بدايات «بيل جيتس»: طفل رفض الفجوة بين الواقع والخيال

بدايات «بيل جيتس»: طفل رفض الفجوة بين الواقع والخيال

بدايات «بيل جيتس»: طفل رفض الفجوة بين الواقع والخيال

إعداد: يسرا زهران

ما الذى يدور فى عقل الطفل االذى يجلس وحيداً بصحبة كتاب؟ الذى يحيا فى عالمه الخاص، يرسم، ويحلم، ولا يهتم بما يهتم به غيره من الأطفال؟ هل هو طفل يتعمد تجاهل كلام والديه؟ هل يعانى من مشكلة ما؟

«بيل جيتس»، مؤسس شركة «مايكروسوفت» للبرمجيات التى صارت جزءاً من أساسيات عالمنا، عبقرى التكنولوجيا الذى حمل لسنوات طويلة لقب «أغنى رجل فى العالم»، كان طفلاً من هذا النوع. وفى مذكراته التى صدرت مؤخراً تحت اسم «شفرة المصدر» أو «الكود المصدرى: البدايات»، يفك «جيتس» شفرة الطفل الذى كان، ليصبح الرجل الذى تتجه أنظار العالم إليه، رغم أن نظرته هو إلى هذا العالم لم تكن أبداً مثل باقى الأطفال.

يحكى «بيل جيتس» عن طفولته قائلاً: «كان الوضع الطبيعى الدائم بالنسبة لى هو أن أجلس لأقرأ فى أى مكان أجد نفسى فيه. عندما كنت أقرأ، كان الوقت يمضى بسرعة. كنت أنفصل عن العالم، واعياً بشكل طفيف لوجود أسرتى وهى تتحرك فى الحياة من حولى، بأمى وهى تطلب منى إعداد مائدة الطعام، أو بأختى وهى تلعب مع أصدقائها، أما أنا، فكنت أحيا داخل رأسى، وراء باب غرفتى المغلق، أو فى المقعد الخلفى للسيارة، فى حفل شواء، كنت أختلس أى لحظة يمكن سرقتها للغوص بين دفتى كتاب، حيث يمكننى أن أكتشف وأتشرب معلومات جديدة بمفردى، دون مساعدة من أحد».

بيل جيتس

تلك العادة فى حب القراءة حظيت بدعم كل أفراد أسرة «بيل جيتس» فى صغره. يقول: «كانت جدتى، التى أعتبرها مثلى الأعلى فى القراءة الواعية، تدعم هذه العادة بكل قوة. وبعد المدرسة، كانت تأخذنى بسيارتها إلى مكتبة الحى فأملأها بمخزون جديد من الكتب التى سأقرأها خلال الأسبوع. وعندما كنت أعود لمنزل جدتى، كان مكانى المفضل فيه هو القبو (البدروم)، حيث كانت تحتفظ هناك بأعداد لا حصر لها من مجلة «لايف» الأمريكية التى ظلت تقرأها لعقود. وعندما أحضرنا كلبة أليفة لنربيها فى منزلنا، ذهبت إلى تلك المجلات. وفتشت فيها عن كل ما هو مكتوب عن الكلاب، وجمعت الصور والصفحات فى كتيب خاص بى. وبعد ذلك، أصبح أى واجب مدرسى عندى ينطلق من البحث فى أرشيف مجلات جدتى. منحنى تصفح هذه المجلات فرصة للتعمق فى كل شىء يثير اهتمامى، من الحروب إلى المشاهير والعلوم والأحداث الجارية، وحتى أمريكا والعالم من حولها».

ويتابع: «والواقع أن الكتب كانت هى الشىء الوحيد الذى لا يرفض والدىّ أبداً إنفاق المال عليه، وكانت موسوعة «وورلد بوك» الشهيرة بأجزائها العشرين أحد كنوز أسرتنا. فتحت تلك الموسوعة لى الباب للطبيعة والجغرافيا والعلوم والسياسة وكل معرفة بالعالم تقريباً. وعندما بلغت التاسعة من العمر، كنت قد قرأت كل أعداد الموسوعة من الألف إلى الياء».

تلك العادة من حب القراءة، والاكتشاف الذى ينبع منها، هو ما جعل «بيل جيتس» يطور مهارة أهم: مهارة السؤال والبحث عن الإجابة، شغف المعرفة الذى لا يتوقف عن حد. يقول: « من خلال القراءة، كنت أجد رداً على كل شىء، لكن بالطبع، كانت كل إجابة تفتح المجال لمزيد من التساؤلات، وكلما تعمقت أكثر، ازداد شوقك لأن تعرف أكثر. فى فترة شعرت بالاهتمام بحيوان البطريق وأصبحت أعرف كل شىء عنه. وفى فترة أخرى، جذبت الصواريخ والجسور اهتمامى، وأصبحت أرسم عشرات الصور لتصميماتى من الجسور والصواريخ. كلها كانت تبدو بالنسبة لى جميلة، لكنى فى لحظة ما، شعرت أنه مهما بدا شكلها جميلاً على الورق، فإننى لم أكن أملك أدنى فكرة عن الطريقة التى تعمل بها. كيف أصمم جسراً حقيقياً بحيث لا ينهار؟ وكيف أجعل الصاروخ ينطلق فعلاً فى الفضاء؟ بدأت أشعر بالضيق من هذه الفجوة التى تفصل بين خيالى والأمر الواقع على الأرض، ولم أحب فكرة أن تكون تصميماتى مجرد أفكار طفولية لن تتحقق أبداً».

ربما كانت هذه البدايات الأولى التى شعر فيها «بيل جيتس» كطفل بالرغبة فى ربط خياله بالواقع، أو ربط ما يدور فى رأسه بالواقع الذى يراه قائماً من حوله، هى ما فتح الباب أمامه فيما بعد لتصميم برامج الكمبيوتر التى تعد فعلياً هى الجسر الذى يربط ما يدور فى العقل الإنسانى بما يتم تنفيذه على الأرض، ليصبح «بيل جيتس» أحد الأسماء التى سترتبط بها إلى الأبد. لكن فى فترة طفولته، لم يكن الكل يرى فيه عبقرى البرمجيات الذى سيصبح عليه. كل ما كان يراه زملاؤه فى المدرسة هو طفل غريب الأطوار.

عن ذلك، يروى «بيل جيتس» فى مذكراته قائلاً: «بالنسبة للأطفال فى المدرسة من حولى، كانت أمور مثل قراءاتى الكثيرة، وكونى ذكياً، واهتمامى بما يقوله المدرسون تعتبر أموراً خاصة بالفتيات. هذا من ضمن الأحكام العامة المروعة التى يتم إطلاقها لكننى أدركت وأنا فى الصف الرابع تقريباً، أنه لم يكن «ظريفاً» أن أقرأ الموسوعات من باب التسلية، أو أن ألعب «كوتشينة» مع جدتى، أو أن أتحدث عن الكيفية التى تجعل الجسور لا تنهار. ولم يكن هناك فى برنامج القراءة الصيفى فى مكتبة مدرستنا غيرى أنا والفتيات. فى الفسحة، كان الأطفال الآخرون يلعبون بمضاربهم بينما أجلس أنا وحيداً. ظل الأطفال الأكبر يسخرون منى، والواقع أننى عندما أعود بذهنى إلى الوراء لا يمكننى القول إننى شعرت بالوحدة ولا بالألم، ما شعرت به أكثر من أى شىء كان نوعاً من الاستغراب: لماذا لا يرى الأطفال الأمور بالشكل الذى أراه؟».

ويتابع: «أعتقد أن أمى شعرت بنفس هذه الحالة من الاستغراب تجاهى. ربما كانت تفكر أن شقيقتى «كريستى» تنظف غرفتها وتسرح شعرها وتؤدى واجباتها المنزلية، وأن الأطفال الآخرين يحافظون على نظافة مكاتبهم ولا يعضعضون أقلامهم ويغلقون أزرار معاطفهم، فلماذا لا أفعل أنا ذلك؟ الواقع أننى لم أكن أقاوم فعل ذلك، كل ما فى الأمر أنه لا شىء مما سبق كان يعلق فى ذهنى. ربما كانت تنبيهات أمى تنتزعنى من عالمى الخاص للحظة قبل أن أعود للاستغراق فى الكتاب الذى أقرأه أو أى شىء كنت منهمكاً فى فعله. أنا واثق أن أمى كان عندها أمل أن أتغير وأصبح أكثر تحملاً للمسئولية بالشكل الذى تنتظره منى. لكننى لم أفعل، وبالنسبة لها، كان هذا أمراً يثير الجنون والقلق معاً».

ويصف «بيل جيتس» حال والدته معه قائلاً: «كانت أمى تمتلك قدرة طبيعية على التواصل مع الناس على المستوى العاطفى، وعندها براعة فى منح الأشخاص الأدوار التى تتناسب مع قدراتهم. لكن هذه الموهبة فى حالتى ذهبت هباء، إذ إن كل هذه الأمور كانت تبدو بالنسبة لى غير مهمة وإلى حد ما سطحية. إلا أن محاولات أمى لجعلى أكثر اجتماعية، كانت السبب وراء إلحاقى بالعديد من الأنشطة حتى التحقت أخيراً وأنا فى الثامنة من العمر بفريق الكشافة، وفيه تعلمت الانضباط والنظام». وفى فريق الكشافة، اكتشف «بيل جيتس» الشىء الوحيد الذى نجح فى معادلة حبه للقراءة، ألا وهو حب المنافسة.

يحكى مؤسس «مايكروسوفت» عن المهام التى كان يقوم بها مع فريق الكشافة، ومنها المنافسة السنوية فى بيع المكسرات والمحمصات، والتى يفوز فيها من يبيع أكبر قدر من أكياس المكسرات (وهو عدد ليس بالقليل) ثم يتم توجيه أرباحها لأنشطة فريق الكشافة فى العام التالى. يقول «بيل جيتس»: «كان هذا هو مصدر دخل أنشطتنا الوحيد، إلا أن هذا التحدى أثار فى داخلى أمراً آخر، هو حس التنافس. حددت لنفسى الأشياء التى سأختارها من لائحة الجوائز لو كنت أنا الرابح (مسدس مياه/كرة قدم/جهاز عرض شرائح يعمل بالبطارية) بالإضافة طبعاً للتفاخر بأننى صاحب أعلى المبيعات. صففت شعرى (أخيراً) وارتديت زى الكشافة المكوى وأصبحت أدور من منزل إلى منزل لأبيع المكسرات. كان من الصعب علىّ فى البداية أن أضع نفسى فى مواجهة الناس، لكننى بدأت أستريح للأمر بالتدريج، وأحببت إحساس الإنجاز الذى شعرت به مع كل كيس مكسرات أبيعه. وفى النهاية أصبحت من أكثر الفائزين بهذه المسابقة، ولم يغلبنى على ما أذكر إلا طفل آخر، جعل والده الحلاق يروج لأكياس المكسرات التى يبيعها لكل زبون يحلق له! ولم يبد هذا الأمر عادلاً أبداً بالنسبة لى!


مواضيع متعلقة