رفعت رشاد يكتب: الصعود الآسيوي ولعبة الهيمنة بين الشرق والغرب

رفعت رشاد يكتب: الصعود الآسيوي ولعبة الهيمنة بين الشرق والغرب

رفعت رشاد يكتب: الصعود الآسيوي ولعبة الهيمنة بين الشرق والغرب

منذ قرون تقاسمت أوروبا العالم، وبعد ظهور أمريكا على الساحة الدولية كقوة كبيرة شاركت في اقتسام كعكة الدول والشعوب والثروات، وفي مشهد بدا طويل الأمد بعد الحرب العالمية الثانية، دارت الحرب الباردة، ثم تفردت فيه أمريكا بقيادة العالم عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. لكن عجلة التاريخ لا تثبت على حال، وها هو الشرق الآسيوي ينهض من رماده، كطائر العنقاء، ليعيد توزيع الأوراق ويبعث المنافسة العالمية في كل الميادين: العلمية، الاقتصادية، الثقافية، والعسكرية. إنه صعود حضاري لا يشبه مجرد تنمية اقتصادية، بل مشروع شامل يعيد تشكيل ميزان القوى في العالم.

إن ما يحدث في آسيا، وبالأخص في الصين والهند وكوريا الجنوبية، هو انفجار علمي منظم. الصين تقود سباق الذكاء الاصطناعي، وتستثمر مئات المليارات في أبحاث الفضاء والتقنيات الكمية. الهند تحتل مكانة متقدمة في البرمجيات والأبحاث الطبية، وكوريا الجنوبية صارت مرجعًا في الإلكترونيات الدقيقة. لم يعد "الابتكار" حكرًا على الغرب، بل صار الشرق الآسيوي يصدر براءات اختراع ويتصدر مؤشرات البحث العلمي. إنها ثورة معرفية تُنذر بتغير مراكز الإشعاع العلمي عالميًا.

الاقتصاد الآسيوي لم يعد مجرد ورشة العالم، بل بات العقل الاقتصادي له. أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والهند تطرق أبواب المراكز الخمسة الأولى. التجارة العالمية تمر من موانئ آسيا، والتصنيع الدقيق يدار من عقول آسيوية. النموذج الاقتصادي الرأسمالي الآسيوي يدمج بين التخطيط المركزي وحرية السوق في توليفة فريدة، تُحاكي الليبرالية وتتفوق عليها أحيانًا في الفاعلية والتنفيذ.

لم تعد الثقافة الأمريكية وحدها التي تُشكّل وجدان الشعوب. من كوريا الجنوبية تنطلق موجة "الهاليو" لتغزو العالم بموسيقاها وأفلامها، بينما تصدر اليابان الأنيمي والمأكل والمزاج الفلسفي، وتستثمر الصين في نشر لغتها وتاريخها عبر معاهد "كونفوشيوس". في المقابل، تقدّم الهند نموذجًا في السينما الروحية والتقاليد الاجتماعية، وتدخل إلى عمق المجتمعات عبر قوة ناعمة جذابة ومستمرة. الشرق يتحدث لغته الآن… بل ويُصغي إليه العالم.

بينما ينشغل الغرب بحروبه بالوكالة، تصب آسيا جهودها في بناء قوتها الردعية. الصين تمتلك ثاني أكبر ميزانية دفاع في العالم، وتجري تحديثات شاملة على سلاحها البحري والفضائي. الهند تطوّر صناعاتها العسكرية بشكل متسارع، وكوريا الجنوبية باتت من كبار مصدري السلاح. حتى اليابان – رغم دستورها السلمي – بدأت تميل لتحديث جيشها تحت بند "الدفاع الذاتي الموسّع". السباق العسكري لا ينذر بحرب، بل بموازين ردع جديدة، قد تُنهي عهد الهيمنة المطلقة.

في قلب آسيا، يجري صراع خفيّ على النفوذ. من بحر الصين الجنوبي إلى حدود كشمير، ومن ميانمار إلى تايوان، يتشابك النفوذ الأمريكي والغربي مع الطموح الآسيوي الصاعد. وتدخل روسيا – بظلالها الأوراسية – على خط التنافس في كثير من الملفات، مما يجعل آسيا ساحة متعددة الأقطاب. التنافس هنا لا يتعلق بحدود، بل بنفوذ إقليمي، وتحالفات اقتصادية وأمنية ترسم خرائط جديدة للقوة.

مشروع "الحزام والطريق" الصيني ليس فقط شبكة تجارية، بل استراتيجية جيواقتصادية لربط آسيا بالعالم، وإنشاء كتلة أوراسية مستقلة عن الهيمنة الغربية. الصين تبني موانئ في أفريقيا وأوروبا، وتمول مشاريع البنية التحتية في أكثر من 60 دولة، بينما تطور الهند تحالفات بحرية جديدة لحماية طرق تجارتها. السيطرة على المضايق والموانئ والممرات المائية صارت لعبة القرن الجديد، حيث تمر المصالح من خلال الجغرافيا.

يعود صراع القوى الكبرى ليؤكد صحة نظريات مثل "ماكيندر" (قلب العالم)، و"سبيتزمان" (حافة الأرض)، و"نيكولاس شبمن" حول من يملك السيطرة على أوراسيا يملك السيطرة على العالم. فآسيا تمثل قلب الصراع الجيوسياسي، ومن ينجح في بسط نفوذه فيها، يهدد بإزاحة الغرب من على قمة النظام العالمي. كما تؤكد نظرية "الواقعية السياسية" أن التنافس أمر طبيعي في نظام دولي تحكمه المصلحة لا القيم، بينما ترد الليبرالية بأن التعاون هو السبيل الوحيد لتفادي الصدام.

كان النظام العالمي حتى الأمس القريب أحادي القطب، تقوده الولايات المتحدة وحدها، بقوتها العسكرية وعملتها ومؤسساتها. لكن التعددية القطبية باتت واقعًا، مع صعود الصين وروسيا والهند، وبروز تحالفات مثل "بريكس" و"شنغهاي". لم يعد بالإمكان فرض الإرادة الغربية على الجميع، بل صار هناك من يُفاوض ويُقايض ويُناور، بل ويضع شروطه. وقد تؤول الأمور في العقود المقبلة إلى نظام عالمي ثلاثي الزعامة: آسيا – أمريكا – أوروبا، في سباق متجدد على قيادة التاريخ.

إن صعود الشرق الآسيوي ليس مجرد تطور في ميزان القوى، بل تحوّل حضاري شامل يعيد ترتيب قواعد اللعبة. إنه صراع لا يخلو من حوار، ومنافسة لا تخلو من فرص تعاون. ولكن في المحصلة، لم يعد بالإمكان الحديث عن عالم غربي منفرد بالقرار. العالم يُعاد تشكيله، والسيطرة لم تعد تُكتسب فقط بالقوة، بل بالعلم والثقافة والنفوذ الاقتصادي. وربما تعود آسيا – كما كانت لقرون – قلب العالم النابض وصانع قراراته الكبرى.


مواضيع متعلقة