تس»؟ الحلقة الثالثة

تس»؟ الحلقة الثالثة
إذا كنت ترى أن مؤسس شركة «مايكروسوفت» للبرمجيات التي تمثل جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليوم، وصاحب واحدة من أكبر المؤسسات الخيرية والإنسانية في العالم، والرجل الذي يصنف كواحد من عباقرة القرن، والذي أضاف إلى عبقريته العقلية عبقرية في إدارة المال حتى جعل لقب «أغنى رجل في العالم» يقترن باسمه «بيل جيتس»، هو نموذج يستحق التعلم منه، فلا بد عليك إذن أن تقرأ مذكراته.
مذكرات مؤسس مايكروسوفت عن كشكول الرحلات وإبريق القهوة والصندوق الأزرق
اقرأها إذا كنت تريد إلقاء نظرة على الطريقة التي تربَّى بها، والأسس التي تشكلت عليها شخصيته، والأساليب التي اتبعتها والدته لتربيته وتنميته وصقل مهاراته المبكرة، ومداواة عيوب شخصيته الصعبة والمتطرفة في ذكائها، بطرق غير تقليدية لا بد أن يلجأ إليها كل من يتولى مهمة تربية طفل غير تقليدي، يملك قانونه الخاص في عقله، ولا ينسجم بسهولة مع قواعد المجتمع من حوله. يحلم كثيراً ويقرأ أكثر ولا يرضى إلا بأن يعلم نفسه بنفسه.
طفل يفكر ليفك شفرة الأشخاص والعالم من حوله، والأهم لكى يفك شفرة تكوينه ونفسه. ومن هنا جاء عنوان مذكرات «بيل جيتس» التي صدرت منذ أسابيع محققة مبيعات خيالية تحت اسم: «شفرة المصدر» أو «الكود المصدري»، كأن صاحبها يعود، في سنوات عمره التي شارفت على السبعين، إلى المصادر الأساسية والأولى التي شكلت وجدانه وعقله وطريقته في فهم الحياة.
وهل هناك «مصدر» أكثر تأثيراً في تشكيل سنوات الطفل الأولى من الأم؟
لعبة «الكشكول» جعلته يعطي لنفسه دروسا في الجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ والحساب
من يقرأ مذكرات عملاق التكنولوجيا حول طفولته، لا بد أن يخرج بانطباع أن والدة «بيل جيتس»، السيدة «مارى ماكسويل»، هى سيدة من طراز خاص. تنتمي إلى «الجيل الذهبي» من أمهات أمريكا في الخمسينات والستينات. الأمهات اللاتي كن يجمعن بين الاهتمام الشديد بالأسرة مع الاهتمام بأنشطة المجتمع. وكان ذلك المجتمع «أداة» لا تتردد والدة «جيتس» في توظيفها من أجل صقل شخصية طفلها الانطوائي، والعبقري، والعنيد.
يحكي «بيل جيتس» في مذكراته عن المراحل الأولى التي بدأ يتعامل فيها مع مجتمع البالغين، مجتمع «الكبار» من أصدقاء والديه والطريقة التى قدمته بها والدته إلى هذا العالم قائلاً: «كنت أشعر بأن الكبار دائماً هم أشخاص مشغولون، وعندما كان أصدقاء والدى يأتون لمنزلنا، كانت أمي تكلفني عادة أنا وأختي بمهمة نقوم بها مع الضيوف. وكانت مهمتي هي صب القهوة لضيوف والدى وهم يلعبون الورق، وكنت أشعر بالفخر بينما أمي تتابعني بالنظر وأنا أدور حول المائدة وأصب القهوة في الأكواب الخزفية بحرص شديد تماماً كما علَّمتني. هي ذكرى خاصة أعود إليها دائماً كلما أردت أن أشعر بحضور والدتى قريباً منى. وأذكر أن هذا الأمر كان يُشعرنى بالأهمية، بأننى جزء من عالم البالغين، وعنصر مهم فى أوقات تسليتهم».
كانت والدة «بيل جيتس» حريصة على تقديمه تدريجياً إلى عالم الكبار، وكانت مهمة بسيطة مثل صب القهوة للضيوف، تعلم طفلها ببساطة وعملية معنى تحمل مسئولية أمر ما. لكنها كانت تمتلك أسباباً أخرى لدفع ابنها للانفتاح على عالم أصدقاء العائلة: كانت تريد أن تداوى انطوائيته، أن تكسر داخله حاجز الرهبة من التعامل مع الآخرين. وكان أفضل مكان تحقق فيه هذا الهدف هو مصيف العائلة في منطقة «شيريو»، الذي يشاركهم فيه أصدقاؤهم من العائلات الأخرى.
في العالم ابتكرت ألعابا لتعالج انطوائية ابنها وتخرجه من كتبه وعالمه
ابتكرت والدة «جيتس» لعبة في ذلك المصيف يحكيها ابنها في مذكراته قائلاً: «بعد أسبوع من وصولنا إلى المصيف، كانت كل عائلة تكتب اسمها على ورقة وتضعها في صندوق أزرق، ثم يسحب كل طفل منا ورقة ما، ويكون عليه أن يذهب لتناول العشاء مع العائلة التي كانت من حظه، في الوقت الذي يتناول فيه أبناء هذه العائلة العشاء في منزل عائلة أخرى. كانت هذه فكرة أمي. والواقع أنني عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء، أجد أن هذا كان جزءاً من أسلوب تتبعه أمي من أجل دفعي بانتظام أنا وشقيقتي إلى مواقف نجد أنفسنا فيها مضطرين للتعامل والتواصل الاجتماعي، خاصة مع الكبار والبالغين. كانت أمي تنظر إلى أصدقاء العائلة على أنهم نماذج تحتذى، نوعية الأشخاص الذين تتمنى أن يصبح أطفالها مثلهم عندما يكبرون. كلهم درسوا في الجامعة، كلهم يملكون طموحاً كبيراً. الرجال يعملون في مناصب إدارية كبرى في شركات المالية والتأمين والصناعات، والنساء كن مثل أمي، يجمعن بين مسئوليات الأسرة والعمل المجتمعي. وبالنسبة لي، وأنا بعد في السابعة من عمري في ذلك الوقت، كان تناول العشاء في منزل عائلة أخرى يجعل من المستحيل بالنسبة لي أن أختفي بين صفحات كتاب أو أتلاشى في الألعاب والأعمال الخشبية كما كان يحلو لي أن أفعل، وهو ما جعل هذا الأمر شاقاً على نفسي. لكن بمرور الوقت، أثمرت طريقة أمي، وأصبحت أشعر بالراحة وسط هذه العائلات الأخرى تقريباً كما لو كنت وسط عائلتي الخاصة».
ربما كانت المصايف والرحلات والسفر بالنسبة للعديد من الأسر لا تعني أكثر من فرصة للترفيه والتسلية واللعب. إلا أن والدة «بيل جيتس» كانت تنظر إليها على أنها فرصة للتعلم، أو بتعبير «بيل» نفسه في مذكراته: «بالنسبة لأمي، فإن ألف ميل من القيادة على طريق ما تعني ألف فرصة لأبنائها كي يتعلموا».
والواقع أنها كانت تمتلك لذلك طريقة تربوية لطيفة ومبتكرة، لا تحتاج لأكثر من كشكول لكل طفل.
يحكي «بيل جيتس» في مذكراته على الرحلة التقليدية التي تجمع بين التعلم والتسلية على طريقة والدته عندما يسافرون بسيارتها، قائلاً: «قبل الرحلة، كانت أمي تجهز (دفتر سفر) لي ولأختي، وتخصص صفحتين لكل يوم من أيام رحلتنا كي نسجل فيهما ما نراه ونلاحظه. كانت تكتب لنا عناوين نسجل تحتها أسماء المدن أو المناطق التي نمر بها خلال رحلتنا بالسيارة، وعدد الأميال والمسافات التي نقطعها كل يوم، وتحتها، كانت تضع لنا عناوين لكي نملأ ما تحتها بالتفاصيل من نوعية: (الطقس/أشهر منتجات المنطقة/شكل الأرض/ توزيع السكان/المواقع التاريخية أو الأماكن المثيرة للاهتمام/منوعات..) وهكذا. ثم تترك فراغاً في نهاية الصفحتين لكي نكتب فيها بحرية وصفنا لما حدث في يوم السفر. وتأخذنا بنشاطها المعهود لزيارة أهم المعالم التي تشتهر بها كل منطقة في طريقنا».
وعلى ما يبدو، لم تكن والدة «بيل جيتس» ترغب في إضاعة لحظة واحدة لا تملأ فيها وقت أطفالها بالتعلم والمعرفة، حتى لو كانت منشغلة بالقيادة في السفر. يواصل ابنها في مذكراته: «عندما كانت أمي تقود السيارة ونحن مسافرون، كانت جدتي بجوارها تقرأ لنا من كتاب فيه معلومات مسلية، عن أشهر جياد السباق مثلاً وكيف حطمت الأرقام القياسية. وبينما كنا نستمع أنا وأختي لحكايات جدتي، كنا ننظر من نافذة السيارة لنسجل ملاحظات عقلية عن مشاهداتنا على الطريق: عن أنواع الأشجار وشكل آبار البترول وغيرها. وفي كل ليلة، كنت أنا وأختي ندوّن ملاحظاتنا عن اليوم بدقة، مدركين أن أمي سوف تراجعها في اليوم التالي لكي تصحح ما بها من أخطاء لغوية ونحوية بالقلم الأحمر».
هل كان لما تفعله والدة «بيل جيتس» فائدة ما؟. النتيجة تظهر كأوضح ما يكون من خلال كلمات ابنها في مذكراته: «في هذه التدوينات اليومية، كانت أمي تساعدنا على أن نعطي لأنفسنا دروساً في الجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ والاقتصاد والحساب. إلا أن الأهم، أنها كانت تُعلّمنا فن الانتباه من خلال حماستنا لملاحظة الأشياء من حولنا. وعندما كان أبي يلحق بنا في رحلتنا، كنا نهديه دفاترنا التي كتبنا فيها ملاحظاتنا عن رحلتنا، وحكايات جدتي على الطريق».