه لا يخاف ولكنه متهيب، خاصة كلما سمع اسم الأورطى، الصمام الذى لم يتوقع خللاً به، كلاً منهما فى أهمية الآخر، لكن الأورطى أودى بحياة صاحب حميم له لم يقصد إلا تغييره، لم يكن هناك شرايين ولا صمام آخر، غير أنه أغمض عينيه إلى الأبد تاركاً وصية ألا يوضع على ماكينة لبث حياة غير حقيقية، أثناء الخطر تمنى ألا يقترب الجراح من الأورطى، إنه يقول بإمكانية الاستمرار به، يجلس على مقعد مجاور لآخر، مواجهة لدكة تتسع لاثنين، إليها اتجه عندما دخل الغرفة بهدوء مرتدياً معطفاً أبيض فوق الحلة الخفيفة زرقاء اللون المخصصة للعمليات، حذاء عادى، تصافحا، أومأ للزوجة التى لاحت مستنفرة متطلعة، المرافق معتاد ذلك، طلب منه ترجمة دقيقة لما سيقوله. كل ما قيل تمهيداً لن يذكره فيما بعد، إنما الماثل عنده، ما يستعيده باستمرار، الوضع الذى اتخذه عندما نطق بقراره، كان هادئاً، حاسماً، ناظراً إليه مباشرة، لا يحيد، قال إن الوضع يقتضى إجراء جراحة لتبديل الصمامين، الأورطى والميترالى. تمهل قليلاً: طبعاً والشرايين الثلاثة.. يكتمل حياده رغم ما فوجئ به عند سماعه «الأورطى»، كان يتمنى أن ينطق بالميترالى لا غير، يخيفه الأورطى، رغم أهمية كليهما، ربما بسبب رحيل صاحبه منذ عام واحد فقط، عندما همت زوجته بقول شىء ما أشار ملتمساً صمتها، لديه أسئلة يريد إجابات دقيقة عليها قبل أن يوافق، يعرف من تجربته السابقة أن التوقيع ضرورى لبدء الخطوات النهائية يجهل الصيغة، ويذكر توقيعه على عدة إقرارات، لا يعرف ما سيجرى، هل سيُتلى عليه نص ما، أو سيقدم إليه ما يقرؤه، أم سيكون التوقيع إلكترونياً؟ لماذا ينشغل بتلك التفاصيل؟ فليبدأ استفساراته، ليحاول ألا ينسى شيئاً مما يشغله. ما نسبة المخاطرة؟ يقول إنها من واحد إلى اثنين فى المائة. هل أجرى مثلها من قبل؟ نعم.. الوقت الذى سوف تستغرقه؟ يقول متأنياً محركاً يده دقيقة التكوين: من سبع إلى تسع ساعات. رغم أنه يعرف، فإنه استفسر عن نوعية الصمامين؟ من أنسجة الحيوانات. لم يسأل عن نوع الحيوان، قرأ عن ذلك، رأى فيلماً تسجيلياً عن الخنازير. ما مدة الصلاحية؟ قال: إن الجيل الرابع الذى سيتم استخدامه يستمر من عشر إلى اثنتى عشرة سنة يتوقف كل شىء على الظروف. المدة صارت شاغله، قبل وبعد، كيف ستكون الأحوال عند الجسد؟ يسمع الآن الرقم بدهشة، تبدو المدة طويلة لكنها سرعان ما تولى، بإمعانه فيما مر يلاحظ أن إيقاع الحقب التالية للأربعين أسرع، بدهشة يذكر بلوغه الستين، انطلاقه نحو الخامسة والستين فى مايو الماضى، ها هو يمضى عبر السادسة والستين سرعان ما تمضى الأعوام، يدفع بعضها بعضاً، ثمة ما يسرع بمرور الوقت، بإيقاعه، أهو انشغاله بالعديد من الأمور، أم أنها طبيعة الوقت؟ هل يتغير إيقاع الزمن؟ غريب أنه ينشغل بما سيكون بعد عشر سنوات أكثر مما سيجرى غداً كأنه ضامن عبور المخاطرة. متجاوز للظرف الدقيق. يتطلع إلى زوجته، يقول بالعربية إنه لا مفر، تنطلق بدعاء ما، الطبيب يلامس مقدمة ركبته بيديه. إننى مستعد للجراحة. على مهل يخرج الورقة المطوية من جيب المعطف، أربع صفحات متصلة، كل اثنتين متقابلتان، لم يتوقف عند السطور، العناوين الفرعية المكتوبة بحبر ثقيل، يتجاوز التفاصيل إلى خانتى التوقيعين، عقد مطبوع، المواد متوالية، لم يسأل عما إذا كان له حق مراجعة بعضها، صيغة متصلة مترابطة، لا بد من موافقة فى مجملها، أشبه باتفاق، معاهدة، أو عهد، حتى الآن لا يعرف ما تحويه المضامين، إنه مدفوع بطاقة خفية، لا يعنيه الوقوف على التفاصيل، السؤال عن جدوى هذا التعهد أو ذاك؟ ما عنده استفسر عنه، لم يتبق إلا التأهب، غداً سيكون قلبه بين هاتين اليدين، تقلبه تلك الأصابع، لأول مرة يُقص جزء من صميمه، يفارقه إلى غير عودة، سطور متوالية، الجرّاح سيوقع بعده.. عمليات قال الطبيب المرافق له منذ الصباح الباكر: «أخيراً. غرفة العمليات». ثم قال إنه السرير الذى ستجرى فوقه العملية، عند المدخل يقف الدكتور ستارز كبير أطباء التخدير، إنه من يجلس الآن مكان الدكتور فوزى المصرى، من قام بتخديره منذ أربعة عشر عاماً، ستارز هادئ، واثق، يعمل على مهل، ثمة توصيلات تتم من خلال الساقين، كان الدكتور فوزى مرتاحاً أمس بعد لقاء الدكتور ستارز نائبه سابقاً، قال إن الثنائى ستارز وسيبيك الجراح مما يطمئن، الترتيب الوحيد الذى اختلف أنه بدلاً من دخوله صباحاً تأجل إلى الواحدة تقريباً، قال المرافق إن الحالة التى أعطيت الأولوية ربما كانت حرجة لا تحتمل التأجيل، أحياناً ينقل المرضى بالمروحيات إلى المطار الموجود أعلى المبنى، لا يعرف مصدر هذا الهدوء، هل حقنوه بشىء ما يسبغ عليه تلك الحيادية، توالت على ذراعه الحقن، لكنهم لم يناولوه قرصاً مثل المرة السابقة، بل إن حلاقة شعر الصدر لم تتم بعد، يبدو أنهم سيقومون بها بعد دخوله السبات، يتطلع إلى ما يبصره مستفسراً، تماماً مثل طفل يرى العالم لأول مرة، كل ما يطالعه يمت إليه، يتصل به، بشأنه، الجدران، الآلات الدقيقة، تلك المصابيح الواهنة، الأزرق، الممرات المؤدية، كل شىء تغير، المبانى، المعدات، البشر، إنه يرقب ما يجرى له كأن كل ما يتم يخص غيره، هذا التأنى، ذلك الصمت الداخلى، هل بتأثير تكوين جبل عليه، تفزعه على البعد المواقف المترقبة، المتوقعة، حتى إذا دنا منها صار متمهلاً، غير عابئ، أقرب إلى كينونة المراقب، المتابع، منه إلى حال المتورط، المستهدف، منذ حوالى نصف القرن أحدق به خطر الاعتقال لعدة شهور تأصل لديه التوجس، لازمه الترقب، كل ملمح مريب، أى صوت نذير، إلى أن حلت اللحظة التى تخيلها، تجسدت له مرات، باعث على التوجس، مصدر للحذر، نذير بالتوارى، كالمتبع فى تلك الحقبة طرق الباب فجراً مما أثار الفزعة، أورث هذا ندبة لم تندمل عند شقيقه الأصغر سناً، رحل قبل عام من انبثاق الأزمة التى جاءت به إلى هنا، لكنْ لهذا حديث يطول من الأفضل أن يظل فى سياقه. اقتحم الضابط الشقة الضيقة يتبعه ثلاثة من الشرطة السرية، ثلاثة بملابس مدنية، مخبرين، تبدو كلمة «انتشار»، ذات فصام بالقياس إلى ضيق الحيز وكثرة عددهم، مع اجتيازهم الباب بدأ حلول الحالة التى سيعرفها فيما تلى ذلك مراراً، كأن الأمر يخص غيره، رغم أن المقصود والمعنى عند انتقاله من معتقل الإقامة إلى معتقل التحقيق مثقلاً بتفاصيل ما سمعه عن الضرب الوحشى القاسى والصعق بالكهرباء والتغطيس فى الماء وما لم يلم به عند انتقاله مكبلاً، عرف الحالة عند دخوله الزنزانة الانفرادية وتحوله إلى رقم، إلى سبعة وثلاثين، ممنوع تماماً من الكلام حتى بمفرده والويل لو فكر فى مخاطبة من يقيم فى الزنزانة المواجهة أو المجاورة والذين بدأت حواسه تعرفهم وتميز كلاً منهم، يفارقه توقعه للانفرادى، تحل خشيته من التحقيق، اللحظة التى يقتحمون فيها الزنزانة، يعصبون عينيه، تنهال عليه العصى النحيلة والغليظة، هكذا سمع ممن سبقوه، إلى أن يمثل أمام المستجوب منهكاً، مستوياً، ما يخشاه فى وحدته حلول اللحظة التى تحل خلالها الضربات المتنوعة، باستمرار ثمة حالة يخشاها، حتى إذا حلت تتوارى لتلوح أخرى، كأن قدره ألا يهدأ، عندما حل زمن الحرب، وعمل فى الجبهة كان عند شروعه فى السفر محقاً إذا وصف نفسه بالرعددة، بالجبن، طوال الطريق يتطلع من نافذة العربة قلقاً، عسر الملامح، حتى إذا دخل منطقة العمليات، مدى النيران، تخف خشيته إلى حد التلاشى ليبدأ الحذر من القصف ذاته، حتى إذا بدأ يسكن عنده كل حذر ويتوارى، يحل توجسه عندما ينتهى الخطر ويستعيد ما جرى. «ياه. ماذا لو انفجرت القنبلة مباشرة وليس على بعد خطوات»؟ ماذا لو بدلت الموضع؟ يلازمه ذلك طويلاً، باستمرار ثمة حال مؤجل، أو مستعاد بعد تجاوز، مع تمدده فوق السرير النقال، بدء التجهيز تلوح تلك الحيادية، كأن ما يجرى لا يخصه، المعنى شخص آخر عنده، الأيام السابقة مر باختبارات عديدة، اعتاد السؤال الأول: تاريخ الميلاد؟ يجيب بتلقائية ذاكراً الأرقام، غير أن النطق بها اكتسب بعداً غامضاً لم يستطع فهمه أو تفسيره، حتى الرابعة بعد ظهر أمس لم يكن يعرف القرار النهائى للجراح، بالتأكيد أقلقه هذا رغم أن جميع الخطوات المتوقعة والتى مر ببعضها منذ أربعة عشر عاماً تمت، مثل شرح ما سيجرى عموماً، ثم التنبيهات الضرورية، الامتناع عن الطعام بعد الغروب، الصيام تماماً عن شرب الماء منذ الشروع فى النوم، النوم؟ يتمنى أن يواتيه بسهولة كما جرى أول مرة، أمس تسلمه سائلاً فى زجاجة مع توصية مشددة من الممرضة بدلك الجلد جيداً، خاصة المناطق البعيدة عن متناول اليد، طوال إصغائه إلى التفاصيل، بعضها يوضح والآخر يوصى لم يختف انشغاله بالعمليات، هنا فى المبنى المكون من ثمانية طوابق ضخمة، زجاجى الواجهة، أخضر اللون، تستقر فى مكان ما ست عشرة حجرة لعمليات القلب المفتوح، مزودة بأحدث ما توصل إليه العلم، بعض الأجهزة لا توجد إلا هنا، لم يتلاش تركيزه حول الغرفة التى سيتمدد فيها بعد دخوله السبات، فيها يفتح صدره ويشق قلبه، يفارق مرقده الذى كان من المفروض أن يلزمه حتى يتفرق فى اللاوجود، لكن تشاء الظروف أن يفتح قفصه الصدرى مرتين، كذلك قلبه، عندما رأى صورة الأشعة الملونة حيث بدا اللون الأحمر بكافة درجاته وتكوينات الشرايين والأوردة، المسدود منها رمادى، والسالك أحمر قان، رأى ما يشبه الأزرار، آثار الجراحة الأولى، فيها ظل بكافة مكوناته، فقط تمت إعادة صياغة الصمام الميترالى، تكنيك كان جديداً فى وقته، هذه المرة سيستغرق مدة أطول، سيتم استبدال الصمامين الرئيسيين، الأورطى والميترالى وثلاثة شرايين، عملية ضخمة، جراحة معقدة لم يخف عنه أحد الخطورة المحتملة، وحادت حواسه عنه، كأنها تخص شخصاً آخر، سمعه وبصره وما يصل إليه من معان خفية خلال هذا كله يلوح ذلك التساؤل الغامض حول الغرفة التى سيشغلها لعدة ساعات مجدداً من حضوره من كل شىء، مستمداً احتمالية بقائه من معدات لن يتاح له الوقت لاستيعابها والوقوف على أشكالها. قبل سفره المرة الأولى، اتصل به ثلاثة من معارفه سبقوه إلى نفس المستشفى أحدهم زميلة تتقدمه عمراً، تعمل فى مؤسسة أخرى، مرت بالعملية وعادت قبله بشهر، وصفت بدقة ما سيقابله، كانت هادئة، مطمئنة، ما علق بذاكرته توصيتها أن يغطى جسمه ببطانية لأن الممر المؤدى إلى غرفة العمليات بارد جداً، يذكر الممرضة الجامايكية أفريقية الأصول، بدينة إلى حد ما، مكلفة بحلاقة شعر صدره، حدثته عن أسرتها، عن زوجها وطفليها، هادئة، ألوفة، عندما فرغت وبدأ الممرض يدفع السرير بعيداً عنها لوحت بيديها، قالت شيئاً مثل عنده ذلك المعنى الذى يتكرر مرات: عند النهايات يقدم لنا العون من لا نعرفهم، من لم نعايشهم، عند رحيل أمه فجأة، ظهر الجيران الذين لم يتبادل معهم إلا التحية، آخرون يجهل ملامحهم، تسابقوا فى تقديم العون، وعند الضحى جاء البعض بطعام وعرض آخرون الخدمة بينما تولى أبومحمد الضرير النقاش مع الحانوتى حول الأجر، فى المدخل المؤدى توقفت زوجته، هنا يجب المفارقة، غير مسموح بالتقدم، ثمة قاعة لانتظار المرافقين عندما ألتفت إليها، متملياً منها، تطلعت إلى السقف، إلى ملامح الطبيب المصرى الذى تعرفت به بتوصية من صاحب حميم فى مصر، جاء ملهوفاً محتجاً، هل من المعقول أن يعرف بالصدفة تقديم الموعد يوماً؟ أدركت أنه سيقوم بالتخدير، بدأ العمل وتحديقى إليه وتبادلى بعض الجمل بينما يداه منهكتان، يتناول علباً صغيرة وحقناً من سلة لونها أزرق، يستعيد وضعه الجاثم فوقه تقريباً، بعد شكة قوية فى العنق بدأ دفعه إلى الداخل، إذن.. هذه غرفة العمليات. لمح رجلاً يقبل مستنفراً، يوقفه بحزام جلدى سميك، كل الوجوه لا يعرفها، يتمكن من ملامح ذلك المجهول عنده قبل أن يروح إلى بعيد، فيما تلى ذلك من سنوات عرف غرفة العمليات عند استئصال البروستاتا ولكن المعنى عنده يروح إلى تلك المختصة بفتح الصدر وشق القلب. ها هو يدنو منها، لا يسأل عما سيفعلونه، ولا يستفسر عن غاية الدفع، الممر طويل تتفرع منه ممرات أخرى، أمام باب أبيض اللون يتوقف الممرض، يظهر طبيب التخدير، نائب الطبيب المصرى المتقاعد الآن والذى لازمه فى الجراحة الأولى، بالأمس صحبه إلى الطابق الذى تقع به غرف العمليات الست عشرة، مشى بطيئاً خلف صاحبه القديم، الممرات هادئة باردة، اللون الغالب أزرق فاتح، ثلاثة يقفون على مسافة بضعة أمتار، أحدهم يشير بالتحية إلى صديقه الذى قال هامساً إنه الدكتور ليتل الذى كنت أتمنى أن يجرى العملية، تدارك بسرعة: لكن الدكتور جوزيف بارع جداً، ليتل هو الأقدم، وجوزيف رئيس القسم كله، إنه العلم الحديث، صمت قليلاً وقال إنه سيوصى أن يكون دورنا الأول، فى الصباح الباكر، ثم قال إنه سيتحدث مع الدكتور ستارز، تمنى لو أنه قابل الدكتور جوزيف صاحب القرار النهائى، حتى الآن لا يعرف ما سيجرى بالضبط، ثمة عملية غداً لكن ماذا سيجرى خلالها؟ لا يعرف حتى الآن، يواتيه مشهد منذ أربعة عشر عاماً، عند مروره أمام باب ضخم يبدو أنه مزدوج، يفتح فجأة، تندفع طبيبة ترتدى الأزرق، ملابس العمليات فى خطوها السريع توتر ما، إلى أين؟ ما الذى يدعها جزعة هكذا، هل يتعلق الأمر بموقف دقيق طرأ هناك فى الداخل؟ طوال السنوات الماضية يستعيد الاندفاعة رغم ما مر به، الممرات فى المبنى الحالى تختلف، إنها شبكة مترامية، لا يعرف أولها أو آخرها، ما استعاده وقفة الثلاثة، اتكاءة الدكتور ليتل إلى الجدار، كانوا يتحدثون فى أمر ما، هل يخص العمليات؟ الدكتور ستارز من يجلس الآن مكان الطبيب المصرى الذى جاء من مصر فى الستينات وأصبح رئيساً لقسم التخدير، يقف كما وقف أمس، مطرقاً، هادئاً، لا يبدو على ملامحه أى انفعال، يمضغ شيئاً ما، ربما اللبان، غير أن حركات شفتيه مغايرة، هل سيبدو هكذا فى داخل الحجرة؟ يقترب منه، بهدوء يعالج أمراً، لا يشعر بأى وخز، يعمل فى الساقين، ثمة أنابيب تشد إلى الساقين بوثاق طبى، همس له الطبيب الشاب المرافق إن تحويل الدورة الدموية سيتم من هنا، ثم قال: كل شىء جاهز الآن، فى هذه اللحظة أدركه وخز البول، الرغبة فى إخراج ما تجمع فى مثانته، يمكنه الصمت، وإذا قدر له الإفاقة فليتم ما يريده الآن، لكنه لن يمضى هكذا، لا يدرى كم سيمر من وقت؟ لم يحدث ذلك فى المرة الأولى، إنها عادته التى تواتيه قبل النوم، إذا شعر بوجود نقطة واحدة لا بد أن يفارق الفراش إلى الحمام، وعند القلق يتكرر تردده، أثناء استدارة الممرض بالسرير الموثق إليه بحزامين عند الصدر وقرب الركبتين، خاطب المرافق متسائلاً عما إذا كان قد حدث من قبل أن طلب أحدهم التبول قبل الشروع؟ قال الشاب إنه لا يدرى ولكنه سيسأل الطبيب، قال مبتسماً إنه يريد التبول، أحدهم جاء بالزجاجة منحنية الفوهة، يتم استخدامها فى الفراش، تأكد من إفراغ مثانته تماماً، جفف عضوه، يتقدم المريض بالسرير إلى وسط الغرفة، يمضى عبر لونين، الأبيض والأزرق، يلمح آلة زرقاء، أغمق، تماماً.. هذه غرفة العمليات. عدم أُشهِدهُ واجهه قبل أن يشمله، مدفوع إليه منذ أن همس طبيب التخدير قائلاً إنه خلال دقيقتين سيرحل إلى السبات، الأزرق غالباً، معدات تتصل به، أنابيب، جهاز زجاجى التكوين، بللورى الحضور، ربما جهاز القلب الصناعى أو الرئة البديلة، يحاول التقاط كل التفاصيل، ربما تكون آخر المرئيات، لا يصحب ذلك أى انفعال طارئ مستجد عليه، كأنه اعتاد ذلك، باستمرار كان يرغب فى رؤية الحد بين الليل والنهار، عند الطيران، خاصة فوق البحر الأبيض، قرب الغروب، كان يرى القمة ناحية الشرق، الضوء الغسقى ناحية الغرب، هذا ليل وذاك نهار مول، لكن لكل منهما حضوره، إلى أن قدر له ما سعى إليه، بالضبط منذ حوالى عام وبضعة شهور، جرى ذلك فى مارس السنة المنقضية، هو الآن فى أغسطس، أقلع من سان فرانسيسكو ظهراً، لا تزال الألوان طازجة، خصبة، البحر والبر والزرع وما تجرد منها، فى منتصف المسافة إلى نيويورك والبالغة سبع ساعات بدأ اقتراب الليل، أدرك ذلك من وهن الضوء، واشتداد قتامة الغمام، ربما لوضعه، لتركيب الطائرة، كان يرى أكثر بالمواجهة، كأن يجلس فى المقدمة، هكذا مطّلع على الأفق، عنده لاحت القتامة، رأى الليل مقبلاً، بل تمكن من تحديد الخط الرهيف الفاصل، السحب الممتدة، المتصلة، ينعكس عليها ضوء المتعاقبين، تلك غيوم سوداء، الأخرى لم ينسحب منها ما تبقى من ضوء، مع اندفاع الطائرة صوب الأمام. صار الحد أوضح خاصة أنه مع الحركة يمضى صوب التلاشى، استقام ظهره، تركز تحديقه، يلملم أطراف الليل والنهار معاً، ما لم يعرفه من قبل لا فى البر ولا فى سائر النطاق، العتمة تطوى كل شىء، عندما أوغلت الطائرة واستحال التمييز تراجع فى مقعده، عاد إلى وضعه واجتاحه استرخاء نادر لعل ذلك الأقرب إلى ما يراه الآن. كثيراً ما ردد أن الوجود وعى، كثيراً ما تساءل عن إمكانية تحديد الخطوط الفاصلة عندما يشارف الحد النهائى، أول مرة غاب عنه ذلك، ربما انشغل بطبيب التخدير المصرى الذى أبدى عناية به وعاتبه لأنه لم يخبره بالموعد الجديد للعملية، ثم تقديمها يوماً كاملاً، الطبيب الذى أجراها هو رئيس المؤسسة كلها الآن. ثمة اختلاف، يعى انزلاقه، الحجرة التى بدت مستطيلة تتحور إلى ما يقرب من الأسطوانى، يدنو مدفوعاً بطاقة خفية لا يعرف مصدرها، تتوارى المرئيات التى حاول استيعابها، الآلات، الوجوه التى يتحرك أصحابها ليتخذ كل منهم مكانه الذى سيعمل منه عندما يبدأ تناوله، أول ما سيجرى بعد التأكد من التوصيلات وسائر الأمور الأخرى شق صدره، أحدهم همس له أن مصرياً يعمل ضمن الفريق المصاحب للجراح، اسمه.. اسمه.. اسمه تامر. ثمة معنى يلوح لكنه لا يرتبط بشىء محدد، لا صلة له بكل ما حدق إليه ما أبصره، ما اجتهد لاستيعابه، كأنه يمشى على مهل بجوار سور ما، ربما يحدد مساحة حديقة داخل أشجار معمرة، لا يعرف أين، ما من أين، ينتفى الأين، ومعه المواقيت كافة، يوشك أن يقترب من تلك القمة الغيومية، وأضعاف بعده وتدليه صوب ذلك المعتم، الغامض، كان افتراقه وتفرقه.